16 فبراير, 2020

في رحاب القرآن الكريم.. سورة الماعون (١)

في رحاب القرآن الكريم.. سورة الماعون (١)

يتجدد بنا اللقاء مع كتاب الله تعالى- وموعدنا اليوم مع سورة من السور المكيَّة التي عُنيت بالحديث عن الإيمان باليوم الآخر، واشتملت -رغم قِصَرِ آياتها- على أمورٍ عظام وفضائل جسام، سلكت في بيانها أسلوب الوعد والوعيد، والزجر والتهديد، والحث على فعل الخيرات، والمسارعة إلى فعل الحسنات، من كفالة اليتيم، وإطعام المساكين، وغيرها من أعمال الطاعات.

إنها سورة «الماعون» تلك السورة الكريمة التي تدعو إلى إخلاص العبادة لله ربِّ العالمين، وتؤصل لمبدأ التكافل والتراحم بين الناس أجمعين، وتُعلِّمُنا أن لليتيم والمسكين علينا حقًّا  يتمثَّل في رعايتهما وكفالتهما والاهتمام بشئونهما، وبذل العطاء لهما، إلى غير ذلك من وجو ه الخير والبر.

يقول ربنا- تبارك وتعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)﴾.

لقد بدأت السورة الكريمة بالهمزة المستعملة في الاستفهام، وهو قطعًا استفهام مستعمل في غير حقيقته، فليس المراد بهذا الاستفهام سؤالنا عن مجرد النظر والرؤية، بل  الغرض من  ذلك تشويق السامع، ولفت انتباهه  إلى ما سيأتي من إجابةٍ على هذا السؤال.

كما أنَّ في هذا الأسلوب تعجيبًا من حال الذي يكذِّب بيوم القيامة، وما فيه من  البعث والحساب والجزاء، حتى أوقعه تكذيبه بذلك اليوم  في سوء الصنيع، من ظلم اليتيم، وعدم الحضِّ على طعام المسكين.

والخطاب للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولكل من يصلح له.

 وبعد سَوْقِ الكلام في أسلوب الاستفهام جاء الجواب عنه، في قوله تعالى: ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ ومن بلاغة الأسلوب القرآني  مجيء اسم الإشارة واسم الموصول بعد الفاء؛ لزيادة التشويق، وجذب الانتباه حتى تقرع الصفةُ سمعَ السامع فتتمكن منه گمَال تَمكنُّ، حيث قال: ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾

ولم يقل: أرأيت الذي يكذب بالدين فيدع اليتيم.

وبيّنت الآية الكريمة أن  زجر اليتيم وتعنيفه وأكل ماله، وعدم أداء حقه إليه، كل هذا من صفات من يُكذِّب بالدِّين، وكأنَّه في مأمنٍ من عذاب الله لإنكاره الحساب والجزاء، ولذلك يعيش في الدنيا عبدًا  لرغباته وهواه، أما من يؤمن بالله وباليوم الآخر، وما فيه من بعثٍ وحسابٍ وجنة ونار، فلا يتأتى منه هذا الفعل الشنيع؛ لكونه يخشى عذاب الله ويرجو رحمته.

فيا له من وصفٍ، وما أبلغه من أسلوبٍ في مقام التخويف والزجر، فكان هذا رادعًا وزاجرًا ومحذرًا لكل من تسول له نفسه إلحاق الضرر باليتيم سواء كان الضرر حسيًّا بأكل ماله أو ضربه، أو معنويًا  بنهره وقهره والاستهزاء به.

وقد جاء قوله تعالى: { يَدُعُّ } بصيغة المضارع التي تفيد التجدد والاستمرار؛ لإفادة تكرار الفعل منه،  واستمراره عليه ودوامه على قهر اليتيم، وظلمه.

وإذا كان  قهر اليتيم وظلمه  ذنبًا عظيمًا وإثمًا كبيرًا يترتب عليه هذا الجزاء،  فإنَّ إهمال الأبناء من قبل آبائهم وأمهاتهم،  وعدم القيام على تربيتهم لا يقلُّ إثمًا عن إثم قاهر اليتيم وظالمه، فإننا نرى  اليوم أطفالًا يحيون حياة اليتم لا لفقدهم أبًا أو أمًّا، ولكن لفقدهم القدوة التي تأخذ بأيديهم إلى بر الأمان، وتُربِّيهم تربية إسلامية صحيحة.

