تعد الهجرة غير الشرعية من أبرز القضايا التي تواجه أوروبا في القرن الحادي والعشرين، حيث أصبحت تمثل تحديات معقدة ومتعددة الأبعاد تشمل الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية. ومع تزايد أعداد المهاجرين غير الشرعيين الذين يسعون إلى الوصول إلى أوروبا هربًا من الفقر والصراعات في بلدانهم، برزت ظاهرة خطيرة تمثلت في استغلال التنظيمات الإرهابية لهذه الموجات البشرية لتحقيق مكاسب مالية وإستراتيجية، حيث يُفرض على المهاجرين رسوم عبور كبيرة لضمان وصولهم إلى أوروبا. تستفيد كذلك التنظيمات الإرهابية المتطرفة مثل: "داعش" و"القاعدة" و"بوكو حرام" من الفوضى المرتبطة بالهجرة غير الشرعية لتمويل أنشطتها وعملياتها الإرهابية، وتجنيد الأفراد، وشراء الأسلحة، وتوسيع النفوذ في المناطق التي تشهد ضعفًا أمنيًّا، ما جعل هذا الملف يمثل تهديدًا مباشرًا لأمن الدول الأوروبية واستقرارها، وعلى رأسها إسبانيا، حيث تعد البوابة الجنوبية لأوروبا.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك أرباحًا ضخمة يجنيها من يسيطرون على مسارات الهجرة غير الشرعية، لكن بعض التنظيمات الإرهابية لا تكتفي بالاستفادة المالية من الهجرة غير الشرعية، بل تقوم بتجنيد بعض المهاجرين غير الشرعيين في صفوفها، من الذين يعانون من ظروف اقتصادية ونفسية صعبة. ويجد هؤلاء الأفراد أنفسهم ضحية للتجنيد الإرهابي مقابل وعود بالمال أو تحسين أوضاعهم المعيشية. وفي بعض الأحيان يُجبرون على تنفيذ هجمات إرهابية كجزء من خطة أكبر تهدف إلى زعزعة استقرار الدول الأوروبية.
وفي هذا السياق أشارت جريدة "بوث بوبلي" الإسبانية، في 23 أكتوبر 2024، إلى أنه في ظل تزايد تدفق الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا والربط بين تلك الهجرة والإرهاب، نشرت الحكومة الإسبانية بيانًا رسميًّا يشير إلى إمكانية أن تستغل التنظيمات الإرهابية مثل "داعش" و"القاعدة" تدفقات الهجرة إلى أوروبا لكي تُسَلِّل عناصرها إلى دول القارة العجوز.
وفي ظل هذه الظروف، يصبح ملف الهجرة أداة مزدوجة التهديد، حيث يمتزج الأمل في الهروب من الصراعات والفقر بتهديد الإرهاب الذي قد يتخفى في جموع المهاجرين. وأكدت الحكومة الإسبانية في بيانها أن التنظيمات الإرهابية قد تستغل طرق الهجرة غير النظامية للوصول إلى أوروبا، محذرة من أن تدفق المهاجرين غير النظاميين قد يشكل نافذة لهؤلاء المتطرفين. يأتي هذا البيان في وقت يتزايد فيه الضغط السياسي من بعض الأحزاب مثل "فوكس" اليميني المتطرف. وتؤكد الإحصائيات وجود زيادة كبيرة في عدد المهاجرين غير النظاميين إلى إسبانيا، حيث وصل عددهم إلى أكثر من 45 ألف مهاجر في عام 2024، ويتخذون من جزر الكناري وجهة رئيسية لهم.
ورغم أن الغالبية العظمى من هؤلاء الأشخاص هم ضحايا الظروف الاجتماعية والاقتصادية، فإن الأجهزة الأمنية رصدت بالفعل حالات نادرة لاستغلال الإرهابيين لهذه التدفقات. وأحد الأمثلة الواضحة على ذلك كان وصول ثلاثة أفراد مرتبطين بالفكر المتطرف إلى إسبانيا عبر قارب مهاجرين في عام 2020، وقد أدينوا بتهم تتعلق بالإرهاب. ومن ناحية أخرى لا يقتصر تهديد الإرهاب على "داعش" في الشرق الأوسط فقط؛ إذ أشار تقرير للحرس المدني الإسباني في بداية عام 2024 إلى أن "داعش خراسان"، جناح التنظيم في أفغانستان، يمتلك إمكانيات كبيرة لشن هجمات في الغرب، بما في ذلك إسبانيا. وتعزز هذه المخاوف الحاجة إلى تقوية التعاون الأمني بين الدول الأوروبية ودول المصدر لمنع استغلال الإرهابيين لتدفقات الهجرة.
كما أشارت صحيفة "لا جاثيتا" الصادرة بالإسبانية، في 30 سبتمبر 2024، إلى دراسة أعدتها الباحثة العسكرية والخبيرة الإسبانية في شؤون الإرهاب "إينماكولادا أنتونيث أوليباس"، التي ذكرت فيها أن المسارات الجديدة للهجرة غير الشرعية عبر "جزر الكناري" في إسبانيا أصبحت مصدرًا رئيسيًّا لتمويل الإرهاب الدولي، وخاصة منطقة الساحل الإفريقي. في حين تزداد صعوبة مسارات الهجرة عبر ليبيا إلى إيطاليا، تحولت "جزر الكناري" الإسبانية إلى وجهة رئيسية لعصابات الاتجار بالبشر التي تستغلها التنظيمات الإرهابية لتمويل أنشطتها في منطقة الساحل. وتتناول القائدة "إينماكولادا" في أطروحتها الأكاديمية المكونة من 332 صفحة الطرق المختلفة التي تستخدمها التنظيمات الإرهابية مثل داعش والقاعدة لتمويل عملياتها. وتستفيد هذه التنظيمات من شبكات الجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية لتأمين مواردها المالية. كما أشارت إلى استخدام هذه التنظيمات لأنظمة مالية موازية مثل "الحوالة" والمنصات المالية الإلكترونية، وتهريب البشر لتمويل عملياتها الإرهابية. وأوضحت أن منطقة الساحل الإفريقي تشكل تهديدًا أمنيًّا متزايدًا لإسبانيا وأوروبا بوجه عام، حيث تهيمن التنظيمات المتطرفة على شبكات الجريمة المنظمة، وتربط بين الإرهاب والأنشطة الإجرامية العابرة للحدود. وفي هذا السياق تصبح جزر الكناري مركزًا جديدًا للتحركات الإجرامية المتعلقة بتهريب البشر.
ومن أهم المحاور الرئيسية التي تناولتها الدراسة تحول جزر الكناري إلى قناة رئيسية لتهريب البشر، وهي التي تستغلها التنظيمات الإرهابية لتمويل عملياتها. وبسبب التشديد على طرق الهجرة عبر ليبيا، أصبحت الرحلات إلى جزر الكناري أكثر ربحية لتلك التنظيمات. حيث تستفيد التنظيمات الإرهابية بشكل مباشر من أموال المهاجرين الذين يعبرون هذه الطرق. ووفقًا لهذا التحليل، فإن وصول قوارب المهاجرين إلى جزر الكناري ليس مجرد أزمة إنسانية، بل يشكل تهديدًا أمنيًّا كبيرًا لإسبانيا وأوروبا. وتدير التنظيمات الإرهابية هذه العمليات من خلال شبكات متطورة تمزج بين التهريب والإرهاب، وهو ما يزيد من تعقيد المشهد الأمني في المنطقة. ويتفق هذا التحليل مع تقرير النيابة العامة الإسبانية لعام 2023، الذي يسلط الضوء على الهجرة غير الشرعية باعتبارها مشكلة متعددة الأبعاد تتطلب تعاونًا دوليًّا لمواجهتها. وأشار التقرير إلى أن التنظيمات الإرهابية تستغل الهجرة غير الشرعية لتمويل أنشطتها كما ذكرنا، كما تستخدم هذه العصابات شبكات التهريب في أنشطة مثل تجارة المخدرات والجرائم العابرة للحدود. ويعتبر الساحل الأفريقي اليوم واحدًا من أكثر المناطق اضطرابًا نتيجة لهذا التعاون بين الجريمة المنظمة والإرهاب، ما يجعل جزر الكناري نقطة حساسة في المشهد الأمني الأوروبي.
استغلال اليمين المتطرف قضية الهجرة غير الشرعية لتأجيج الكراهية والعنصرية
وفي ظل وصول أكثر من 45 ألف مهاجر غير نظامي إلى إسبانيا خلال عام 2024، تزداد المخاوف من استغلال الإرهابيين المتزايد لهذه الهجرة. كما ذكرت صحيفة "مرسية أكتواليداد" الإسبانية، في 30 سبتمبر 2024، إلى أنه في أعقاب وقوع محاولة دهس جماعية في بلدة "سيثا" بمقاطعة مرسية الإسبانية، نُسبت لشخص من أصول مغربية، دعا حزب "فوكس" اليميني المتطرف في إسبانيا إلى تنفيذ ترحيلات جماعية للمهاجرين غير الشرعيين. وقد دفعت هذه الحادثة -التي كان يمكن أن تؤدي إلى كارثة كبيرة- الحزب إلى تجديد انتقاداته الحادة للسياسات الحكومية بشأن الهجرة، متهمًا الأحزاب الكبرى مثل الحزب الاشتراكي والحزب الشعبي بالتسبب في مثل هذه الحوادث عبر "سياسات هجرة غير مسؤولة".
ويرى حزب "فوكس" أن الحادثة في مرسية جاءت نتيجة مباشرة لما يسميه "تراخي" الحكومة في حماية الحدود، والسماح بدخول أعداد كبيرة من المهاجرين غير الشرعيين. ويذهب الحزب إلى أبعد من ذلك حينما يحمِّل الحزبين الحاكمين مسؤولية ما وصفه بـ "التهديد الأمني"، متهمًا إياهما بخلق ما يُعرف بـ "تأثير الدعوة"، الذي يشجع المهاجرين على القدوم بشكل غير قانوني. ويشير "فوكس" إلى أن تلك السياسات، بما في ذلك برامج المساعدة المقدمة للمهاجرين غير الشرعيين، تعزز من عمل عصابات تهريب البشر، وتفاقم من أزمة الأمن في البلاد. ويتبنى الحزب موقفًا متشددًا يدعو إلى "إنهاء أشكال المساعدة كافة للمهاجرين غير الشرعيين"، ورفض أية محاولات لتسوية أوضاعهم.
والجدل الذي أثاره حزب "فوكس" ليس جديدًا في إسبانيا، لكنه يتجدد مع كل حادثة تتعلق بالمهاجرين، وخاصة تلك التي ترتبط بجرائم أو حوادث أمنية. ومن جانب آخر، فإن سياسات "فوكس" قائمة على الخوف والتفرقة التي تؤدي إلى تأجيج الكراهية والعنصرية في المجتمع؛ لذا فإن من الضروري وضع سياسات هجرة إنسانية تأخذ في الاعتبار حقوق الإنسان والقيم الأوروبية التي تعزز من التضامن والتكامل الاجتماعي. كما أن الغالبية العظمى من المهاجرين يسعون إلى حياة أفضل بعيدًا عن الفقر والصراعات، وليس إلى ارتكاب جرائم.
