18 فبراير, 2020

بين عقلين حي وميت

بين عقلين حي وميت

العقل نعمة من نعم الله تعالى الكبرى على الإنسان ، فبها فضل علي سائر الكائنات، وكان من حق هذه النعمة أن يقوم الإنسان بشكرها  وذلك بوضعها في مكانتها الصحيحة، وقد حث الإسلام على ذلك، فأمر في أكثر من آية بالنظر والاعتبار.

وقرأ علماء الإسلام هذه الآيات، وعلموا أن هناك انبعاثا جديدا ينطلق لبناء عالم يتصف بالمعرفة وله إطاره الفريد، وعلموا كذلك أنه بالنظر ترتقى العقول، وبالتنقيب تكمل الملكة، والقران الكريم علمهم أنه لو كشف الغطاء وجعل ما في الوجود ضروريا؛ لضاعت ثمرة العقل العليا، ولاستوى الناس جميعا، ولكن ظهرت الحكمة الإلهية ففاوت المولى  سبحانه _ بين العقول، وأرسل رسلا مبشرين ومنذرين؛ ليأخذوا الناس إلى الصراط المستقيم، وجعل لهؤلاء الرسل أتباعا أخذوا من هديهم وتعلموا شرائعهم وعلموها الناس، ولم يكن هذا الأمر مرسلا أو  غير ممنهج،لأنه لو كان كذلك لفسد المقصود من الرسالات، ولخفيت _ أيضا حكمة المولى_ تبارك وتعالى ولنسب إليه جلَّ شأنه العبث، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، والرسالات السماوية لم تكن عامة عدا رسالة واحدة هي الرسالة المحمدية، صلوات الله وتسليماته على صاحبها البشير النذير، ولم تكن هذه الرسالة  عامة فقط ؛ بل خاتمة الرسالات، ويضاف إلي ذلك كون المبعوث رحمة للعالمين ، وعندما ينتقل إلي الرفيق الأعلى، سوف يتبادر للأذهان أن الصلة بين الوحي والإنسان قد تنقطع، ولكن يأتي النصُّ المحكم " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " [التوبة:122] لينبه على أن هناك فئة خصت بفهم أحكام الدين وتعليمه للناس، والواجب عليها أن تبذل قصارى جهدها وكل ما أوتيت من وسائل؛ لتَفْهَمَ وتُفْهِم ،وهذا هو الاجتهاد الذي يجعل العقل حيا رطبا ؛ ولكن هذا الاجتهاد له منهج علمي محكوم حتى لا تهلك الأمة ، وهذا الاجتهاد يحتاج أيضا _ إلى نفوس صافية لا تتبع المتشابه ولا تنزع إلى هواها، وتفتقر في كل لحظة إلى توفيق الحق وهدايته .

ففي حديث العباس_ رضي الله عنه_ : "لم يمت رسول الله_ صلى الله عليه وسلم_ حتى ترككم على طريق ناهجة" وقد توارث علماء الأمة هذا المنهج تلقيا من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابهرضي الله عنهم خلفا عن سلف إلى أن نضج هذا المنهج على أيدي علماء الأزهر الشريف .

ويقرر الشهرستاني بأن أصول الاجتهاد متلقاة من الصحابة ومن سار على نهجهم  المستقيم.

وفائدة هذا المنهج هي ضبط المسار المعرفي، فهو طريق يوصل إلى هدف معلوم، وليس هذا المنهج وسيلة لاحتكار فكري أو كهنوتية كما ينعق البعض ؛  حتى لا يتصدر للأمر غير أهله فيقع الناس في عشوائية وتخبط .

وقد ذكر السيوطي : أن إمام الحرمين خرج بعض من انتسبوا إلي العلم  للقائه، وابتدروه بامتحان في أسئلة أعدوها له مسبقا ، فلما استشعر ذلك منهم قال لهم: ما الفرق بين الضُحى، والضَّحى ؟ فلم يكن منهم من يعرف ذلك، فقال لهم: إذا كان هذا مقامكم في هذه المسألة فما خطأكم بدقائق العلوم؟

ولذا فالمنهج ضابط ، والاجتهاد مطلوب دائما طالما كانت الإنسانية موجودة، وها هوشيخ الأزهر الشريف الأسبق العلامة محمد الخضر حسين يقول: "ودعوى غلق باب الاجتهاد دعوى لا تسمع إلا بدليل تنسخ الأدلة التي انفتح بها أولًا"

ومع ذلك وجدت عقول يابسة  لم تنهل من معين هذا المنهج، فأخذت تجمع في داخلها كل ما قيل من غير مماحصة أو تنقيب  فرددت ما قيل أن الأمة الإسلامية أغلقت باب الاجتهاد،  واتهمت_هذه العقول المتحجرة _ الأزهر الشريف بأنه الداعي إلى هذا ،وكل هذا كلام خطابي لا دليل عليه ولا برهان.