وهناك من الأطفال من يعيشون حالة من الفقد واليتم وعدم التوازن النفسي نتيجة الانفصال بين الآباء  والأمهات، وهذا يُحتِّم  عليهم مزيدًا من التفكر قبل اتخاذ مثل هذه القرارات التي تؤثر - في المقام الأول- على الأبناء، حيث يفقدون مصدر الرعاية والاهتمام، ويقوم على تربيتهم غير آبائهم فيشعرون باليتم!

وحسبُنا من الحضِّ على رعاية اليتيم والاهتمام به ما أمرنا الله تعالى- به، وما وصانا به النبي -صلى الله عليه وسلم-  من رعايته  والإحسان إليه، فعن أبى هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم قال: «خيرُ بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيم يُحسن إليه، وشرُّ بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيم يُساء إليه، أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا». [ أخرجه البخاري في الأدب المفرد ، حديث رقم: 137].

وتستمر الآيات الكريمة  لتقرِّر أن الإيمان بيوم القيامة بكل ما فيه من حساب وميزان وصراط وجنة ونار، واستحضار عظمة هذا اليوم في النفس هو السبيل لكل خيرٍ،  فهو يغرس في النفس الإقبال على الله تعالى بالأعمال الصالحة، ويقف حاجزًا  بينها وبين ما نهى الله، حتى يصير ذلك سجية لها، فتنساق إلى الخير بدون كلفة أو مشقة، وذلك حين تنعى فعلةً شنيعةً يقوم بها هذا الذي لم تستقر في قلبه حقيقة الإيمان فيقول تعالى: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } أيْ: لا يحثُّ غيره على أن يطعم الفقراء والمساكين، أو أن يتصدق عليهم.

وللقارئ الكريم أن يقف هنا وقفة مع قوله تعالى: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ }، إذ  لم تأت الآية بلفظ «ولا يطعم»، وإنما جاءت بلفظ :{ وَلَا يَحُضُّ} إشارة إلى أن من اتصف بهذه الصفة قد بلغ من البخل مبلغًا عظيمًا، فهو لا يُطعم المحتاجين، و لا يأمر غيره بذلك، وفيه هذا من التشنيع ما فيه.

أما  المؤمن الحقُّ فالإنفاق على المساكين سجية من سجاياه، ولا يقف عند هذا الحدِّ، بل يحثُّ غيره على الإنفاق ، وعلى إطعام الفقراء.

وقد أبرزت الآيات صفتين من أقبح ما يتصف به الذي يكذب بالبعث والحساب والجزاء.

الأولى: أنه يدَعُّ اليتيم، أيْ: يقسو عليه، ويزجره زجرًا عنيفًا، ويمنعه حقه.

والثانية: أنه لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ، أيْ: لا يحث أهله وغيرهم من الأغنياء على بذل الطعام للبائس المسكين، وذلك لشُحِّه الشديد، واستيلاء الشيطان عليه، وانطماس بصيرته عن كل خير.

وفي هذه الآية والتي قبلها دلالة واضحة على أن هذا الإنسان المكذب بالدين قد بلغ النهاية في السوء والقبح، فهو لقسوة قلبه لا يعطف على يتيم، بل يحتقره ويمنع عنه كل خير، وهو لخبث نفسه لا يفعل الخير، ولا يحض غيره على فعله، بل يحض على الشرور والآثام، وهذا يوجب على المؤمن أن يجتنب هاتين الصفتين، وأن يبتعد عنهما، وأن يكون سعيه الدائم في نفع الناس وحثهم على الخير.

وبهذا ترسِّخ سورة «الماعون»  لمبدأ من أهم المبادئ الإسلامية وهو مبدأ  التكافل والتراحم بين فئات المجتمع.

وللحديث بقية مع سورة الماعون نستعرض فيه ما ينبغي أن تكون عليه علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بمن حوله وما وضعه الله من أسس ومبادئ تنظم هذه العلاقات.

كل هذا نتناوله في اللقاء القادم.

أسماء أحمد عوض الله، منطقة وعظ دمياط

عدد المشاهدة (7000)/التعليقات (0)

كلمات دالة: منطقة وعظ دمياط