كما سلطت جريدة "ليبرتاد ديخيتال" الإسبانية، في 17 أكتوبر 2024، الضوء على تنامي الأصوات اليمينية المتطرفة التي تنتقد سياسات الهجرة وتطالب بتشديدها في أوروبا. وفي هذا الإطار وصف "سانتياجو أباسكال"، رئيس حزب "فوكس" الإسباني اليميني المتطرف، الحكومة الإسبانية بأنها "الأكثر تطرفًا" في سياساتها المتعلقة بالهجرة. تأتي هذه التصريحات بالتوازي مع مواقف مماثلة لزعماء اليمين المتطرف في أوروبا، مع ربط الهجرة بتحديات الأمن والهوية الأوروبية، مشيرين إلى أن "الإسلام السياسي والإسلام المتطرف" -على حد وصفهم الخبيث- يفرضان مشكلات كبيرة على أوروبا. ويستغل اليمين المتطرف الربط بين الهجرة والإرهاب في سياق الهجمات الإرهابية الأخيرة التي شهدتها بعض الدول الأوروبية. ومع ذلك، يغفل هذا الربط التعقيد الحقيقي للظاهرة، حيث تخلط هذه الأحزاب بين المهاجرين الفارين من الحروب والأزمات الاقتصادية وأقلية صغيرة جدًّا تمارس الفكر المتطرف. ويؤدي ذلك إلى تضليل الرأي العام وخلق تصور خاطئ عن الهجرة.
ويرى قادة اليمين المتطرف، مثل "أباسكال" ورئيس الوزراء المجري "فيكتور أوربان"، أن زيادة عدد المهاجرين المسلمين تشكل تهديدًا للهوية الأوروبية، إذ يفترضون أن هؤلاء المهاجرين يسعون إلى تغيير الثقافة الأوروبية بدلًا من الاندماج فيها. ولكن الواقع يظهر أن الغالبية العظمى من المهاجرين تسعى إلى العيش في سلام وللاندماج في المجتمعات المضيفة، غير أن الشعارات القومية المتعصبة قد تؤدي إلى عزلهم.
وفي هذا السياق، يحذر مرصد الأزهر لمكافحة التطرف من الخطابات التي تعزز التفرقة والكراهية في أوروبا، مشددًا على ضرورة تبني سياسات هجرة متوازنة تحترم حقوق الإنسان وتعمل على معالجة الأسباب الجذرية للهجرة مثل الحروب والأزمات الاقتصادية.
ويحذر المرصد من التهديدات المتزايدة الناتجة عن العلاقة بين الهجرة غير الشرعية وتمويل الإرهاب. كما يدعو إلى ضرورة التعامل مع الجذور الاجتماعية والاقتصادية لهذه الظاهرة وتوعية المجتمعات المحلية بخطورتها، مشددًا على أهمية التعاون الإقليمي والدولي لتفكيك شبكات الجريمة المنظمة، ومنع استغلال الهجرة غير الشرعية كوسيلة لتمويل الإرهاب.
كما يشدد مرصد الأزهر على ضرورة التعامل بحذر مع الخطاب السياسي الذي يربط الهجرة غير الشرعية بالإرهاب، أو الجريمة؛ إذ إن الهجرة ظاهرة عالمية لا يمكن اختزالها في البعد الأمني فقط، بل يجب أن تتم معالجتها من خلال سياسات شاملة تركز على الأسباب الجذرية للهجرة مثل الفقر والصراعات كما ذكرنا. ويؤكد المرصد أن خطاب "فوكس" الذي يطالب بترحيلات جماعية يؤدي إلى مزيد من التوترات المجتمعية ويغذي الكراهية ضد الأجانب، وهو ما يتسبب في وجود تداعيات سلبية على التعايش السلمي داخل المجتمعات الأوروبية. كما أن التعامل مع الهجرة يجب أن يتجاوز الحلول الأمنية القمعية إلى تبني سياسات اجتماعية واقتصادية أكثر شمولًا، تسهم في دمج المهاجرين بشكل إيجابي داخل المجتمع.
ويؤكد المرصد على ضرورة الفصل بين مفهوم الهجرة بوصفه حقًّا إنسانيًّا مشروعًا وبين الإرهاب الذي هو عمل إجرامي يستغل المعاناة الإنسانية لتحقيق أهدافه، خاصة وأن الربط العشوائي بين المهاجرين والإرهابيين يضر بالسلم الاجتماعي.
وحدة رصد اللغة الإسبانية