الفضاء الرقمي
في غضون سنوات قليلة انتقل تنظيم داعش الإرهابي من كونه تنظيمًا محليًّا إلى شبكة عالمية معقدة وممتدة إلى أماكن مختلفة. وقد كان هذا التحول مدفوعًا إلى حد كبير باستغلال التكنولوجيا الحديثة. إذ استغل داعش قدراته الرقمية التي استمدها من تجنيد عناصر متخصصة فى المجال الرقمي وتكنولوجيا المعلومات، واستطاع أن يوازي بين وجوده المادي وامتداده الافتراضي، مما مكّنه من خداع قاعدة جماهيرية ليست بالصغيرة في بعض الأماكن.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هناك فرق بين الخلافة التي أراد داعش إقامتها على الأرض والخلافة التي بناها في الفضاء الإلكتروني؟ الإجابة تتطلب فهمًا لأيديولوجية التنظيم وأهدافه، وتحليل الصورة الذاتية التي يقدمها عن نفسه، وكيف تغيرت هذه الصورة مع مرور الوقت، ومعرفة أهمية الجهاز الدعائي الداعشي في ضوء تطوره الرقمي، وكيف أثبت هذا التنظيم قدرته على التأثير على الأفراد عبر الفضاء الإلكتروني.
وسنتناول ذلك على النحو الآتي:
أهمية الفضاء الإلكتروني في نظر تنظيم داعش
لعب الفضاء الإلكتروني دورًا محوريًّا في صعود تنظيم داعش وتطوره، إذ جعله التنظيم أداة للتواصل والتجنيد وبناء مجتمع افتراضي متماسك ومتطرف. وكانت نتيجة ذلك استقطاب أعداد كبيرة من دول مختلفة.
كما وظّف التنظيم الفضاء الإلكتروني في نشر الفكر المتطرف، ولنا المثل في ذلك في خطاب "أبو بكر البغدادي" من على منبر مسجد النوري الكبير في الموصل، إذ قام التنظيم بعد ساعة من انتهاء الخطاب بنشره في الفضاء الرقمي بمختلف اللغات. كما نشر التنظيم عبر هذا الفضاء أيضًا خطابات متحدثيه الإعلاميين والمجلات والصحف المختلفة مُدشنًا إستراتيجية إعلامية قائمة على مجموعة من الأسس من أخطرها إضفاء العنف على التعاليم الدينية وتجريدها من مبادئ الرحمة والتسامح وقبول الآخر...
كما استغل التنظيم الفضاء الإلكتروني في إستراتيجيته التوسعية، إذ كان ينشر مشاهد القتل والعنف ويروجها ليرعب أهالي القرى والمدن التي كان يخطط للاستيلاء عليها، ومن ثم كان كثير من الأهالي يفرون من أمامه إلى مناطق آمنة ويتركون بيوتهم التي يستولي عليها التنظيم، ويوزعها على أفراده بعد ذلك.
ويشجع داعش أفراده باستمرار على الوجود في الفضاء الإلكتروني، ويصدر لهم فتاوى تلزمهم بهذا السلوك في ضوء مسوغات شرعية زائفة تعتمد تحريف النصوص الدينية واجتزائها من سياقتها.
تطور إستراتيجية داعش الرقمية
استغل تنظيم داعش التطور التكنولوجي بشكل استثنائي لتعزيز أنشطته الإرهابية، واعتمد على شبكة معقدة من الأدوات الرقمية. وقد لجأ التنظيم إلى تقنيات التشفير المتقدمة والشبكة المظلمة لإخفاء اتصالاته وتمويلاته، واستخدم وسائل التواصل الاجتماعي بنشاط لنشر الدعاية وتجنيد المتطرفين. كما اعتمد على العملات المشفرة وتطبيقات المواعدة لتسهيل تحويل الأموال والتواصل الآمن بين أتباعه. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أنشأ داعش منصات إلكترونية خاصة به تعمل مدارسَ افتراضية لتدريب الإرهابيين على تنفيذ عملياتهم، مما يظهر مدى استيعاب التنظيم للتكنولوجيا الحديثة وتوظيفها لخدمة أهدافه الإرهابية.
الذكاء الاصطناعي: تهديد جديد يلوح في الأفق
استغل تنظيم داعش الذكاء الاصطناعي في تطوير قدراته بشكل كبير. وقد تمكن من الاستفادة منه في توليد محتوى دعائي ضخم وخادع، وتحليل كميات هائلة من البيانات لتحديد الأهداف وتجنيد الأفراد، وتقديم كم من المعلومات والأخبار الزائفة عبر تقنيات التزييف العميق، وتطوير طرق تشفير أكثر تعقيدًا لحماية اتصالاته، وتحليل المعلومات المرئية لتخطيط الهجمات بدقة.
