04 مارس, 2025

سلسلة بحثية حول قراءة فكر الإمام الغزالي في كتابه «كيمياء السعادة»

سلسلة بحثية حول قراءة فكر الإمام الغزالي في كتابه «كيمياء السعادة»

مقال من إعداد: د/ نجلاء شمس، مساعد مدير مركز الفلك الشرعي

في عصر تتسارع فيه الماديات وتتزايد فيه الضغوط النفسية، يظل البحث عن السعادة هاجسًا يشغل الإنسان، فهل السعادة مجرد وَهْم يطارده الإنسان؟ أم حقيقة يمكن تحقيقها؟ في هذا السياق، يقدم الإمام أبو حامد الغزالي (٤٥٠هـ -٥٠٥هـ) في كتابه «كيمياء السعادة» منظورًا فريدًا، يجمع بين البعد الروحي والتطبيقي؛ ليكشف عن سر السعادة الحقيقية، بعيدًا عن المظاهر الزائلة.

فمن خلال رؤية تجمع بين: معرفة النفس، ومعرفة الله، ومعرفة الدنيا، ومعرفة الآخرة، يضع الغزالي منهجًا متكاملًا؛ لتحقيق الطمأنينة القلبية والسلام الداخلي؛ حيث يرى أن النفس هي مفتاح السعادة؛ مستندًا إلى قوله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: ۲۱]، مؤكدًا أن الجهل بها يجعل الإنسان في تيهٍ دائم، بينما يؤدي فهمها إلى تحقيق التوازن النفسي والروحي؛ إذ تتكون من العقل الذي يقود نحو الخير، والروح التي تسمو نحو الكمال والشهوة، التي تمثل التحديات الدنيوية، والغضب الذي قد يفسد التوازن إذا لم يضبط.

ويربط الغزالي السعادة الحقيقية بمعرفة الله، معتبرًا إياها الغاية القصوى للإنسان؛ حيث لا تقتصر هذه المعرفة على الفهم العقلي المجرد، بل تتطلب تصفية القلب من الأهواء، استنادًا إلى حديث النبي ﷺ: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (رواه مسلم).

ويُشَبِّه الغزالي القلب بالمرآة التي يجب صقلها بالتوبة والإخلاص والعمل الصالح؛ حتى تعکس نور الهداية الإلهية؛ فالسعادة لا تتحقق إلا لمن أدرك أن الدنيا دار ممر لا مقر، مستشهدًا بحديث النبي ﷺ: «كُنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» (رواه البخاري). ومن هنا؛ يتبنى رؤية متوازنة بين الدنيا والآخرة؛ حيث لا يكون الزهد المطلق سبيلًا للسعادة، ولا الانغماس التام في الماديات، بل يتحقق التوازن من خلال توظيف المال، والعلم والعمل؛ كوسائل لتحقيق السعادة الأخروية.

ويحدد الغزالي خطوات عملية للوصول إلى السعادة، تبدأ بالتوبة الصادقة التي تجدد العلاقة مع الله، والعمل الصالح الذي يمنح الإنسان شعورًا بالإنجاز، والتخلص من العيوب كالغرور والطمع، والتحلي بالصدق والتواضع؛ مما يجعل السعادة ليست مجرد تجربة شخصية، بل وسيلة لتعزيز السِّلْم المجتمعي. وقد اتبع الغزالي في كتابه «كيمياء السعادة» منهجًا تحليليًّا وروحيًّا، مستندًا إلى القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، ومُقسِّمًا كتابه إلى أربعة فصول رئيسة: تتناول معرفة النفس، ومعرفة الله، ومعرفة الدنيا، ومعرفة الآخرة؛ حيث يضع خارطة شاملة للحياة، ترتكز على تقويم النفس البشرية وتنقيتها من الشوائب؛ للوصول إلى الطمأنينة.

فالسعادة ليست حلمًا بعيد المنال، ولا تُشترى بالمال أو الشهرة، بل هي حالة داخلية تُبنى بتطهير النفس، وفهم الذات، والتقرب إلى الله، والعمل الصالح. وهكذا يلخص الغزالي فلسفته في «كيمياء السعادة»، مؤكدًا أن الإنسان إذا صفا قلبه، وسعى للخير، ووازن بين الدنيا والآخرة- فإنه سيجد الطمأنينة الحقيقية، وفي عصرنا الحالي؛ حيث تغيب القيم الروحية.

وختامًا:

تُقدِّم رؤية الغزالي علاجًا يتجاوز الحدود الزمنية والمكانية، وتظل دعوته للشباب والمجتمع نبراسًا في طريق البحث عن السعادة الحقيقية؛ فهي ليست هبة تُمنَح، بل حالة تُبنَى بالجهد والمجاهدة. ومن هنا؛ تبقى كيمياء السعادة في فلسفة الغزالي رسالة متجددة لكل باحث عن الطمأنينة الحقيقية.

 

المصادر:

·        الإمام الغزالي، كيمياء السعادة، تحقيق: عبد الكريم الرازحي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، ٢٠٠٧م.

·        الإمام شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٤٠٥ هـ-١٩٨٥م، المجلد (۱۹)، ص۳۲۲.

·        الإمام البخاري، صحيح البخاري، كتاب: الرقاق، باب: قول النبي: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، حديث رقم (٦٤١٦).

·        الإمام مسلم، صحيح مسلم، كتاب: البر والصلة، حديث رقم (٢٥٦٤).

عدد المشاهدة (809)/التعليقات (0)

كلمات دالة: