مبادئ الإصلاح التربوي في فكر الإمام النورسي وإمكانية الإفادة منها في إصلاح المؤسسات التربوية في العالم الإسلامي
عاشرًا: التعلم من الطبيعة
يدعو الإمام النورسي إلى التعلم من الطبيعة، واستنباط الحكمة من كتاب الكون (كتاب الله المنظور)، وهو بذلك ينمي في العقل السياحة الفكرية الخيالية في بديع صنع الله، ومن ثمَّ ترسيخ قدرة الله وعظمته ووحدانيته في وجدان المتعلم.
د/ أحمـد علي سليمـان
عضو المكتب الفني بالهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد
يقول النورسي - رحمه الله-: «هذا الكتاب الكبير للكون الذي يُكتب في صحيفة واحدة منه -وهي سطح الأرض- ويُكتب في ملزمة واحدة منه -وهي الربيع- ثلاث مئة ألف نوع من الكتب المختلفة، وهي طوائف الحيوانات وأجناس النباتات كل منها بمثابة كتاب.. يُكتب كل ذلك معا، وهي متداخلة بعضها ببعض دون اختلاط، ولا خطأ، ولا نسيان، وفي منتهى الانتظام والكمال، بل يُكتب في كل كلمة منه - كالشجرة- قصيدة كاملة رائعة، وفي كل نقطة منه -كالبذرة- فهرس كتاب كامل. وإن هذا مُشاهَد وماثل أمامنا، ويُرينا بالتأكيد وراءه قلمًا سيَّالًا يسطر. فلكم أن تقدروا مدى دلالة كتاب الكون الكبير العظيم الذي في كل كلمة منه معان جمة وحِكم شتى، ومدى دلالة هذا الكتاب الأكبر المجسم -وهو العَالَم- إلى بارئه –سبحانه- وإلى قائله جلَّ وعلا، وهكذا فإن كل علم من العلوم الكثيرة جدًّا، يدل على خالق الكون ذي الجلال، ويعرّفه لنا سبحانه بأسمائه الحسنى، ويعلّمه إيانا بصفاته الجليلة وكمالاته العظيمة. وذلك بما يملك من مقاييس واسعة، ومرايا خاصة، وعيون حادة باصرة، ونظرات ذات عبرة»(1).
ولا شك أن النورسي -رحمه الله- وهو يدعو إلى التعليم الخِبري Executive Learning والنمو الروحي والمهارات العملية للحياة، قد سبق التربويين العالميين إلى ذلك، فالنظريات التربوية الحديثة التي يتغنى بها الغرب والشرق تؤكد على التعليم المباشر من الحياة.
يقول (دونالد ويلترز Donald wiltres): يصبح كل متعلم وفقًا لهذه الطريقة التي ترتبط بالحياة بصورة مباشرة، ناضجًا فاعلا متسقًا وسعيدًا، ذلك أن الذين يتعلمون طبقًا لذلك يكونون أفضل الأشخاص فيما بعد؛ لأن التعليم يبقى إلى الأبد، ويصبح الآباء الذين يتعلم أبناؤهم طبقًا لذلك، ينظرون دائمًا للتميز الأكاديمي، وأيضًا يريدون من أبنائهم أن يمارسوا خبرة التعليم عمليًّا ويستفيدوا بها(2).
ويؤكد دونالد ويلترز، أيضا على أن التربية يجب أن تكون تجريبية، ويجب ألا تقتصر على الجانب التنظيري فقط. ويُرجع الضعف الرئيس للتربية الحديثة بأنها كانت تركز وبطريقة أساسية وأولية على الجانب النظري Theoretical، بعيدة عن التأثيرات العملية Practical effects للنظرية نفسها(3).
ومع أهمية ما سبق إلا أنه في الوقت نفسه لا يقلل من أنماط التعلم الأخرى، حيث يؤكد على أهمية كل نمط من أنماط التعلم بداية من الحفظ إلى المهارات الفنية والعملية، مرورًا بالتمكن مما هو أكاديمي. كما أن علماء التربية الحديث في الوقت نفسه يُبدون اهتمامًا كبيرًا بضرورة تنمية ما يسمونه بالوظائف العملية (الخبرات الحياتية العملية المباشرة) Practical direct life experience.(4) كما يرى النورسي أن المفتاح الأساس للتعلم يكمن في بناء القدرة على اتخاذ قرارات مفيدة في العالم الحقيقي الواقعي من الخبرة العملية.
حادي عشر: ضرب الأمثال واستخدام الوسائل التوضيحية المتاحة
يركز النورسي في رؤيته التربوية الإصلاحية على ضرب الأمثال، مستلهما ما جاء في القرآن الكريم؛ لتقريب الصورة إلى عقول المتعلمين ونفوسهم. ويؤكد على أهمية ضرب الأمثال في العملية التعليمية بقوله: «فبمنظار ضرب الأمثال قد أُظهرَتْ الحقائق البعيدة جدًّا أنها قريبة جدًّا، وبوحدة الموضوع في ضرب الأمثال قد جُمِّعَتْ أكثر المسائل تشتتًا وتفرقًا، وبِسُلّم ضرب الأمثال قد تُوصِل إلى أسمى الحقائق وأعلاها بسهولة ويُسر، ومن نافذة ضرب الأمثال قد حُصّل اليقين الإيماني بحقائق الغيب وأسس الإسلام مما يقرب من الشهود. فاضطر الخيال إلى الاستسلام وأُرغم الوهم والعقل إلى الرضوخ، بل النفس والهوى. كما اضطر الشيطان إلى إلقاء السلاح»(5).
وهكذا فإن نظرية ضرب الأمثال التي دعا إليها الإمام النورسي -رحمه الله- والتي استلهمها من القرآن الكريم، تسهم في استدعاء المشهد عند المتعلم، وتسهم في القضاء على الهُوّة بين النظرية والتطبيق، وترسخ الأبعاد المعرفية لدى المتلقي؛ لتظل وثيقة حاضرة في نفس المتلقي؛ فمن المعلوم عند علماء التربية والإعلام وغيرهم أن الصورة في التعلم، تكون أبقى أثرًا في الذاكرة من الكلام والنصوص، وأشد وقعًا وتأثيرًا على المشاعر والوجدان، وأسعف وأسرع في الاستدعاء.. والصورة في الصحافة أيضا تساوي ألف كلمة.. وهكذا فإن إعمال العديد من الحواس لدى المتلقي يجعله في حالة ترقب؛ مما يجعل التعلم أكثر تشويقا ومناسبًا لمختلف المستويات الثقافية والاجتماعية. وهكذا فمن الحكمة أن نستخدم كل ما يعين على الفهم، وما يزيد في البيان، فلا نكتفي بحاسة واحدة هي حاسة السمع، فليشترك البصر، وإعمال الفكر، وغيرها في الاستعداد الكامل للتلقي والتفاعل، حتى يتأكد موضوع الوضوح والتأثير في الخطاب التربوي.. والله -عز وجل- لم يرسل رسولًا إلا بلسان قومه،
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
(إبراهيم:4)
فلابد إذن أن يفهموه، بشتى الوسائل التي من شأنها تحقيق هذا الهدف.. وتأكيدًا على هذه المعاني فقد لفت الله تعالى أنظارَنا إلى التأمل والتدبر بشتى حواسنا في كتاب الله المنظور (الكون) بما يحويه من مشاهد، ودلائل القدرة الإلهية، وآيات كونية تدل على قدرته وعظمته لتظل حاضرة في كينونة المسلم. ومن أجل ذلك استخدم النبي ﷺ الوسائل التوضيحية المتاحة في عصره وهو يُعَلِّم أصحابَهُ: فتارة يراه الصحابة وهو يمسك عودًا ويخط خطًا مستقيما على الأرض، ثم يخط خطوطًا متعرجةً، ويقول لأصحابه: أتدرون ما هذه الخطوط، فيقولون: الله ورسوله أعلم. فيقول: الخط الأول هو طريق الله تعالى، أما الخطوط المتعرجة فهي طرق الشيطان. وتارة ثانية يشير بإصبعيه السبابة والوسطى وهو يقول: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار -بإصبعيه- السبابة والوسطى، وفرَّج بينهما شيئا»(البخاري) في إشارة واضحة منه ﷺ أن من يكفل اليتيم سيكون قريبا منه في الجنة. وتارة ثالثة يراه الصحابة الكرام، وقد أخذ ﷺ ذهبًا بيمينه، وحريرًا بشماله، وقال: «هذان حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها»(مسند أحمد) وتارة رابعة يُعلم أصحابه المنهج العلمي في كيفية الرفق بالحيوان -وهذه دعوة محسوسة- عندما كان يأكل تمرًا بيمينه، ويضع النوى في يساره ويعلف به ناضحه -أي الكبش- ويمسح على رأسه رحمة به، ويُعلم أصحابه ذلك وتارة خامسة ينـزل ﷺ من على المنبر؛ ليحمل الحسن والحسين رحمة بهما، وليعلم المسلمين فضيلة الرفق.
كما ركز الإمام النورسي على كل وسائل التربية المتاحة لتوصيل المضامين المعرفية ومنها التربية بتفريغ الطاقة وبالوعظ وبالقصة بأنواعها وبالقدوة الشاخصة.
ثاني عشر: التركيز على التربية النسوية ومراعاة خصوصيتها
اعتبر النورسي -رحمه الله- النساء مخلوقات طيبة مباركة، ونعى على التربية الغريبة أو المتغربة التي لم تر في المرأة سوى هيكلها المادي وجمالها الحسي، متجاهلة الاهتمام بتجميل روحها وهندسة خَلقها وترقية شعورها وتأصيل إبداعها الفكري والأدبي والعلمي والفني. وحذر من الجهات الخفية التي تخطط لدفع المرأة إلى مساقط الرذيلة(6).
ويحذر المرأة من مغبة السقوط، فيقول: «فما دام كلُّ جميل يحب جماله، ويحاول جهده المحافظة عليه، ولا يريد أن يُمَسّ بسوء.. وما دام الجمال نعمة مهداة، والنعمة إن حَمدت الله تعالى عليها زادت، وإن قوبلت بالنكران تغيّرت.. فلا شك أن المرأة المالكة لرشدها ستهرب بشدة وبكل ما لديها من قوة من أن تجعل جمالها وسيلة لكسب الخطايا والذنوب وسوق الآخرين عليها.. وستفر حتمًا من أن تجعل جمالها يتحول إلى قبح دميم وجمال منحوس مسموم.. وستنهزم بلا شك من أن تجعل بالنكران تلك النعمة المهداة مدار عذاب وعقاب. لذا ينبغي للمرأة الحسناء استعمال جمالها على الوجه المشروع؛ ليظل ذلك الجمال الفاني خالدًا دائمًا بدلًا من جمال لا يدوم سوى عدة سنين، فتكون عندئذ قد أدت شكر تلك النعمة. وإلاّ ستتجرع الآلام والعذاب في وقت شيخوختها، وستبكي وتندب على نفسها يائسة نادمة لشدة ما ترى من استثقال الآخرين لها وإعراضهم عنها. أما إذا زُين ذلك الجمال بزينة آداب القرآن الكريم وروعي الرعاية اللائقة ضمن نطاق التربية الإسلامية، فسيظل ذلك الجمال الفاني باقيًا –معنىً- وستمنح المرأة جمالًا هو أجمل وأبهى وأحلى من جمال الحور العين في الجنة الخالدة كما هو ثابت في الحديث الشريف. فلئن كانت لتلك المرأة مسكة من عقل، فلن تدع هذه النتيجة الباهرة الخالدة قطعًا أن تضيع منها»(7).. كما أكد على ضرورة تربية الطفل تربية إسلامية صحيحة.
كما قدم النورسي كثيرًا من المبادئ والأسس التربوية الإصلاحية الأخرى، ومنها: تجريد الخطاب التربوي من المقاصد الدنيوية ليغدو أكثر فعالية، وتقوية البصيرة الأخلاقية، وتكوين الحس النقدي لدى الطالب، ودعوته إلى الحضور الفكري الفاعل أثناء التلقي، ووضع نموذج النبي ﷺ أمام المتعلمين ليكون نبراسا للاقتداء به -عليه الصلاة والسلام-، وغيرها من الأصول التربوية التي تحتاج إلى دراسات متعددة لعرضها.
طرق الإفادة من مبادئه التربوية في إصلاح المؤسسات التعليمية والتربوية في العالم الإسلامي:
وبعد أن عرض البحث مبادئ الإصلاح التربوي عند الإمام النورسي، فإننا نستطيع أن نؤكد أننا أمام منجم أفكار تربوية إصلاحية، قابلة للتطبيق، ويجب أن نستفيد منها في إصلاح المؤسسات التعليمية والتربوية في العالم الإسلامي.
ويمكن إجمال طرق الاستفادة من رؤاه التربوية على النحو التالي:
• تربية النشء على الإيمان، وخاصة في البيوت، حيث قال: «اجعلوا بيوتكم مدرسة نورية مصغرة، وموضع تلقي العلم والعرفان، كي يتربى الأولاد على الإيمان».
