| 25 أبريل 2024 م

أزمـة النقــد فــى فكرنــا المعاصــر

  • | الأربعاء, 31 ديسمبر, 2014
أزمـة النقــد فــى فكرنــا المعاصــر

أزمـة النقــد فــى فكرنــا المعاصــر

مفهوم النقد(1) فى فكرنا المعاصر يعد من المفاهيم التى تتعرض يوميا لكثير من الظلم وإساءة الاستخدام فى مختلف المجالات بدرجة لم تعد خافية على أحد ولسنا نبالغ إذا قلنا إن النقد ــ وهو آلية ضرورية للتقويم فى جميع المجالات الحياتية ــ قد أصبح فى أزمة، بل فى محنة.
والنقد بصفة عامة يعنى اختبار شىء ما من جهة قيمته. ويعد النقد من المهام الأساسية التى مارستها الفلسفة على مر العصور، حيث تقع على عاتق الفيلسوف فى سعيه الدائب نحو المعرفة مهمة اختبار وسائلنا المعرفية حسية كانت أم عقلية، للتعرف على مدى قدرتها على التوصل إلى معارف حقيقية أم لا، وإلى أى مدى تصل قدراتها المعرفية، ومدى حدود المعرفة الإنسانية بصفة عامة.
ولا يقتصر هذا الاختبار والنقد على المجال النظرى فقط، بل يشمل المجال العملى أيضًا، وذلك ببحث الأسس والمعايير التى تحدد سلوك الإنسان. ويتضح من ذلك كله أن النقد يعد أداة ضرورية للتقويم المتواصل فى مختلف المجالات النظرية والعملية.
ولا شك فى أن هذا النقد الفلسفى لوسائلنا المعرفية ومناهجنا العقلية وقيمنا الأخلاقية من شأنه ــ إذا أحسن توظيفه ــ أن ينير الطريق أمام كل من يتصدى لممارسة النقد فى أى مجال آخر، وليس فى المجال الفلسفى فقط. ولعل أول درس يستخلصه الإنسان من ذلك كله هو أن الفكر الإنسانى فى مختلف مجالاته نسبى وقابل للأخذ والرد، ولنا هنا عبرة بما أثر عن الإمام الشافعى فى قوله: «رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرنا خطأ يحتمل الصواب».
ومن ناحية أخرى فإن هناك أمرًا مهما يعد من البديهيات التى لا يجوز أن تغيب عن الأذهان وهو ضرورة امتلاك من يمارس النقد فى أى مجال من المجالات للأدوات الضرورية للنقد، وأن يقتصر نقده على المجال الذى يحسنه، وأن تكون معرفته للموضوع الذى يتعرض لنقده معرفة شاملة وعميقة، وأن يدرك أن النقد لا يعنى مجرد إظهار السلبيات، وإنما يهتم بنفس القدر بإظهار الإيجابيات.
 وهذا هو شأن الناقد الذى يحترم نفسه ويحترم عقول الآخرين. ومن هنا يكون لنقده معنى وقيمة، ويعد إسهاما إيجابيا للتصويب والتقويم من أجل الوصول إلى بناء الحياة على نحو سليم. وهذا النقد مطلوب، بل هو ضرورى من أجل التعاون على الوصول بمجتمعنا إلى ما نريده له من تقدم ورقى فى مختلف المجالات، فالنقد على هذا النحو يعد تفاعلا إيجابيا مع ما هو مطروح من آراء وتصورات أو خطط ومشرعات أو ما شاكل ذلك.
ومن هنا يجب أن يقابل بالتجاوب المطلوب من الجانب الآخر، فقد تخفى بعض الجوانب على صاحب الرأى أو العمل فيأتى النقد ليقوّم أو يضيف. فالتفاعل هنا يعد إضافة ضرورية إما لتصويب الفكرة أو للإضافة إليها، وهذه قضية فى غاية الأهمية. فالأمر إذن ليس حربا بين الجانبين، ولا يجوز لصاحب الرأى الذى يخضع للنقد أن تأخذه العزة بالإثم. فكلنا خطاؤون، وكلنا يستفيد من الآخر، وفى النهاية يكمل بعضنا بعضا من أجل تحقيق الأهداف المشتركة التى تسهم فى تطوير المجتمع وتطوير الأداء فيه فى جميع المجالات. ومن المأثور عن عمر بن الخطاب فى هذا الصدد قوله «رحم الله امرءًا أهدى إلى عيوبى»، كما أثر عنه أيضًا قوله: «رحم الله امرءًا عرف قدر نفسه»(2).
وغنى عن البيان أن نشير إلى أن هناك ارتباطا وثيقا بين النقد وحركة الحياة فالنقد لا يحدث فى فراغ وإنما ينبغى أن يتفاعل مع نبض الحياة فى المجتمع، وإلا فإنه يعزل نفسه ويصبح مثل صرخة فى واد أو نفخة فى رماد لا أثر لها ولا تأثير. وهذا يعنى أن كل جهد نقدى ينبغى أن يضع فى اعتباره أولوية أولى تتمثل فى الإسهام الإيجابى فى تقدم المجتمع والارتقاء به دون أن يتنازل فى الوقت نفسه عن القواعد العلمية التى تحكم حركة النقد.
ولكننا عندما نتأمل واقع النقد فى حياتنا المعاصرة على مختلف المستويات فإننا نجد صورة أخرى مختلفة تماما عما ينبغى أن يكون. فهناك كثيرون لا يفرقون بين النقد الموضوعى والهجوم والتجريح الشخصى لصاحب الرأى أو الفكرة، كما أن هناك من يتصدى للنقد بنظرة متعالية معتقدا أنه وحده الذى يفهم ويدرك الصواب والخطأ، وأن هؤلاء الذين يقوم بنقدهم لا يفهمون ولا يدركون، وإذا كانوا فى موقع المسئولية فإنهم ليسوا أهلا لها.
وهناك من يسىء إلى مفهوم النقد متعللا بحرية التعبير التى يجب أن تكون مكفولة للجميع. وليس هناك فى حقيقة الأمر خلاف على حماية حق حرية التعبير، فهو حق من حقوق الإنسان الذي لا يجوز المساس به. ولكن إساءة استخدام هذا الحق هو الأمر المرفوض. فحرية التعبير لا يجوز أن تتحول إلى حرية الإهانة للآخرين والافتراء عليهم كذبا وبهتانا. فإذا كان النقد يتحرى البحث عن الحقيقة فإن هناك من يتحرى البحث عن الإثارة وتصيد الأخطاء وافتعال المعارك دون مراعاة لحقوق الآخرين وكرامتهم. وكم من الجرائم ترتكب باسم حرية التعبير..!
ومن هنا فإننا فى حاجة ماسة إلى تحديد المفاهيم وضبط الحدود بين ما هو حق مشروع وما هو اعتداء على حقوق الآخرين، فالإنسان لا يعيش وحده يتصرف كما يحلو له وإنما يعيش مع الآخرين الذين لهم ذات الحقوق. وإذا كانت القاعدة العامة أنه «لا ضرر ولا ضرار»(3)، فإن تعاملنا مع الآخرين ينبغى أن يكون قائمًا على أساس من الاحترام المتبادل.
وإذا كنت أحرص كل الحرص على الحفاظ على حقوقى فاننى مطالب بنفس القدر بالحفاظ على حقوق الآخرين والدفاع عنها. وهذا هو شأن كل مجتمع متحضر تصان فيه الحقوق وتحترم فيه الحريات لجميع المواطنين على السواء.
والخروج عن الموضوعية فى النقد واللجوء إلى الهدم فى كل شىء مادى أو معنوى أمر سهل لا يحتاج إلى عبقريات، وإنما الأمر الصعب هو النقد الموضوعى المبنى على أسس متينة، والذى لا يقدر عليه إلا أصحاب العقول الراجحة. وقد أصبح مثل هذا النقد ــ للأسف الشديد ــ عمله نادرة. ومن هنا دخل ميدان النقد كل من هب ودب، وأصبح الأمر كلأ مباحا لمن يعرف ومن لا يعرف،. وقد فتح ذلك الباب واسعا أمام انتشار التفكير اللاعقلى.
والمقابل للتفكير النقدى هو التقليد والتسليم دون نقاش أو حتى مجرد سؤال، الأمر الذى يعنى تعطيل العقل وإلغاء التفكير، فالفرق بين الموقفين إذن كالفرق بين النقيضين، فالأول إيجابى والثانى سلبى، والأول يؤكد الشخصية الإنسانية والثانى يلغيها ويمحو معالمها.
وإذا كان الله قد خلق الناس مختلفين، على الرغم من اتفاقهم فى الجوهر، فإنه قد أراد أن يكون لكل فرد شخصيته المستقلة التى تميزه عن غيره. وقد أكد لنا الخالق ذلك بما نشاهده ونعلمه من عدم وجود فردين فى هذا العالم يتفقان فى بصمة إبهمامهما، الأمر الذى يرمز إلى إستقلالية كل فرد، والمطلوب هو أن ننمى هذه الاستقلالية لا أن نعمل على إلغائها، وذلك لن يكون إلا بتشجيع ممارسة التفكير النقدى.
والمفروض أن مصطلح التفكير نفسه يتضمن أو ينبغى أن يتضمن مفهوم النقد، فالذى يمارس التفكير هو إنسان يستخدم عقله، وهذا يعنى أنه إنسان إيجابى، والنقد هو تفاعل مع الفكر الآخر، وممارسة التفكير النقدى من شأنها أن تجعل للحياة معنى لأنها تثرى فكر المجتمع وتدفع به قدما إلى الأمام، وتحافظ فى الوقت نفسه على قيمه وهويته الحضارية.
ولا شك فى أن العقلية النقدية ليست منغلقة على نفسها، وإنما هى عقلية متفتحة لا ترفض شيئا لمجرد الرفض أو لأنه آت من جانب جهات لا تريد لنا الخير. فالرفض أو القبول لديها ينبنى على أسس ومبادئ، ولا يأتى عشوائيا، بل يكون بعد الدراسة والبحث والتقييم الموضوعى. وقد كان الفيلسوف العظيم ابن رشد خير نموذج لهذه العقلية النقدية المتفتحة. فقد قرر ــ كما سبق أن أشرنا فى موضع آخر ــ أن الاطلاع على ما لدى الآخرين يعد واجبا شرعيا، ثم أضاف قائلا: «ننظر فى الذى قالوه من ذلك وما أثبتوه فى كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم».
