لقد أكدت الشريعة بشقيها _ القرآن والسنة_ على أهمية السلامة الجسدية والصحة النفسية ؛ حيث جعل النبي - صلى الله عليه وسلم- عافية البدن وسلامته بمثابة امتلاك الدنيا وحيازتها ، فقال : " مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا " (رواه الترمذي وابن حبان )
ولذلك تعددت وسائل تحصيل العافية البدنية والنفسية ؛ هذه الوسائل التي اتسمت ببساطة التكليف ويسر التنفيذ؛ فلا كلفةَ ماديةً ولا جهدَ مرهقا ، ومن نظر_ بتجرد_ في مجموعة من الأوامر الشرعية التي تؤكد على هذا المعنى ؛ يتضح له الكثير من مظاهر الجمال التشريعي ، ومن ذلك أن سنن الفطرة التي سنها النبي
- صلى الله عليه وسلم - ما هي إلا مجموعة من خصال وسمات النظافة الشخصية ، قال
- صلى الله عليه وسلم -: " الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط" ( متفق عليه ) .
ولا يخفى علي أحد ما في المحافظة على هذه الخصال من تحصيل للثواب ووقاية للجسد مما قد يؤثر إيجابيا على سلامته ، بل إن الشريعة قد بينت الآداب المطلوبة عند قضاء الحاجة ؛ لا سيما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن الاستنجاء باليد اليمنى فقال :" إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه، ولا يستنجي بيمينه" ( صحيح البخاري )
وفي هذا الحديث بيان لنوع من الوقاية الصحية للإنسان من الأمراض المعدية.
وكذلك نبه النبي_ صلى الله عليه وسلم_ على مادة النظافة، بحيث يكون الاستنجاء بالماء أو الاستجمار بالحجارة ثلاثاً ؛ وهو ما رواه
عبد الله بن مسعود _ رضي الله عنه_ عندما قال: " أَتَى النبيُّ _صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ_ الغَائِطَ فأمَرَنِي أنْ آتِيَهُ بثَلَاثَةِ أحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، والتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أجِدْهُ، فأخَذْتُ رَوْثَةً فأتَيْتُهُ بهَا، فأخَذَ الحَجَرَيْنِ وأَلْقَى الرَّوْثَةَ وقالَ: هذا رِكْسٌ " ( صحيح البخاري).
والأحاديث كثيرة في أمره _صلى الله عليه وسلم_ بالاغتسال بالماء والسدر، وذلك عند غسل الميت، والاغتسال من الحيض، وغسل دم الحيض الذي يصيب الثوب، علما بأن لنبات السدر فوائد كثيرة في الشفاء والوقاية من أمراض كثيرة .
وكذلك بينت السنة الشريفة أهمية نظافة الأدوات المستخدمة في الطعام والشراب، والأدوات الشخصية؛ ومن ذلك قول النبي _صلى الله عليه وسلم_ :" غَطُّوا الْإِنَاءَ ، وَأَوْكئوا السِّقَاءَ ، وَأَغْلِقُواالْبَابَ ،وَأَطْفِئُوا السِّرَاجَ ..." ( متفق عليه ) .
وفي الأمر _ كذلك _ بتغطية أواني الطعام والشراب وعدم تعرضهما للهواء والتراب والفيروسات والجراثيم ، وقاية من التلوث ومن ناقلات الأمراض مثل الذباب والفئران وغيرها ، وهنا يفهم معنى النهي عن الشرب من فيّ السقاء: فيما رواه أبو هريرة_ رضي الله عنه _قال : " نهى رسول الله_ صلى الله عليه وسلم_ عن الشرب من فم القربة أو السقاء ..." ( صحيح البخاري )
ومن علل النهي : أن في الشرب من فم السقاء تلويث له ، ولما فيه من نقل الجراثيم و نقل الأمراض المعدية عند تعدد الشاربين.
وفي مظهر آخر من مظاهر الوقاية _لا يقل أهمية عما سبق _ حرّمت الشريعة تناول لحوم وألبان أنواع معينة من الحيوانات؛ وقاية من الأمراض التي تسبب فساد جسد الآدمي، فقال الله " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَي النُّصُبِ ..."
( المائدة: ٣ ) وكذلك " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ". ( متفق عليه )
ومن ذلك المنطلق ولنفس المنطق :" نَهَى رَسُولُ اللَّهِ _صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ_ عَنْ أَكْلِ الْجَلالَةِ وَأَلْبَانِهَا" (رواه أبو داود والترمذي ) ، و الذي يظهر مما سبق أن من علل تحريم أكل كل هذه الأنواع أنها من آكلة النجاسات من الجيف وغيرها ، وهو ما يؤدي إلى انتقال الأمراض إلى جسم الإنسان وإفساد صحته .
علما بأن كل ما سبق وغيره_ من وسائل الوقاية_ يكفي قبل وقوع بلاء أو وباء عام ، أما إذا وقع – نسأل الله الوقاية – فقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم- إلى فقه التعامل معه فقال_ صلى الله عليه وسلم- : " إذا سمعتم بالوباء بأرض فلا تقدموا إليه، فإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه" (متفق عليه)
وقال _صلى الله عليه وسلم- : " لا يورد ممرض على مصح " (متفق عليه)
وبذلك سن الرسول - صلى الله عليه وسلم- مبدأ الحجر الصحي.
وبناء على ما سبق فإن الشريعة الإسلامية دعت إلى المحافظة على الصحة الجسدية على العموم ، والأخذ بالأسباب في التعامل مع الأوبئة العامة على الخصوص ، والشريعة بدعوتها_ هذه _ فإنها تعمل على وقاية الإنسان والمحافظة على صحته ، وتغلق منافذ الكثير من الأمراض ... نسأل الله حفظه وعافيته .
د.عابد حسن مُحمد عبدالجواد