الجماعات المتطرفة

 

26 فبراير, 2018

الإرهاب الفوضوي

     يمكن تقسيم وتيرة التطور التاريخي للإرهاب التي انعكست على عصرنا الراهن إلى خمس موجات إرهابية هي: فوضوية، وعنصرية، وعقائدية (الإرهاب الأيدولوجي)، ودينية، وإلكترونية.
هذه الموجات لا تختلف عن بعضها البعض بحدودٍ قاطعة وفاصلة، لكن الهدف والسِّمَة الأساسية للأعمال الإرهابية في مرحلةٍ ما هما ما يُحدِّدان اسم الموجة الإرهابية؛ لذلك توجد في الأحداث الإرهابية التي تقع في كل العصور امتداداتٌ للسِّمات والأهداف الأساسية للعمليات الإرهابية في الموجات الأخرى؛ فعلى سبيل المثال: فإنه في مرحلة الإرهاب الديني تظهر بصماتٌ من الإرهاب الإلكتروني، وكذلك توجد انعكاساتٌ لموجتَي الإرهاب الفوضوي والعقائدي.
 ولقد تطوّرت موجة الإرهاب الفوضوي بعد الثورة الفرنسية وتَغَذّت على الأفكار المتطرفة للعديد من المتطرفيين العدميين الذين ظهروا في القرن التاسعَ عشرَ، أمثال الروسيَّين "سيرجي نيتشاييف" و"ديمتري بيسرايف"؛ الأول: يرى أن الإنسان لا يكون ثوريًّا إلّا إذا قطع كل الصِّلات التي تربطه بالنظام العامّ وبالعادات والتقاليد والقوانين والأخلاقيات والمُعتقدَات المُتعارَف عليها والمُعترَف بها في العالم المتحضّر، فهو فوضويٌّ إلى أبعدِ الحدود؛ يحتقر الرأيَ العامّ ويرفض القَبولَ بالعلوم الدنيوية، ولديه نظرةٌ إقصائية لجميع مَن لم يؤمن بثورته ويشاركه فيها، بل يقال: إنه كان يقتل مَن معه في جماعته السرية إذا اختلف معه في بعض الموضوعات.
أمّا "ديمتري بيسرايف"؛ فقد عاش أيضًا في القرن التاسعَ عشرَ، وهو متطرّفٌ عدمي روسي يَهوى القتل ضد الجميع، وقد سُئل ذات مرة: وهل يقتل الإنسان أمه؟ فأجاب قائلًا: "ولمَ لا؟ إذا كنتُ أريد ذلك وأجده مفيدًا" .. وهنا نجد أن القتل قد اغتَصبَ منه ولاءه لأمّه التي أنجبته، وانتزع الرحمة من قلبه الذي استولت عليه الأنانية والنفعية التي جعلته عدوًّا لكل شيء إلّا ما يخصّ إرضاء ذاته ومنفعته الخاصة، وقد يقول قائل: ربما هذا كان مجرّد كلام قاله، وإنه في الحقيقة لن يقتل أمه، لكن الواقع يقول عكس ذلك، فالرجل لم يقتل أمه بالفعل، لكنه كان أشدَّ تطرُّفًا وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وقتل نفسه ومات منتحرًا.
وتوجد في موجة الإرهاب الديني آثارٌ من الإرهاب الفوضوي، وقد يختلف السلوك الفوضوي الناتج عن شعورٍ ديني علوًّا وانخفاضًا، فقد يكون سخرية أو بغضًا كما هو الحال في ظاهرة "الإسلاموفوبيا" غير المبرّرة، والتي يتعامل بها بعض الغربيين مع المسلمين، وهي تبدأ كما قلنا بسخريةٍ وبغْضٍ، وتنتهي في بعض الأحيان بحوادثِ دهْسٍ وإلقاء متفجّرات على المساجد، وقد يصل السلوك الفوضوي الناتج عن شعورٍ ديني إلى القتل والحرق والإبادة الجماعية والتطهير العِرْقيّ؛ مثلما يفعل أتباع الديانة البوذيّة في "بورما"، الذين يقتلون ويحرقون المسلمين بلا تفرقةٍ بين كبيرٍ أو صغير، أو حتى أطفال لا يعرفون معنى الاختلاف ولا لأي سبب يُقتلون، سوى أن ذنبهم الوحيد أنهم وُلدوا لعائلاتٍ مسلمة، وكذلك تتجلّى الفوضوية الناتجة عن سلوكٍ ديني في مشاهد القتل البشعة والحرق والذبح أمام الشاشات التي قام بها تنظيم "داعش" الإرهابي، والتي لا تَقِلّ بشاعةً بل ربما تزيد عن مشاهد القتل بالرشاشات في الشوارع، والتي كان يُمارِسها الفوضويون، كذلك شاهدْنا من الدواعش مَن يَقتل أقاربَه وأفرادًا من أسرته؛ آخِرهم كان في العراق، حيث قَتل الإرهابي الداعشي "عبد الخالق عبد القادر علي" أخاه الأكبر "عبد القادر"، الذي كان شرطيًّا في العراق، وقد تمّ القبض على هذا القاتل في شهر نوفمبر الماضي، في مدينة "قيصري" التركية، وقد تناولتْ جريدة "خبر ترك" بعضَ أقوال هذا الإرهابي، التي أدلى بها في التحقيقات، وذكرتْ أن هذا الإرهابي اعترف بأنه قتل أخاه؛ كي يثبتَ للتنظيم ولاءه، وأنه كان يُمارِس نشاطَه الإرهابي كعضوٍ من أعضاء "داعش" في مدينة "تلعفر" العراقية، وأن أخاه القتيل "عبد القادر" الأكبرَ منه سِنًّا كان يعمل "شرطيًّا" في العراق، وأنه بدأ يتحرّك في عملياتٍ ضدّ التنظيم؛ لذلك تَلَقّى "عبد الخالق" أمرًا من التنظيم بقتل أخيه، وفعَل ذلك ليُثبتَ للتنظيم إخلاصَه وولاءه.
أيضًا، تَتَجَلّى ظاهرة قتل الأقارب عند مقاتلِي "تنظيم القاعدة"، ولقد شاهدْنا جميعًا الحوارَ التلفزيوني الذي أجراه الإعلامي "عماد الدين أديب"، على قناة الحياة المصرية، مع الإرهابي القاعدي الليبي "عبد الرحيم المسماري"، والذي ألقتْ قوّات الأمن المصرية القبضَ عليه أثناء عملية تحرير النقيب "محمد الحايس" من أيدي الإرهابيين، في نوفمبر الماضي، ولقد سَوّغ "عبد الرحيم" قتْلَه للأبرياء المُخالِفين له واستحَلّه وقال عنه: إنه قتْلٌ من منظورٍ عَقَديٍّ، وأضاف: أن الرسول قتَل أعمامَه، في مخالفةٍ تاريخية لم تتحدّث عنها كتبُ السيرة ولا علماؤها، ولقد فنّد مرصد الأزهر هذه الشبهاتِ ورَدّ عليها.
الشاهدُ؛ أن الإرهاب والعنف أيًّا كانت أيدولوجيته وإستراتيجيته وأهدافه يحمل صفات مشتركة، فمن مارَس العنف باسم الدين لا يختلف عمّن مارسه تحت أي شعارٍ آخَرَ؛ إذ إنه في النهاية يمارسه مع المختلف معه، والذي قد يبدأ معه بالنفور أو التهميش أو الإقصاء، وقد ينتهي بالقتل؛ من أجل ذلك يجب غرْس ثقافة الحوار وتَقَبُّل الآخَر في نفوس الشباب، وتوعيتهم بأن الأديان لم تأتِ لتنفير الناس من بعضهم البعض، بل جاءت ليسودَ السلام والوئام الأرضَ كلَّها، كذلك يجب على الغرب ألّا ينحازَ لدينٍ على حسابِ آخَرَ، وألّا يتعامل مع المسلمين على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وأن يُغَلِّبَ مبدأ المواطنة مع جميع أبناء الغرب، وألّا يكيل بمكيالين في الثواب والعقاب، فهذه كلُّها مبادئُ نتيجتُها الحتميّة غرْسُ العداء للمجتمع في قلوب الطوائف المضطهدة؛ والذي بدوره يؤدّي إلى الفوضى في المجتمع.


وحدة رصد اللغة التركية