لا يرتبط التطرف بشكلٍ أو نَمَطٍ واحدٍ من التفكير، وإنما هو كلّ سلوكٍ يميل عن المعقول، مُتجاوِزًا حدودَ الاعتدال.
ومن ثَمَّ؛ لا يرتبط وصْفُ التطرف بالدِّين من قريبٍ أو بعيدٍ؛ ولذا فقد يُطلق وصف التّطرف على أشخاصٍ وأفكارٍ أَعَمَّ من أن يكون لهذا عَلاقة بالدِّين أو لا، نعم؛ قد يكون الفهم المغلوط للدِّين سببًا في التطرف؛ حين يتجاوز الشخص بفكره حدود الاعتدال، بجَعْل الدِّين سيفًا مُصْلَتًا على رقاب الناس، يُكَفِّر به هذا ويستبيح دمَ ذاك، وتارةً حين يتجاوز الحدود ويرفض النَّصَّ الدينيّ بالكُلية، ويطعن فيه معتبِرًا عقله أعلى وأرقى من النص الديني، أو بجعل النص الديني محصورًا في حِقْبَةٍ زمنية فائتة لا يجاوزها، متّهمًا إيّاه بعدم الصلاحية للزمان والمكان، ومُشَكِّكًا في قناعات عامّةِ الناس، ضاربًا بالقُدسيّة الدينية للنص عُرْضَ الحائط.
وغير خافٍ أن هذين الصنفين يتعاطيان تأثُّرًا وتأثيرًا في عُمْق الفجوة الضاربة في نسيج المجتمع الإنساني بشكلٍ عامّ، بحيث لا نستطيع الجزم أيهما كان أوّلًا، ومَن منهما أنتج التطرف المُضادّ!
والذي يمكن قَبوله: أنَّ هذين التطرفين متشابكان بخيوط لا يمكن حلها إلا بحل المشاكل العقلية والنفسية لدى أصحابها، ولا يستطيع أحد أن يجزم أن التطرف في تطبيق النص ولَّد التطرفَ في رفضه أو العكس، لكن الحقيقة التي يمكن الاتفاق عليها أنهما يخرقان سفينة الاستقرار بفأس الفتنة.
المتطرف في تطبيق النص هو ذاتُه المتطرف في رفضه، ولا يمكن أن يكون أحدهما أفضل حالًا من صاحبه؛ هذا يظن الإصلاح وذاك يدّعيه، فأصبحَا كمن يَدّعي وَصْلًا بليلى، وليلى لا تُقِرُّ لهم بذاكا!
ولعل السؤال الأهم في هذا المقال: كيف يمكننا أنْ نُقَلِّلَ من حِدّة هذه السِّمَة المُدَمِّرة "التطرف"؛ بحيث لا تُنْتِجُ شخصًا إرهابيًّا في نهاية المطاف؟
حين يتوقف الإنسان عن الممارسات العبثية التي يحاول من خلالها إقامة نفسه متحدّثًا رسميًّا باسم عامّة الناس، وحين لا يجبر الآخرين على الإيمان بما يؤمن به، وحين يحترم الاختلاف ويدرك قيمة الدماء وعِظَم حرمتها؛ فإن التنشئة الأسرية والمجتمعية التي تعمل على إلغاء الأُحاديّة الفكرية في عقل النَّشْءِ، بما يؤسّس لفكر الاختلاف والتقارب بديلًا عن الاختلاف والاحتراب، كل هذه الأمور مجتمعة يمكن أن تحلّ جزءًا كبيرًا من المشكلة.
إن واقع الناس يؤكد أن طبيعة البشر مختلفة، وآراءهم متباينة، ومن الطَّبَعيّ أن يتمسّك كلُّ ذي رأيٍ برأيه، وقد يكون هذا محمودًا ما لم يخرج عن حَدِّ الاعتدال، أمّا أن يصل هذا التمسك إلى مستوى التعنُّت والعناد، والمكابرة أحيانًا، بل إلى حَدٍّ يرفض معه صاحبُه الحقَّ الواضح؛ فهذا أمرٌ مرفوضٌ شرعًا ممقوتٌ عُرْفًا، وهو الذي أَطلق عليه النبيُّ -صلّى الله عليه وسلم- مصطلح «الكِبْر»؛ حيث قال في البيان النبويّ: «الكِبْر بَطَرُ الحقِّ وغَمْط الناس» ومعنى بَطَرُ الحق: الاستنكاف عن قَبوله، وردُّه والنظرُ إليه بعين الاستصغار؛ وذلك للترفُّع والتعاظم، ومعنى غَمْط الناس: ازدراؤهم واحتقارهم.
وعلاج هذا الدَّاء يكمن في تقويم النفسية والعقلية على فكر التقارب والتعايش رغم وجود الاختلاف، مع تأكيد قيمة الحياة، وأنها حقٌّ أصيلٌ مكفولٌ للناس كلّ الناس، وتنفيذ هذا على أرض الواقع ونقْله من مرحلة التنظير إلى مرحلة التطبيق واجبٌ حتميٌّ على كلّ مَن له تأثيرٌ في المجتمع.
ولنا أن نتساءلَ: إذا كان التطرف "العصبية" سِمَةً نفسيّةً؛ فما هي العوامل التي تساعد على تأصُّلها في شخصٍ دون شخص؟
والجواب: أن هناك عواملَ عِدّة تَحَدَّث عنها المتخصصون تُسهِم في ارتفاع حِدّة العصبية، ووصولها إلى درجة التطرف، ومن ثَمَّ إلى الإرهاب، هذه العوامل بالتوازي هي: التعصب والفقر والجهل.
وما نقصده بالجهل هنا يشمل الناس جميعًا، فليس من أحدٍ إلّا وهو يعلم أمورًا ويجهل غيرها، ولا يوجد في دنيانا مَن يعلم كلَّ شيء، فإذا أُتيح لكل متحدّثٍ أن يُحَدِّث الناسَ بما يحب -وإن كان يقع في دائرة جهله ويخرج عن دائرة اختصاصه- أَنتج هذا تطرُّفًا على مستويين، الأول: التطرف في رفض هذه الآراء ومقاومتها بالآراء المتطرفة على النقيض منها، والثاني: التطرف في تكوين رابطةِ تأييدٍ وتأكيدٍ وقَبولٍ لهذه المعلومات المغلوطة، فتنتقل المشكلة من فردٍ واحد إلى جماعتين كبيرتين من المجتمع، يُصبِح كلُّ فردٍ في هاتين الجماعتين داعيًا إلى ما يقتنع به، مُحَرِّضًا على الأفراد المُناهِضين له، فتبرز العصبية والتطرف من قلب المجتمع لتطعنَه بسِكّينٍ باردة!
فمثلًا حين يتحدث "الدواعش" عن النص الديني ويجعلونه سببًا ومستنَدًا في معاداة العالم كله وقتاله، فإنهم في أقصى درجات الجهل؛ لأنهم افتقدوا آليّات المنهجية العلمية في التعامل مع النص، وخرجوا بآراءٍ شاذّة تقع كلُّها في دائرة الجهل السوداء، وعلى الطرف المقابل، حين يتحدّث مهندسٌ أو طبيب في النص الديني مُعتبِرًا أنه سبب التخلف والرجعية، وأنه لم يَعُدْ صالحًا لعالمنا هذا، فإنه قد خرج برأيه هذا عن دائرة اختصاصه إلى الدائرة السوداء التي وقع فيها زميله الداعشي، وكلاهما –من حيث التطرف- داعشي!
أمّا الفقر؛ فإنه العامل المُهِمّ الذي لا يمكن أن نتجاوز حجم تأثيره في تغذية بؤَر التطرف بين الشباب، ولعله بات معروفًا لدى الجميع أن الغالبية الساحقة من المتطرفين الإرهابيين يعانون من أزمة فقرٍ حقيقية، تجعلهم فريسةً سهلة لصائدي الظلام الذين يفتّشون عن نقاط ضعف فريستهم ويعملون عليها، حتى يتغذّى عقله بأفكارهم، وتتشرَّب نفسُه قناعاتِهم، فلا يرى هاديًا سواهم، ولا داعيةَ صِدْقٍ غيرَ دُعاتهم، ومِن ثَمَّ يُغمض عينه ويتبعهم، ويسير خلفهم في طريقٍ من الظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يَكَدْ يراها، ومَنْ لم يجعل الله له نورًا فما له من نور!
إنَّ الفقر الذي نتحدث عنه ليس فقر المال فقط، والذي هو في الواقع مهمٌّ ولا يمكن تغافله، فالفقير الذي لا يجد ما يرفع به رأسه أمام من يَعول، هذا الذي يَشعر بالعجز النفسي وهو لا يملك من حُطام الدنيا شيئًا، يمكن أن تشتريَه الأموال والوعود الزائفة، والأماني الكاذبة، لكن الفقر الأبشع الذي لا بدّ من علاجه بقوة وبخطواتٍ ممنهَجة واضحة هو فقر النفوس والقلوب، فكم من شابٍّ كانت حياته المادية متيسّرة ولا يعاني ممّا يعاني منه غيره، إلا أنه انتهج الإرهابَ ولم ينتهجوه!
لا بُدَّ إذًا؛ أن نُفَرِّقَ بين نوعَي فقرٍ يدفعان الإنسان إلى التطرف والإرهاب، الأول: فقْر المادّة، وهو حسَب تقاريرَ عالميّةٍ- سببٌ أصيلٌ في تنمية النَّزْعة المتطرفة والعنيفة لدى الأشخاص، بل لا نبالغ إن قلنا: إن الفقر "مَفْرَخَة" الإرهاب، فالفقير الذي لا يملك قوت يومه، ويتطلّع إلى رغد العيش حين تأتيه الإغراءات بالمال والزواج والعمل والاستقرار ورضا الله في نهاية الأمر، فإنه حتمًا يذهبُ غيرَ ناظرٍ إلى أين يسير، والثاني: فقر الرُّوح الذي يجعل المتطرفَ دائمَ البحث عن قطرات الماء التي يروي بها عطش رُوحه، فيستقبله الإرهاب بجُرْعَةٍ دينية مغلوطة يُثْبِتُ له فيها أن رُوحه ستهدأ وتعرف اللهَ حين ينضمّ إليهم فقط! فيوَدِّع حياته وعالمه ويُلقي بنفسه في براثنهم، باحثًا عن السلام النفسيّ الذي طالما فتَّش عنه ولم يجده.
الفقران قد يجتمعان وقد يفترقان، فكم من فقير المادة غنيّ القلب لا تَهُزُّهُ الفِتَن الملوّنة ولا الشعارات الرنانة، وكم من غنيٍّ يملك من الدنيا ما يفيض ويزيد، لكنَّ رُوحَه عَطْشى، وصدَق النبيُّ -صلّى الله عليه وسلم- حين قال: «ليس الغِنَى عن كَثْرَة العَرَض، ولكنَّ الغِنى غِنى النَّفْس».
هذه الثلاثيّة "التعصب، الجهل، الفقر" تُنتج شخصًا مشحونًا بمشاعرَ سلبيّةٍ تُجاهَ مجتمعه، يريد الانتقام والسيطرة وفرْض قناعاتِه بالقوة، التي تتدرّج لتصلَ في نهاية الأمر إلى استباحة الدماء.
مرّةً أخرى، تجدر الإشارة إلى أن التطرف في أيّ قضية يكون بين طرفَي نقيضٍ، هذا يقبل وذاك يرفض، وهكذا.. دائرة مُفْرَغَة يدور فيها العقل الجَمْعيّ مُشَتَّتًا مُضطرِبًا مكلومًا بجراحاته!
السؤال الأخير في هذا المقال يدور حول إمكانية اقتلاع هذه المشكلة من جذورها، وهل يمكن أن نرصد على مدار التاريخ البشري كله مجتمعًا بدون تطرف؟ وإذا لم يكن بالإمكان القضاء على أشباح التطرف؛ فهل يمكن تقليل دائرته والسيطرة عليه ووقاية المجتمع منه؟
يُتْبَع...