10 فبراير, 2020

إشكاليّة الرأي وقائله

إشكاليّة الرأي وقائله

   فرق كبير بين من يُقلد رأياً لقناعته به ، وبين من يتعصب لرأي لمجرد إعجابه بشخص قائله ؛ حيث أظهر الأول معنى التجرد الفكري وقيمة العقل البشري ؛ وأنبت الأخير في الثقافة الإسلامية والعربية مذهباً يقوم على عبارات المدح والثناء وتمجيد الأشخاص .

   كتبٌ ورسائل سُطرت وما زالت تسطر لمجرد الحديث عن الأمجاد الشخصية لشيوخ المذاهب والأفكار والأحزاب : نشأتهم, علمهم، زهدهم , شيوخهم... والمشكلة ليست في هذا ، إنما المشكلة في كثرة الحديث عن الأشخاص لا عن أفكارهم وإسهاماتهم العلمية والحضارية ، حتى أصبح المجد للقائل لا لرأيه وقوله وفكره ، والنقد للمفكر لا لعلمه ومذهبه !! حتى انتهى بنا الأمر إلى اتباع الأشخاص لا الأفكار والآراء !! رغم أن أصل الاتباع والتقليد أو حتى النقد إنما يكون للرأي لا لقائله ، ومن المؤسف أن كثيرا من المتصدرين للعمل العام الدعوي والعاملين في مجال البحث العلمي وبصورة خاصة البحث الشرعي يسجلون الإعجاب بالآراء لمجرد انتسابها إلى فلان ، وفلان فحسب ؛ فهو العالم العلامة الحَبر الفهامة سلطان العلماء وختام النبلاء ، إلى غير ذلك من الألقاب المنتشرة في تراثنا وبين أروقتنا !! هذا الأمر الذي كان له ما له من مخاطر يلحظها ويفهمها من له حظ من النظر .

  إن الناظر في القرآن الكريم يجد أنه اتسم بمنهجية مناقشة الأفكار لا قائليها ، حتى عندما ينتقد فإنه ينتقد الأفكار لا قائليها ، ثم يُعطي مساحة لأصحاب الفكر أو الرأي الآخر للدفاع عن فكرهم وآرائهم _ ولو كانت بعيدة عن الصواب_ تأمل قوله تعالى : " وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ "  فالتركيز هنا ينصب على البرهان لا على قائله ، وتأمل كذلك قوله سبحانه : " قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا " ؟ أما غير ذلك فيعد  منهجا أعمى ، وسبيلا موتورا ، موسوما  بالردة الفكرية والرجوع إلى عقلية " وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ " هذا الأمر الذي رفضه القرآن وعابه " أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ " ولم تكن هذه الصورة الوحيدة التى تأخذ صاحبها نحو مزالق الردة الفكرية ، بل هناك صورة الرفض للحقائق والمبادئ لمجرد أن قائلها هو فلان ، وما خبر ملأ نوح _صلى الله عليه وسلم _عنا ببعيد " مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا " وما شأن قريش مع نبينا محمد _ صلى الله عليه وسلم _ عنا ببعيد " وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا " لقد كان المانع من اتباع الحق لدى هؤلاء _ وغيرهم من الأمم الغابرة وبعض النماذج المعاصرة _ هو شخص القائل دون النظر إلى ما يحمل من خير وحق وجمال

    ولقد أفرزت لنا هذه الإشكالية في حياتنا المعاصرة  نوعاً من التضييق على الناس وبعداً عن المنهج الشرعي الوسطي , حيث يقف الشيخ المقلد في النوازل المعاصرة حائراً بين الخروج عن أقوال شيوخه المقدسة وبين مراعاة مصالح الناس المتجددة , ثم ينتهي به الأمر والطواف والسعي برمي الناس بجمرات التخويف والتحذير من مخالفة الشيوخ ، حتى كاد أن يحسب أقوالهم من الشعائر وصيانتها من تقوى القلوب !! هذا الأمر وهؤلاء الناس هم السبب في كثير من المشاكل التي تعج بها مجتمعاتنا , وما سيل الفتاوى الضالة المتدفقة على الناس من بعض وسائل الإعلام  عنا بغريب ، وما خطرها عنا ببعيد. والله المستعان.

  د.عابد حسن مُحمد عبدالجواد

عدد المشاهدة (6958)/التعليقات (0)

كلمات دالة: