الجماعات المتطرفة

 

22 سبتمبر, 2024

ردًّا على مقال "ألم يأنِ للذين آمنوا" الصادر في جريدة النبأ الداعشية

في سياق متابعة مرصد الأزهر لمكافحة التطرف للانحرافات الفكرية الشاذة وبث الأفكار المتطرفة في العقول، تابعت وحدة رصد اللغة الإسبانية المقالة الافتتاحية لمجلة النبأ الداعشية في عددها الصادر في شهر سبتمبر 2024م؛ حيث اتضح أن المقالة ركزت على استخدام الآيات القرآنية لتوجيه رسائل مفادها أن الكفَّ عن الجهاد أو التصدي للأعداء سيؤدي إلى غضب الله، وسيُنزِل عقابًا شديدًا.

والمتأمل في هذه الرسائل يجد أنها مبنية على فهم مغلوط للنصوص الدينية، ومن ثم يجب -من الناحية المنهجية- التفريق بين فهم النصوص الدينية ضمن سياقاتها الأصلية، وفهمها بناء على تفسيرات متطرفة.

والحقيقة أن الإسلام دين سلام ووسطية، لا يدعو إلى العنف إلا في حالة الدفاع عن النفس أو رد العدوان. أما استخدام الآيات القرآنية لإضفاء شرعية على العنف ضد الآخر فهو استغلال خاطئ للنصوص، لا يعكس الروح الحقيقية للإسلام الذي يدعو إلى الدعوة إلى سبيل الله ودينه بالحكمة والموعظة الحسنة.

وقد جمع المقال الآيات التي تشتمل على الوعيد في الدار الآخرة، ووظَّف الآيات التي تتعلق بالجهاد والابتلاء لتهديد المسلمين وتخويفهم من عقوبات في الدنيا والآخرة إذا لم يتبعوا فكرة المقال التي تدعو إلى العنف والإفساد في الأرض، تحت مسمى ترك الجهاد، وأن هذا الترك كان سببًا في اضطهاد المسلمين، وأن الجهاد بالسيف هو الطريق الوحيد لاستعادة كرامة الأمة، كما أن بالمقال تلميحات واضحة لتكفير فئات من المسلمين، وكذلك يصور المقال أن كل من يخالف المسلمين أو الإسلام يصبح عدوًّا يستحق العقاب والقتال، أيًّا كان دينه أو مذهبه أو فكره، ويمكن الرد على هذه الأفكار من خلال النقاط الآتية:

أولًا: العقاب والثواب أمر يخص الله تعالى وحده، وليس للإنسان -أيًّا كان منصبه أو موقعه بين الناس- سلطة للحكم على مصائر الآخرين، والقرآن الكريم يشير في آيات عديدة إلى ضرورة التركيز على التوبة والعمل الصالح بدلًا من التخويف المتواصل، كذلك يجب أن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة، وبطريقة تناسب الزمان والمكان، وليس عن طريق التهديد والإرهاب الذي يخلق بيئة من التطرف والكراهية، كما نطقت آيات القرآن أن الثواب والعقاب يعود على النفس بالدرجة الأولى، كما أنه يدور في إطار العدل الإلهي وأنه تعالى في ثوابه وعقابه لن يظلم الناس شيئًا، فقال سبحانه: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ" [فصلت: 46].

ثانيًا: المسلمون لم يتركوا الجهاد:

من أخطر ما تروج له التنظيمات المتطرفة أن المسلمين تركوا الجهاد، ولذلك حدث لهم هذا الاضطهاد الذي نراه في بعض الأماكن، وهذا الكلام عار تمامًا عن الصحة، للأسباب الآتية:

أ) من سنن الله الكونية الابتلاء بالهزيمة وتمكن الأعداء:

وهذا رأيناه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وبعدها وفي زمن الخلفاء والسلف الصالح، بل في التاريخ صفحات تدل على تمكن العدو من المسلمين في كل مرحلة تاريخية مع وجود الجهاد والخلافة بوصه نظامًا سياسيًّا، فكيف نفسر ذلك وفق رؤيتهم المنحرفة؟!!

الحقيقة أن سنن الله الكونية تقتضي أن "وتلك الأيام نداولها بين الناس" فمع نصر بدر كانت هزيمة أحد، ومع تقدم المسلمين ووصولهم إلى الصين ظهر الخوارج واقتتل المسلمون فيما بينهم، وهكذا..، كما أن سننه تعالى تحتم أنه من يأخذ بأسباب التقدم والحضارة يتقدم ويحقق نجاحات متعددة بغض النظر عن خوض حروب تحت أي مسمى كـ (توسع – جهاد – حروب – عمليات عسكرية...إلخ).

