منذ ظهور ما تسمى بـ"كتائب حلوان" عام 2014 والتي استهدفت رجال الشرطة بعد فض اعتصامات رابعة العدوية وتوعدت بالانتقام من كل من أيّد ثورة 30 يونيو، ومرورًا بظهور الجماعة التي أطلقت على نفسها "ولاية داعش حلوان" عام 2016، ونهاية بالهجوم الإرهابي الغاشم الأخير على كنيسة مارمينا بحلوان يوم الجمعة الموافق 29/12/2017، والسؤال الذي يفرض نفسه وسط هذا الصخب الإرهابي: لماذا حلوان؟
في الحقيقة لا يمل الإرهاب الغادر من إبداء وجهه الأسود في كل مناسبة يفرح فيها شعب مصر ليقتل فيه كل مظاهر الفرحة والبهجة، وهدفه إحداث الفرقة وهدم الوطن.
وإذا أردنا الإجابة على هذا السؤال فلنبدأ بالقول: إن حلوان كانت ولا تزال إحدى المناطق التي وجدت فيها الأفكار المتطرفة منذ عقود مرتعًا وأرضًا خصبة فتجذرت في عقول كثير من أبنائها في غفلة من جميع المؤسسات المعنية بمكافحة هذا التطرف، والأمثلة هنا كثيرة.
ويكفي أن نذكر بمناطق أخرى تقع أيضًا على حدود القاهرة الكبرى أو في جنوبها مثل كرداسة أو الفيوم حيث يتطلب الأمر جهودًا مكثفة لمواجهة التطرف المتفشي في كثير من عقول الشباب.
وفي هذا المقام نؤكد أن كل هذا شذوذ عن قاعدة كبرى مفادها أن شعب مصر لم يستسلم أبدًا على مر القرون لدعوات الفرقة والعصبية والطائفية، وأقل ما نستدل به هنا على هذه القاعدة هذه المجموعة من الشباب المسلم والمسيحي الذي سارع بكل جرأة وشجاعة ووعي لقيمة الوطن إلى مهاجمة إرهابي كنيسة مارمينا وشل حركته على الرغم من تسلحه بالذخيرة والقنابل التي كانت تكفيلة أن تفتك بهم.
هذا الوعي الوطني الجامع ربما كان السبب الرئيس الذي جعل انتشار المد الداعشي في مصر لا يقارن بمثله في العراق وسوريا مثلًا، ذلك أن الحاضنة الشعبية التي تدعم وتوفر الغطاء للإرهابيين ليست متاحة في مصر، فالمصريون يتلاحمون في المحن ولا يتركون للعدو منفذًا يصل منه إلى أحدٍ من أبناء هذا الشعب، على خلاف الموقف في العراق أو سوريا فهناك الحاضنة الشعبية الأكبر للتطرف والإرهاب الذي غرست بذوره منذ أمد بعيد باللعب على أوتار الطائفية والعنصرية.
في مصر الفرق شاسع والمشهد مختلف؛ حيث نشأ أبناء هذا الوطن على التآلف والتآخي دون نظر إلى ما يدين به الإنسان، بل سنجد أن التصور الإسلامي للعلاقة والتعايش بين المسلم وغيره يظهر جليًّا ومطبقًا بشكل عملي في مصرنا الحبيبة. لقد نشأ المصري – المسيحي والمسلم على حد سواء – على التعامل مع الآخر من أبناء الوطن من مبدأ الأخوة والمحبة والتسامح الذي قل أن يوجد في هذا العالم المضطرب. ولعل آخر ما قامت به الجماعات الإرهابية في مصر من استهداف الكنائس في حلوان دليل مادي حقيقي على أن هذا الإرهاب الأسود بات يفقد وجوده على الساحة وأصبح من الفقر والضعف بمكان.
ورغم أن منفذ الهجوم من أعضاء تنظيم كتائب حلوان إلا أننا فوجئنا بتنظيم الدولة "داعش" يعلن على مواقعه تبني هذه العملية الإرهابية، فهل أصبحت كتائب حلوان داعشية أم تجمعهم المصالح فقط؟ سؤال آخر يكشف أن هذه الجماعات على اختلاف الأسماء والمسميات يجمعها هدف واحد في النهاية يتلخص في القتل والتدمير لحضارة الإنسان وقيَمه ووحدته.
مثل هذه العمليات الإرهابية لم تكن معتادة في مصر إلا في محيط سيناء باعتبارها البقعة المصابة في جسد الوطن بالوباء الداعشي، لكن الجديد على أسماعنا أن ينتقل هذا الوباء المسرطن إلى داخل أحياء القاهرة ومدنها، فما الذي تغير؟ الحل الأول الذي يبدو أكثر واقعية للإرهاب هو التحالف مع تنظيم آخر له وجود على الأرض ويعرف كيف يهاجم مصر من الداخل، هذا التنظيم هو كتائب حلوان، والحل الثاني إذا فقد الأمل في الهجوم الجماعي هو إطلاق الإرهاب لذئابه المنفردة التي باعت قيمتها الإنسانية في مقابل حفنة خبيثة من الأفكار الهدامة التي يلعنها الله ورسوله والمؤمنين.
منذ ثلاثة أعوم قامت كتائب حلوان بشن هجمات كثيرة على رجال الأمن في حلوان وخاضوا اشتباكات عديدة مع القوات المصرية مما أكسبهم نوع خبرة في ميادين القتال وهو الأمر الذي تفقده داعش التي لا تستطيع المحاربة داخل المدن القاهرية الرافضة لكل أشكال الإرهاب، من هنا كانت حلوان مقصد الإرهاب الغاشم مرات كثيرة حيث يكتسب الدواعش الخبرة ويستقون المعلومات من أفراد كتائب حلوان ويقومون هم بالتنفيذ.
نعم تختلف الأيدولوجيات بين التنظيمين إلا أن القاسم المشترك الذي يجمع بينهما كبير يملأ الفراغ والفقر الذي عند كل منهما، فداعش تفتقر إلى أسلوب وتكتيك كتائب حلوان للتعامل مع القوات المصرية التي تأمن الكنائس مثلًا، وكتائب حلوان يفتقد للتسليح والعنف والأفراد الذين يقومون بالتفيذ على أرض الواقع. هذا ما يجعل هذه العمليات تستهدف حلوان بشكل أكبر من غيرها من المدن القاهرية.
أما استهداف دور العبادة فهو من أولويات الجماعات الإرهابية التي تسعى لضرب الوحدة الوطنية بين أبناء هذا الشعب وإشعال فتيل الأزمات الطائفية التي كانت إستراتيجية ناجحة للدواعش في العراق وسوريا، وغيرها من البلدان في أفريقيا حيث تتولى جماعة بوكو حرام وحركة الشباب المهمة الإرهابية في وسط أفريقيا.
ما نريد أيضًا التأكيد عليه في هذا المقام أن كثيرًا من الدواعش الذين تقطعت بهم السبل للانضمام إلى الجماعة الإرهابية في ساحة قتال ما أسموه بالدولة الإسلامية، والذين لا يجدون كذلك قيادة التوجيه والإرشاد والتواصل الدائم، أو حتى أولئك الذين انقسمت جماعتهم أو اعتقلت أو قتلت أو لم يستطيعوا السفر إلى مناطق داعش، فإنهم ينضمون إلى أي تنظيم آخر يقوم بنفس الأهداف الإرهابية، ولو في صورة ذئاب منفردة كما أشرنا، وفي حلوان نحن أمام ما يمكن أن نطلق عليه بقايا "كتائب حلوان"، التي - على الرغم من نجاح قوات الشرطة في القبض على عناصر تلك الجماعة بعد مرور 192 يومًا من إعلانها عن نفسها عام 2014 – باتت حاضنة لذئاب داعش المنفردة، يستترون بخبراتهم وراء اسم التنظيم الداعشي، وهم في حلون الأكثر تنفيذًا لعمليات إرهابية نذكر منها قتل ضابط التبين بتاريخ 16/6/2014م والتعدي على وحدة مرور حلوان بتاريخ 20/3/2014م، وإشعال النار بمبنى نقطة شرطة الزلزال بعين حلوان بتاريخ 3/7/2014م، وإشعال جراج نجدة حلوان واغتيال أمين الشرطة فجر يوم 14/8/2014م، وغيرها من العمليات التي حرضت فيها على الدولة وتجمهرت ضد قوات الشرطة. جميع هذه المعلومات تفيد أن داعش أصبح يفقد ويخسر الكثير مما يجعله غير مؤهل لخوض عمليات تفجيرية ضخمة فانتقل من ناحية إلى العمليات الفردية، وإلى التعاون غير المعلن مع تنظيمات محلية من ناحية أخرى، حيث الأهداف الواحدة ولغة التمويل والتسليح الواحدة. ويبقى صوت القرآن يهزمهم بقوله :"مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا".
وحدة الرصد باللغة العربية