• صلاح الزوجين عامل قوي في صلاح الأولاد، فقد كان النورسي يوجه طالبات النور إلى اختيار الزوج الصالح الذي تربى تربية صالحة.
• ضرورة تركيز المؤسسات التربوية على الأم؛ لأنها أستاذ التربية والتعليم الأولى، حيث قال: «إن أول أستاذ الإنسان وأكثر من يؤثر فيه تعليما هو والدته».
• ترسيخ المؤسسات التربوية لقيمة الإخلاص في وجدان المتعلمين، حيث يقول «إن الإخلاص ألزم شيء، وأهم أساس في التربية».
• اهتمام المؤسسات التربوية بتربية المرأة وتعليمها، ويذكر هنا: «أن العلاج الناجع لإنقاذ سعادة النساء من الإفساد، ليس إلا في تربيتهن تربية دينية».
• التدرج في التربية والتعليم حسب مراحل العمر؛ لأن لكل مرحلة ما يناسبها من الطرق التربوية، وقد أشار إلى ذلك بقوله: «فكما تتحول الألبسة في الفصول الأربعة، تتحول طُرُز (أنواع) التربية والتعليم في طبقات عُمر الشخص...».
• حسن اختيار المؤسسات التربوية للمنهج التربوي والتعليمي، حيث يؤكد على المربي (المعلم) بأن يختار من العلوم أسلمها وأصلحها، ويسلك من الطرق أيسرها وأنفعها؛ حتى يسهل على المربَّى (المتعلم) تقبلها ويشعر بفائدتها.
• عدم استخدام أسلوب الترهيب والتخويف في التربية والتعليم، حيث يكون تأثيرها جزئيا وسطحيا ومؤقتا، ويسد طريق المحاكمة العقلية.
• ضرورة اهتمام المؤسسات التربوية بالكيف لا بالكم، حيث إن اختيار نوعية العلم أولى وأهم من الاهتمام بكثرته.
• كثرة الاطلاع والقراء، حين قال: «أما حب الاستطلاع فهو أستاذ العلم»؛ لأنه وسيلة قوية للتحصيل العلمي.
• تسمية المدارس بأحسن الأسماء، والتي لها معنى جميل أو تذكير بمعاني طيّبة.
• الجمع بين العلوم الكونية الحديثة والعلوم الدينية تدريسًا، لما لها من تأثير عظيم في تمييز الصالح من الطالح، ولتخليص المحاكمة الذهنية (العقلية) من ظلمات الأوهام والخرافة.
• انتقاء المدرسين وانتخابهم مِنْ مَنْ حظي بالجمع بين العلوم الكونية الحديثة والعلوم الدينية.
• مراعاة مؤسسات التربية والتعليم لاستعدادات المتلقين ومستوياتهم العُمْرية والعاطفية والعقلية والمعرفية.
• تقسيم أعمال التعلّم (فتح التخصصات)؛ لأنّ الطريق الرئيس لإنتاج المهرة في شعبة من شُعَب التعلم، هو التركيز على التخصص.
• العدل بين المتعلمين في مختلف مؤسسات التربية والتعليم.
• إنشاء مؤسسة لتكوين (المعلِّمين) وتدريبهم بصورة منهجية مستمرة، لهذا ينصح النورسي باتخاذ دار المعلمين ركيزة للتكوين (تكوين المعلمين)، أي تدريبهم وتأهيلهم(8).
• ضرورة الرفق بالمتعلم، واستصلاح وإصلاح القلوب وتربيتها على المحبة لا الانتقام وشفاء الغليل، وذلك ضرورة لكي يقبل الطالب على التعلم بحب ورغبة ونشاط، وكان النورسي كثيرا ما يردد، «لا تتشددوا، أوغلوا برفق، الناس ليسوا سواسية في المشارب...».
• التدرج في إصلاح المؤسسات التربوية، حيث كان النورسي يؤمن (بالنظام)، ويبعد (الفوضى) ويؤمن (بالتدرج) ولا يعتقد (بالطفرة)؛ فالنظام والتدرج هما أساس الوجود كله، وأي خروج عليهما يعني إدخال الفساد عليه، فالتغيّر التدريجي ضرورة، حتى لا يختلّ توازن الحياة، فيؤدي إلى نتائج عكسية.
وبعد.. فهل تكون هذه المبادئ نبراسًا لنا في قضية تعليم وتكوين الناشئة، ونحن نواجه تكتلات بين أجناس شتى، لغاتها ليست واحدة ومذاهبها ليست واحدة وأجناسها ليست واحدة؟، وهل تكون أمتنا آخر أمم الأرض سماعًا للنصح، واستجابة لنداء المصالح، وتلبية لأمر الله بوحدة المسلمين، ونبذ أسباب التفرقة والعنصرية؟ خاصة ونحن نواجه تحديات تستهدف الدين والهوية والمستقبل والمصير. وبالله تعالى التوفيق..
وفي النهاية، تبقى رؤية النورسي كنموذج ومثال لمتطلبات التجديد في القرن الواحد والعشرين، وهي رؤية تجمع بين الوعي والإدراك لحقائق الوحي الشريف المعصوم، وبين متطلبات الحياة المدنية من مُنجَزات العلم الحديث فلا تقع في الشراك الخادعة ولا ينطلي عليها البريق المزيف، وإنما تأخذ من مدنية الغرب أشياءها وتستفيد بما أنجزته دون أن تفقد هُويتها وأصالتها، ودون أن تتأثر بموجات المسخ والتشويه التي عادة ما تصحب الاستفادة من مبتكرات العلم ومنجزات الحضارة.
وهكذا يلتمس النورسي من أنوار التوحيد خيوطًا مضيئة، تكشف طريق الحق وتيسر سبل الهداية للسالكين، وترسم أمام المربين ملامح منهج فريد في التربية والتعليم، يمزج بين جمال الصنعة ودقة الصانع، ويضع القسمات المشرقة لنوع من التربية لا يترك مجالًا من المجالات إلا ويوظف كل ما فيه لخدمة خط التوحيد كأساس ومنطلق للتربية والتعليم وصياغة الإنسان. وتلك نقلة فكرية وحضارية في آن معًا، تُربط في تناسق فريد من المنظومة الكونية والمنظومة الإنسانية وبين مفرداتها لتبدو الذات أو الأنا ضئيلة ضعيفة عاجزة تسلم لخالقها وصانعها ومبدعها، فَتُسَلِّم بالركون إليه والاستسلام في كنفه من سلبيات التمركز حول الذات، والتمركز حول الهوية، وبذلك تَسْلم في عقلها ووجدانها من الشذوذ في الفكر والعلة في السلوك.
وهكذا يعيش العظماء ويَحْيُون رغم الممات، ويَخْلُدون رغم تحلل الأجساد، وإذا كان الأموات الذين لا يسمعون في مجتمعات المسلمين يحاولون قتل الأحياء والقضاء على فكرهم الفوار بالحيوية والحركة، إلا أن الأفكار المستمدة من كلمات الله تستعصي على الفناء؛ وسيبقى سعيد النورسي تسعد بكلماته الأجيال، وتستضيء بفكره الأمة، فتستمد منه طهارة النفس من الإثم، وطهارة العقل من الخرافة، وطهارة القلب مما سوى الله(9).
وهكذا يظل بديع الزمان سعيد النورسي (رحمه الله) واحدا ممن يعتز بهم التاريخ الإسلامي.
وبالله تعالى التوفيق
(1) بديع الزمان سعيد النورسي: كليات رسائل النور (4) الشعاعات، الشعاع الحادي عشر، ص: 260
(2)J. Donald Walters. Education for life: Preparing children to meet the challenges. Nevada, USA: Crystal Clarity, publishers, 1997, pp. 7,8
(3) J.Donald Walters, op.cit, p. 10
(4) Renata Nummela Caine. Brain / Mind Learning Principles in action: Developing executive functions of the Human brain. Thousands Oaks, CA: Corwin Press. 2009, p. 9
(5) راجع: بديع الزمان سعيد النورسي: سيرة ذاتية، ص: 243، بديع الزمان سعيد النورسي: المكتوبات، المكتوب الثامن والعشرون، ص:487.
(6) محمد رشدي عبيد: ملامح تربوية في رسائل النور، ص 94.
(7) بديع الزمان سعيد النورسي: كليات رسائل النور (2) اللمعات، الطبعة الثانية، إعداد وترجمة: إحسان قاسم الصالحي، القاهرة: شركة سوزلر للنشر، 1413هـ/ 1993م، اللمعة الرابعة والعشرون، ص: 306.
(8) عبد المهيمن الديرشوي: التربية والتعليم في فكر بديع الزمان (سعيد النورسي)، تاريخ الاطلاع على الوثيقة 21/3/ 2016م.
(9) الدكتور إبراهيم أبو محمد (مرجع سابق) ص 22 وما بعدها.