ومن هنا تأتى ضرورة تعليم أبنائنا وبناتنا التفكير النقدى حتى يكونوا قادرين على التمييز بين الخير والشر والصواب والخطأ، وبذلك نوفر لهم الحماية من الانسياق وراء دعاوى التطرف والجمود والانغلاق أو أى دعاوى أخرى هدامة ترمى إلى محو هويتهم الحضارية، فواقع الحال يبين لنا أن طريقة التعليم التقليدية التى تعتمد على مجرد الحفظ والتلقين لا تنتج لنا إلا أناسا من أصحاب الشخصيات الباهتة التى لا لون لها ولا طعم، أى تنتج لنا شخصيات متواكلة واستسلامية.
أما التفكير النقدى فإنه ينتج شخصيات فعالة لها رأى ولها فكر ولها نظرة فاحصة فى الأمور. وهذا يعنى إثراء المجتمع بأعضاء عاملين يدفعون بعجلة الحياة إلى الأمام وينهضون بمجتمعهم على جميع المستويات. والتوصل إلى هذا المستوى يتطلب بطبيعة الحال تغييرا فى المناهج الدراسية وفى أساليب التدريس.
وهناك أمثلة رائدة فى استخدام التفكير النقدى فى تاريخ العلوم الإسلامية فعندما وجد العلماء المسلمون فى وقت مبكر من التاريخ الإسلامى انتشار مئات الآلاف من الأحاديث المنسوبة إلى النبى عليه الصلاة والسلام انبرى عدد منهم للقيام بمهمة نقدية بالغة الأهمية لتمييز الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الضعيفة أو الكاذبة.
ومن خلال هذا المثال وغيره من أمثلة أخرى فى مجالات العلوم المختلفة يتضح لنا أن التفكير النقدى كان وراء تطور العلوم والفنون فى الحضارة الإسلامية. والشىء نفسه نجده لدى الأمم الأخرى. فقد كان التفكير النقدى وراء انتشار وازدهار التفكير الفلسفى والعلمى فى مختلف الحضارات، وكان وراء كل إنجاز حققته الأمم والشعوب فى مجالات الابتكار والإبداع على جميع المستويات، ويمكن القول بصفة عامة بأن التطوير والتجديد فى أى مجال من مجالات حياتنا يأتى نتيجة طبيعية لممارسة التفكير النقدى.
وهناك أناس لا يطيقون النقد، بل يرفضونه تماما ويستمرئون التقليد والاتباع، ولا يريدون لأحد أن يوقظهم من غفلتهم أو غفوتهم. فهم سعداء بها، وهذه النوعية من الناس لا يمكن الاعتماد عليها فى النهوض بالمجتمع، بل هى بالأحرى تعد فريسة سهلة لحشو عقولها (الفارغة) بأفكار هدامة تجعل منها عوامل هدم للمجتمع، كما هو حادث بالفعل فى الكثير من بلادنا الإسلامية.
ومجالات النقد كثيرة ومتنوعة وتشمل جميع مجالات الحياة. فقد يكون النقد موجها إلى أوضاع المجتمع أو إلى أى مجال من المجالات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الدينية أوغيرها من مجالات ملتصقة تمام الالتصاق بحياة الناس وحاجتهم اليومية أو العامة، وقد يكون النقد موجها إلى الأعمال العلمية أو الفنية أو غيرها. وكل ذلك مطلوب بطبيعة الحال لإظهار الحقائق أمام الناس. وهذه الممارسة للنقد على كل هذه المستويات تعنى حيوية المجتمع وتفاعله مع الأحداث والأفكار.
وهناك لون آخر من ألوان النقد لا يقل فى أهميته عن الألوان المشار إليها. بل ربما يمكن القول بأنه يمهد لها حتى يمكن أن تسير فى الطريق الصحيح، ونعنى بذلك النقد الذاتى الذى يعد الخطوة الأولى على الطريق الصحيح. فهناك البعض من الناس لديه هواية النقد لكل شىء. وفى غمرة ذلك كله ينسى أن يوجه النقد لنفسه أولا. ولو فعل ذلك فسيكون أمرا ايجابيا يساعده على تصحيح مسار حياته وتصحيح أفكاره وتوجهاته، ويصبح بالتالى قادرا على الإسهام بشكل إيجابى فى تطوير المجتمع.
وأى أمة تريد أن تتقدم وترتقى فى سلم التحضر لابد لها من تشجيع التفكير النقدى على جميع المستويات فإن ذلك من شأنه أن يحرك المياه الراكدة ويوقظ العقول التى تم تخديرها بشكل أو بآخر فأصبحت عاجزة عن التفكير بصفة عامة والتفكير النقدى بصفة خاصة. وبممارسة التفكير النقدى نستطيع أن نغير ثقافة المجتمع ونبعث فيه الحيوية والطموح والانطلاق إلى آفاق التقدم، وهذا ما تحتاجه أمتنا وما تمليه علينا مسئوليتنا.