ب) معظم الدول الإسلامية الآن فيها مؤسسة عسكرية مختصة بالجهاد:

تغفل التنظيمات المتطرفة عن النظام العالمي والمعاهدات الدولية، فضلًا عن اللوائح والدساتير المنظمة لعليات خوض الحروب وتنظيم إجراءاتها، ولا يخلو بلد الآن سواء مسلم أم غير مسلم من مؤسسة عسكرية مهمتها الدفاع عن الأوطان ضد العدو الخارجي، وهذه المؤسسة –لا سيما في البلاد المسلمة- هي وحدها المنوط بها أمر الحرب، وأي تدخل من قبل أفراد أو مليشيات مسلحة من خارج تلك المؤسسة في هذا الشأن يعتبر افتئاتًا على الحاكم يستحق فاعله العقاب شرعًا وقانونًا، لذا الزعم بأن الدول الإسلامية عطلت الجهاد زعم بعيد كل البعد عن الحقيقة، غاية الأمر أن التنظيمات المتطرفة تريد أن تضعف معنويات الجيوش التي تقف لها بالمرصاد وتحود بينها وبين تنفيذ أجنداتها المشبوهة.

ثالثًا: هل معنى الجهاد القتال فقط؟

لا تقدم التنظيمات المتطرفة تعريفًا لمعنى الجهاد الذي لا ينحصر في العنف أو الحرب؛ وفي الرؤية الوسطية أن الجهاد الأكبر هو جهاد النفس، والعمل على تحسين الأخلاق والسلوكيات، وهو المقصود في قوله تعالى في سورة العنكبوت المكية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، وأما الجهاد العسكري فمشروع فقط في حالات الدفاع عن النفس، وليس للتعدي أو فرض الأفكار على الآخرين؛ لذا وجب التذكير بأن القرآن الكريم يشير إلى أن الله لا يحب المعتدين، وإنما يكون القتال ردة فعل مناسبة للفعل، وإن القرآن أمر بذلك فقال: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ﴾[النحل: 126]. وإن القرآن نفسه –وهم يستشهدون به على وجوب القتال وسفك الدماء- هو الذي يؤثر السلم على الحرب ويحافظ على الأرواح ويعدها مقدسة، يقول الله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله}، وعلى ذلك اتفق العلماء أن للجهاد قسمان: "جهاد أصغر وهو جهاد السيف، وجهاد أكبر وهو جهاد النفس، فيجاهدها أولًا في القيام بجميع المأمورات، وترك جميع المنهيات، ثم يجاهدها ثانيًا في ترك العوائد والشهوات، ومجانبة الرخص والتأويلات، ثم يجاهدها ثالثًا في ترك التدبير والاختيار، والسكون تحت مجاري الأقدار، حتى لا تختار إلا ما اختار الحق تعالى لها، ولا تشتهي إلا ما يقضي الله عليها، فإن النفس جاهلة بالعواقب، فعسى أن تكره شيئًا وهو خير لها، وعسى أن تحب شيئًا وهو شر لها" ([1])

فالجهاد لا يحمل معنى الحرب أو القتال وفقط، وحتى إن حمل معنى الحرب فإن الحرب لا يُلجأ إليها إلا بعد استفراغ الجهد بالطرق السلمية للوصول إلى خير أو دفع شر، والجند مهمتهم الأولى الحماية والحفظ وليس الهجوم والبدء بالقتال، أما إذا بدأهم أحد بالقتال أو أراد أن يفرض ملكه بالقوة والسلاح فلا بد أن يدافعوا عن أوطانهم بشجاعة وبطولة بل يزعم بعض العلماء أن هذا أفضل الأعمال بعد التوحيد، وعلى ذلك تنقسم الحرب إلى حرب عادلة وحرب ظالمة أو جائرة، حسبما يُفرض على الوطن من الخارج.

ونود في هذا الصدد أن نطرح بعض الأسئلة: هل الإسلام لم يضع أطرًا دقيقة للاستخدام الشرعي للقوة؟ وما الظروف التي يمكن أن تُستخدم فيها القوة؟ وهل الإسلام يضع الحرب خطوة أولى أو من الأولويات؟ وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إن الذي يتدبر الشرع الشريف يعلم علم اليقين أنه لا يجوز الدعوة إلى القوة على حساب السلم إلا في حالات الدفاع المشروع عن النفس أو الدولة، ومع ذلك تبقى الأولوية في الإسلام لتحقيق العدل بالطرق السلمية، فالإسلام يؤكد مرارًا وتكرارًا على دور الحوار والتفاهم بوصفها أدوات فاعلة في حل النزاعات.