وأكبر ما يستندون عليه هو أن الأزهر الشريف يدرس الفقه القديم الذي لا يواكب العصر، وقائل هذه الشبهة لم يدرس نظرية المعرفة، ومبدأ بنائية العلوم، فالدارس للجديد لا بد له أن يضطلع بالقديم، ويفتش فيه ويسبر أغواره، فبناء العلوم بعضها على بعض، واستفادة المتأخر ممن تقدمه قانون يصدق على جميع العلوم، فمثلا: برع المصريون الأوائل في الهندسة والجبر وعنهم أخذ اليونانيون، فلم يقفوا على ما سبقهم، بل طوروا واستفاد المسلمون من هذه الجهود عن طريق مبدأ الاقتراض العلمي الرشيد، وبعد عناء ومكابدة شديدة مع المعرفة أسس الخوارزمي علم الجبر، وعنه نقل الأوربيون وأضافوا إليه، واكتشف ديكارت الهندسة التحليلية، والأمر كذلك في سائر العلوم حيث نبني على جهود من سبقونا.

والأزهر الشريف يعلم هذا بطريقة ورثها وطور فيها وقد  تكلم عنها  الخوارزمي_ العالم الكبير_  حيث ورثها عمن سبقه وطور فيها ، وهي تقوم على قراءة العقول بأن تأخذ النص الذي أمامك وتدرسه وتبحث في حواشيه ما بين اعتراض وتوجيه أو تصحيح، فتقبل منه ما يتماشي مع الحقيقة العلمية وترد ما تراه ضعيفا ، لا عن هوى نفسك بل بما تقره الحقيقة العلمية ،وهذا مما يجعل العقل حيًّا رطبا  لا يابس متحجر.

وأود ان أعرج على أمر ما ، وهو أن أصحاب هذه الدعاوى لم ينظروا في مناهج الأزهر الشريف التي تعلم الاجتهاد، ولا أقدر على تعليم الاجتهاد من القرآن الكريم نفسه، فبأي وجه يتهمون الأزهر الشريف، وما تأسيس هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية  إلا لتأسيس اجتهاد جماعي يقوم على رد كل أمر للمتخصصين فيه ، فالطبيب الذي يفني عمره ليتعلم كيف يعالج ما يظهر من أمراض يقف مع عالم الأدوية وعالم الدين جنبا إلى جنب، وكل منهم له تخصصه وكل منهم يكمل الآخر. فلا يفتي الطبيب في قضايا الشرع ولا يفتي الفقيه في قضايا الطب، وإن احتاج الأمر إلى كليهما تكاتفا واجتهدا لكي يحققا للأمة النهضة المطلوبة.

وحاصل ما ذكر أننا أمام عقلين : عقل حي  وعقل  ميت.

أما العقل الحي_في أي تخصص  _ فهو الذي يقرأ ليسبر أغوار الفكر، وحينما يقرأ في كتب العلماء المتقدمين فإنه يفعل ذلك ليعرف كيف فكر هؤلاء الأكابر ويبني على ما سلف مع إدراكه للواقع ومآلات الأمور، حيث يضع هدفا أمامه فهو يقرأ ليعرف كيف صنع علماؤنا المعرفة ، وهذا من أشرف ما يكون، ولا حياة للعقل ولا للأمة إلا به، وهو ما يحتاج إلى صبر ومصابرة يكون لها مستعدا لفهم العلم المقدم عليه من منهج وكتاب وأستاذ وبيئة علمية وعقل فطن .

أما العقل الميت فهو على النقيض من ذلك ، حيث يقرأ صاحبه لتحصيل المسائل، ويدخل على العلم قبل معرفة المنهج فتمل نفسه  ويقرأ قراءة الوسنان فلا يحصل شيئا، وليس هذا فحسب؛ بل ينزل المطلق منزلة النسبي والعكس، أو يحدث عنده ما يسمى بالطفولة المعرفية من حب الانتقاد والاستعراض.

وما خرج التطرف إلا من هذا العقل القابع في كهف الغفلة .

فاللهم أخرجنا من سدف الجهالة إلى نور اليقين. 

الكاتب / الواعظ عبد العزيز معروف

عدد المشاهدة (3748)/التعليقات (0)

كلمات دالة: