الجماعات المتطرفة

 

24 سبتمبر, 2024

ما يعول عليه داعش الإرهابي مستقبلًا

(١)

الولايات البعيدة  

اعتاد تنظيم داعش الإرهابي على التكيف مع الخسائر والتفكك التنظيمي الذي يتعرض له بين الفينة والأخرى نتيجة الملاحقات الأمنية واستهداف قياداته والخسائر الكبيرة التي يتعرض لها، لذا بات من الضروري فهم المعولات التي يستند إليها هذا التنظيم، وتبقيه متماسكًا في وجه أية عاصفة قد تلم به.

على الرغم من أن الفكر المتطرف يتشابه بين التنظيمات جميعًا، إلا أن صيغة ذلك الفكر وآليات العمل به تختلف من تنظيم إلى آخر، وقد بدي ذلك جليًّا لدى داعش على وجه الخصوص؛ إذ يستند التنظيم إلى جملة من المنطلقات الفكرية المتطرفة، التي أسهمت بدورها في رسم صورة الخلافة المزعومة، وحولت داعش من مجموعة مسلحة إلى تنظيم يتبع إستراتيجيات منتقاة تقوم على خطط تتطور بما يتواكب مع الأوضاع التي يمر بها، فضلًا عن الحواضن الشعبية التي تكفلها له المحركات الإعلامية والدعائية التي تستغل الأحداث الساخنة مثل حرب غزة، وكذلك المناطق التي تعج بالفتن الطائفية.

إن نظرة فاحصة في سيرة التنظيم تؤكد أن الخسائر المتتالية التي يتعرض لها على المستويين البشري والمادي لا تعني نهاية وشيكة له؛ لأن قوة التنظيم لا تتركز في قادته أو إمكاناته المادية فقط، بل تعتمد على جملة متغيرات بنيوية أخرى مثل الاستقطاب ووسائل الحشد المبتكرة والتعبئة واستعادة الهيكلة وغيرها.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل سيواصل هذا التنظيم سعيه لإنشاء خلافة تمكينية (وفقًا لخطابه) مرة أخرى أم سيستمر في خلافته الافتراضية المزعومة؟ وهل سيسعى التنظيم إلى بسط نفوذه على جهات أخرى غير تلك التي كان يتمركز بها، أم سينشئ له موطئ قدم تكفل له منطلقًا لعملياته الإرهابية؟ وما هي أهم المحددات أو العوامل المؤثرة في تعاظم دور التنظيم أو العكس؟

نجيب على التساؤلات السابقة من خلال سلسلة من المقالات اخترنا لها عنوانًا وهو: "ما يعول عليه تنظيم داعش مستقبلًا"؛ إذ لا يمكن إعطاء صورة واضحة عن الوضع الحالي للتنظيم بمعزل عن تحليل جملة معولات يستند إليها، ومن خلال الربط بين تلك المعولات والأهداف التي يبتغيها التنظيم سيتجلى لنا كثير من العوامل التي تسهل فهم إستراتيجيات التنظيم وخططه المستقبلية. والحلقة الأولى من هذه السلسلة مخصصة للولايات البعيدة للتنظيم.

الخلفية التاريخية

قبل سنوات تجاوزت العشر أذاب داعش الحدود بين العراق وسوريا، وسيطر على مساحات منهما اتخذها مقرًّا لخلافة مزعومة. ضمت تلك الخلافة ما أطلق عليه زعمًا: "ولايات" خارج حدودها تدين تلك بالولاء لزعيم التنظيم. وقد شملت تلك الولايات المزعومة مناطق في إفريقيا وشرق آسيا والقوقاز... ليتولى ولاة تلك الولايات أدوار "حاكم الولاية"، وليشكلوا همزة وصل بين قيادة التنظيم وعناصره في ولاياتهم. ويوجد تحت إمرتهم مجموعة مساعدين، يُسمى بعضهم "أمراء حرب" - وهم شخصيات عسكرية، فضلًا عن اختصاصات أخرى مثل أمراء التجنيد وأمراء التمويل...

وقد تفاوتت قوة تلك الولايات وضعفها في السنوات الماضية لاعتبارات تتعلق بموقع تلك الفروع وسياسات الحكومات في مكافحة الإرهاب في مناطق تلك الولايات، فضلًا عن إستراتيجيات التنظيم تجاه تلك المناطق. وقد دفعت الهزائم التي لحقت بداعش إلى إعادة هيكلة تلك الولايات وتقليصها من ٣٥ ولاية إلى ١٤ ولاية، فبعد فقدان التنظيم سيطرته المكانية أعاد تشكيل هيئته بما يناسب المعطيات الجديدة، وخاصة بعد فقدانه كثيرًا من قياداته في الأعوام الماضية وفقًا لتقريرٍ نشره "مركز السياسات الدولية" نقلًا عن موقع "الحرة" في ٨ من يوليو ٢٠٢٠. كما حافظ التنظيم على نهج اللا مركزية الذي عُرف به، فالولاية البعيدة وإن كانت مبقية على هيكلها الإداري وفق قواعد التنظيم إلا أنها تغيرت من ناحية إستراتيجية عملها وتواصلها مع القيادة الأم وفق المستجدات التي تطرأ عليه، كما هي الحال بالنسبة إلى ولاية خراسان المزعومة على سبيل المثال.

صورة ترسيمية لولايات داعش

ينشط داعش الآن في سوريا بمجموعات تنتشر في منطقة البادية، وفي العراق يأخذ شكل مفارز تتكون من أعداد محدودة وشرسة في الوقت ذاته، كما يقول الخبراء. وخارج نطاق البلدين فللتنظيم وجود في أفغانستان وباكستان تحت اسم "داعش- خرسان". ووفق تقديرات الأمم المتحدة في عام ٢٠٢١ فإن هذه الولاية المزعومة لديها نحو ٢٢٠٠ مقاتل متمركزين في مدينتي "كونار" و"نانجارهار". وفي عام ٢٠١٥ أعلن التنظيم عن ولاية "القوقاز" المزعومة، وهي المسئولة عن هجمات "داغستان" الأحدث في يونيو ٢٠٢٤.

وللتنظيم وجود في إفريقيا. وتعد ولايتي "غرب إفريقيا" و"وسط إفريقيا" من أكثر فروع التنظيم نشاطًا فـي الأشهر الماضية؛ حيث نفذتا عمليات كبيرة نسبيًّا، واحتلتا بعض الأراضي والبلدات فـي بعض الدول، ولو بصفة مؤقتة، فضلًا عن تأمين مزيد من مصادر التمويل. وفي عام ٢٠٢٢ أعلن التنظيم عن ولاية "موزمبيق" المزعومة؛ وكلها أدوات إعلامية يستغلها التنظيم في الترويج لنفسه.

إستراتيجية التمدد من خلال الفروع

رفع التنظيم شعار: "باقية وتتمدد" وسعى من ورائه إلى رسم صورة تخرجه من كونه جماعة قتالية تقتصر على بقعة بعينها إلى كونه عنصر جذب عالمي يستقطب أتباعًا من الخارج. وهذا الشعار لا يقتصر على التوسع الجغرافي فحسب، بل يشمل أيضًا توسع النفوذ بهدف تعزيز قابلية مشروعه التوسعي للاستمرار. وقد شكلت تلك الإستراتيجية نقطة جذب للبعض من الجنسيات الأجنبية التي انخدعت بالدعاية الإرهابية ورأت في التنظيم حلم المدينة الفاضلة.

وقد اعتمدت إستراتيجية داعش في البقاء والتمدد على عوامل متعددة، منها: الواقعية فيما يتعلّق بالإدارة والسيطرة على الأراضي، وتسييس السكان وحكمهم لتحقيق حلم الخلافة الموهوم، وجذب مقاتلين أجانب، واستخدام الإعلام أداةً للسيطرة على العقول وتجنيد المقاتلين وجمع الأموال، وتطوير إستراتيجية عسكرية لشن الهجمات، فضلًا عن الانخراط في صراعات وجودية مع التنظيمات المتطرفة الأخرى لإثبات الذات، واستغلال الكوارث والأزمات التي تطفو على مسرح الأحداث في تنفيذ مآربه.

وتأتي حرب غزة في هذا الصدد في الصدارة باعتبارها فرصة سانحة سعى التنظيم لاستغلالها في توجيه مسارات الغضب الجماهيري تجاه خصومه، إذ دعا داعش أتباعه وذئابه المنفردة إلى شن هجمات انتقامية على مستوى العالم وخصوصًا في الغرب، معتبرًا ذلك ثأرًا للفلسطينيين، كما دعاهم إلى استخدام آلياته في هذه العمليات من طعن أو دهس أو استخدام الأحزمة الناسفة، ليُسّهل بذلك نسبتها إليه.

وعلى الرغم من أن الفكر المتطرف الذي يتبناه داعش له عظيم الدور في تحديد طبيعته، فإن أهدافه الإستراتيجية ليست مرتبطة بذلك الفكر وحده، بل تنشد امتلاك القوة والنفوذ والموارد البشرية والمالية على حد سواء، لذا فإن حلم إقامة الخلافة المزعومة لا يعد معقل آماله أو جل ما يعول عليه، بل هو مجرد بداية في عقيدة التنظيم.

ساحات بديلة

نهض العامل الجغرافي بدور في تقوية ولايات داعش البعيدة، فالتضاريس الجبلية والمناطق الوعرة لبعض البلدان تسهم في سهولة تخفي أفراد التنظيم، ما جعلها ساحات بديلة يعتمد عليها داعش في إعادة الهيكلة. فبعد هزيمته في سوريا والعراق اتبع إستراتيجية إسقاط المدن، ولجأ أفراده إلى الصحاري والقرى المهجورة والانطلاق منها في شن هجمات ذات طابع فردي. وفي الوقت ذاته حافظ التنظيم على إستراتيجية الجغرافية المتلاصقة عن طريق وجوده في المناطق القريبة بين الدول، مثل الحدود الأفغانية الباكستانية، أو الحدود السورية العراقية.

وترتكز هذه الرؤية الجغرافية على إمكانية أن تصبح حدود تلك الدول جسورًا يعبر من خلالها مقاتلو التنظيم إلى أوروبا ودول وسط آسيا وروسيا، ما ينذر بكارثة حقيقية بالنظر إلى ما أشرنا إليه من دعوات داعش للأخذ بالثأر من تلك البلاد.

ومن الملاحظ أنه كلما قويت فروع داعش –لا سيما التي تتمكن من تنفيذ هجمات إرهابية قوية- اشتد التنظيم في المركز، ما يشير إلى وجود صلات وثيقة بين مركز التنظيم وفروعه بحكم وجود علاقات تكاملية ودعم متبادل، بخلاف ما كان متوقعًا من تنافسها على من تؤول إليه مقاليد الأمور في التنظيم.

واستنادًا إلى ما سبق، ترسم المعطيات السابقة صورة تحذيرية مفادها أن قوة داعش في ولاياته البعيدة تعضد قوته في معاقله الرئيسة، ويستغلها التنظيم إعلاميًّا بقوة، وإن نظرة واحدة إلى أي بوقٍ إعلامي من أبواق التنظيم تؤكد هذه الصورة؛ وهو ما يجب رصده والانتباه له مع الوضع في الاعتبار ضرورة أن توضع مكافحة داعش في إطارها الكلي.

وإذ يستغل داعش الأزمات العالمية والصراعات الدولية بجعلها معطيات أساسية في المعادلة الدولية، وليكون اسمه حاضرًا في المشهد الإعلامي، وليحظى بمزيد من القوة والأموال والمجندين، فإنه يسعى على الدوام إلى إعادة هيكلة تلك الولايات البعيدة، مستغلًا الفراغات الأمنية في بعض المناطق التي تشهد صراعات مستمرة. والهدف من هذه الولايات هو أن تصبح مراكز لانطلاق العمليات الإرهابية، وقواعد لتجنيد المقاتلين، ومصادر لتمويل الأنشطة الإرهابية. وفي ظل التغيرات الجيوسياسية المتسارعة، والنزاعات المسلحة، والظروف الاقتصادية الصعبة التي تعانيها بعض الدول، فإن هذه الولايات تجد بيئة خصبة للتمدد. وقد أثبتت الأحداث الماضية أن هذه الولايات قادرة على شن هجمات إرهابية قوية إلى حد ما، ما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن والاستقرار الدوليين. إن مواجهة هذا التهديد يتطلب تضافر جهود المجتمع الدولي، وتبني إستراتيجيات شاملة في القلب منها تجفيف منابع التطرف.

المراجع:

  1. https://www.imctc.org/ar/eLibrary/Articles/Pages/article06.12.2021.aspx
  2. https://www.alhurra.com/arabic-and-international/2024/03/27/%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D9%83%D8%B2-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%B9-%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%B7%D8%A9-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B4%D8%A7%D8%B1-%D8%AA%D9%86%D8%B8%D9%8A%D9%85-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85
  3. https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/am-wahd-ly-khrytt-anshtt-tnzym-aldwlt-alaslamyt-ly-alsyd-alalmy
  4. https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/am-wahd-ly-khrytt-anshtt-tnzym-aldwlt-alaslamyt-ly-alsyd-alalmy
  5. https://www.bbc.com/arabic/articles/cp9v2wx9xkno