رابعًا: الإسلام دين التعايش والأخوة الإنسانية:

لقد علمنا الإسلام أن هناك اختلافًا في الأديان والمعتقدات، وأن هذه الحرية الدينية والعقدية مكفولة للجميع، ولا يدخل الإكراه في قضية الدين والاعتقاد قال سبحانه: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وعلى ذلك فالتعايش والتسامح هما جوهر العلاقات الإنسانية، وفكرة أن "الآخر" الديني أو "الغيرية" الدينية تمثل عداء للإسلام هي فكرة خطيرة وغير إسلامية على الإطلاق؛ لأن القرآن الكريم يشير بوضوح إلى أنه ينبغي التعامل بالعدل حتى مع المخالفين في الدين طالما لم يمارسوا أي اضطهاد أو ظلم ضد المسلمين: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الممتحنة: 8].

ومن المعلوم بالضرورة أن تكفير الآخرين سلاح خطير جدًّا، وفكر ضال يؤدي إلى تأجيج الفتن والحروب التي تسفك الدماء وتهلك الزرع والضرع، وقد حذر منه العلماء على مر العصور، ولذلك لا يجوز تكفير المسلم إلا بناءً على حكم قضائي شرعي معترف به، وفقًا لضوابط شديدة وصارمة؛ لأن الله وحده هو من يعلم بواطن الأمور. فاحتكار الحكم على الآخرين بالكفر أو ما شابه ذلك يتناقض مع روح الإسلام القائمة على التعددية والرحمة وقبول الآخر.

إن اجتزاء الآيات التي تدعو إلى القتال من سياقاتها التاريخية والسياسية والاجتماعية، تحريف سافر وضلال مبين؛ إذ إنه يُسقط الآيات التي نزلت على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في بيئة محددة على الزمن الحالي دون مراعاة للسياق التاريخي والثقافي لهذه الآيات.
وهذا الاجتزاء يُخرِج الآيات عن معناها، كمن يقول: "لا تقربوا الصلاة"؛ فالاجتزاء اللغوي لا يختلف عن الاجتزاء التاريخي والثقافي، فهما وجهان لعملة واحدة، لأنهما يؤديان في الأخير إلى اعوجاج في المعنى وتحريف في الدلالة.

إن تفسير القرآن يجب أن يكون شاملًا ومتوازنًا، وليس انتقائيًّا؛ لأن الآيات المتعلقة بالجهاد والقتال وردت في سياقات تاريخية محددة، وهي تخص حالات عدوان على الدولة الإسلامية، ولا ينبغي أن تكون هي المعيار الأوحد في التعامل مع الآخر، وعلى ذلك فينبغي قراءة هذه الآيات في إطارها العام، الذي يشتمل على العديد من النصوص التي تدعو إلى إقرار السلام، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61].

وختامًا، لا يخفى على أحد أن هذه الأفكار المتطرفة -التي لا تربطها بالإسلام أية رابطة- لا تؤدي إلا إلى تشويه صورة الإسلام والمسلمين عالميًّا؛ إذ يتم تصوير المسلمين كأشخاص يسعون دائمًا إلى العنف والقتل، رغم أن الإسلام يدعو إلى بناء الحضارات وإثراء المجتمعات بالعلم والأخلاق. والفكر المتطرف لا يخدم الإسلام، بل يضر به ويزيد من عداء الآخرين له ولأتباعه.

ومن جانبه، يؤكد مرصد الأزهر أن هذه الأفكار المنحرفة التي تروج لها تنظيمات متطرفة مثل "داعش" ليست إلا تشويهًا لمبادئ الإسلام، ولا تؤدي إلا إلى تشويه سمعة المسلمين وإثارة المزيد من العداء ضدهم؛ لذا يجب علينا جميعًا أن نتصدى لهذا الفكر المنحرف بالعلم والوعي والفهم الصحيح للدين، كي نحفظ للإسلام صورته الحقيقية دينًا يدعو إلى السلام والرحمة والعدل.

وحدة رصد اللغة الإسبانية


([1]) البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، لابن عجيبة، ج: 1، ص: 243.