طباعة
كلمات دالة:
Rate this article:
4.0

الأكثر اطلاعا خلال شهر

مقاصد صيام شهر رمضان في الإسلام

مقاصد صيام شهر رمضان في الإسلام

 أ.د. محمد عباس عبدالرحمن المغني

العشر الأواخر من رمضان

العشر الأواخر من رمضان

 أ.د. أحمد عمر هاشم

شهر رمضان في تجارب شعراء الأمة

شهر رمضان في تجارب شعراء الأمة

 أ.د. على عبد الوهاب

رمضان.. وضرورة تحقيق التكافل المجتمعي

رمضان.. وضرورة تحقيق التكافل المجتمعي

 د. محروس رمضان

تأملات حول الصيام وشهر القرآن

تأملات حول الصيام وشهر القرآن

 أ. د. محمد فتحي فرج

رمضان في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية

رمضان في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية

 د. سليمان جادو شعيب

من بلاغة آيات الحج والعمرة في القرآن الكريم

من بلاغة آيات الحج والعمرة في القرآن الكريم

 أ.د. سلامة جمعة داود

دوحة الشعر.. ضراعات الشعراء في شهر المناجاة والدعاء

دوحة الشعر.. ضراعات الشعراء في شهر المناجاة والدعاء

 أ.د/ صابر عبد الدايم يونس

مؤتمر ( علوم الفلك والآثار )

مؤتمر ( علوم الفلك والآثار )

 إشراف: د. حسن خليل / تغطية خالد عبادة

حماية الأنساب وصيانة الأعراض

حماية الأنساب وصيانة الأعراض

 أ.د. عبد الفتاح العواري

ركن الواعظات

ركن الواعظات

 الإشراف العام أ.د. إلهام محمد شاهين

استفتاءات القراء

استفتاءات القراء

 إعداد / لجنة الفتوي بالأزهر الشريف

أنباء الأزهر

أنباء الأزهر

 إعداد: أ. مصطفى وهبة

المسلمون حول العالم

المسلمون حول العالم

 إعداد: أ. أحمد رضوان

ركن الوافدين

ركن الوافدين

 الإشراف العام أ.د. نهلة الصعيدى

بين المجلة والقارئ

بين المجلة والقارئ

 إعداد: أ. محمد جمعة

12

بحث حسب التاريخ

العدد الحالي

فهرس العدد

من أغلفة المجلة

حقوق الملكية 2024 مجلة الأزهر - الأزهر الشريف
تصميم وإدارة: بوابة الأزهر الإلكترونية | Azhar.eg