كما استخدم التنظيم تقنية "التزييف العميق" (Deepfake) لتوليد مقاطع فيديو مزيفة تحاكي الواقع، فعلى سبيل المثال جرى تداول مقطع فيديو مدته 92 ثانية على منصة خاصة تابعة للتنظيم الإرهابي، يظهر فيه مذيع أخبار يرتدي زيًّا عسكريًّا ويقول: إن الهجوم كان جزءًا من "السياق الطبيعي للحرب المشتعلة بين التنظيم والدول التي تحارب الإسلام" ، وذلك بعد 4 أيام من هجوم "داعش" على حفل موسيقي في روسيا في مارس الماضي.
وقد أكدت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية أن المذيع كان "مزيفًا" صُمم بواسطة الذكاء الاصطناعي، عبر برنامج يسمى "نيوز هارفست".[1]
أسباب نجاح الإستراتيجية الرقمية لداعش
تمكن داعش من تحقيق تقدم ملحوظ في إستراتيجيته الرقمية بفضل مجموعة من العوامل المتداخلة، أبرزها سهولة الوصول إلى شبكات التواصل الاجتماعي التي وفرت منصة مثالية لنشر الدعاية وتجنيد الشباب، إضافة إلى توفير بيئة آمنة وخاصة للتواصل والتخطيط بعيدًا عن الرقابة.
وقد وظف التنظيم نقاط الضعف النفسية والاجتماعية لدى الشباب، مستغلًّا قدرته على التأثير على العقول من خلال لغة دينية وعاطفية مشحونة، مما أسهم في جذب أعداد كبيرة من الأفراد وتوسيع نفوذه بشكل كبير.
كما ركز التنظيم على إخراج إنتاج مرئي ومسموع ومقروء بصورة تضاهي نظيرتها في وسائل الإعلام الكبرى من حيث الشكل والصور واللغة، واستخدم مصطلحات تشجيعية لأفراده من أجل الوجود الإعلامي مثل: "الجهاد الإعلامي"، و"الثغور الإعلامية"، و"فرسان الإعلام"....
الخلافة الرقمية
مما سبق نعرج إلى محور مهم للغاية وهو الخلافة الرقمية عند داعش، ولن يتسع المقام لدينا إلى تجليته بشكل تام، لكننا سنعرض كيف يعول عليه التنظيم مستقبلًا، استنادًا على جملة المعطيات التي عرضناها آنفًا.
تعتمد الخلافة الافتراضية لتنظيم داعش على إستراتيجية متكاملة لتجنيد كوادرها وتشجيعهم على الانبساط عبر الفضاء الرقمي. فبعد جذب المتعاطفين عبر منصات التواصل، تقوم بتزويدهم بالمهارات التقنية اللازمة لشن هجمات إلكترونية، وذلك من خلال برامج تدريبية تقدمها مؤسسات تابعة لها مثل مؤسسة آفاق الإلكترونية،الذراع التكنولوجي للتنظيم، كما تبث تدريبات متقدمة في مجال الأمن السيبراني والقرصنة لمتابعيها.
وتشمل هذه الدورات برامج تعليمية مكثفة في استخدام أدوات تقنية متطورة مثل لينكس وميتاسبلوت، والتي تمكنهم من شن هجمات معقدة. إضافة إلى ذلك، تدرب المؤسسة أفراد التنظيم على أساليب التضليل والخداع الإلكتروني وكيفية جمع المعلومات الاستخباراتية من مصادر مفتوحة. وبفضل هذه التدريبات، يتمكن أتباع التنظيم من نشر الدعاية الإرهابية بفعالية أكبر، والتحرك بحرية في الفضاء الإلكتروني، متفادين جهود منصات التواصل الاجتماعي في حذف أي محتوى.
لماذا يعول داعش على الخلافة الافتراضية المزعومة؟
جملة من الافتراضات لتعويل داعش على الخلافة الافتراضية قمنا بصياغتها استنادًا على ما تشهده الساحة العامة من أحداث، نجملها فيما يلي: تُشكل الخلافة الرقمية التي أقامها تنظيم داعش تهديدًا متزايدًا للأمن العالمي، إذ تمكن التنظيم من تحويل الفضاء الإلكتروني إلى ساحة عمليات واسعة النطاق. فبفضل هذه الخلافة الافتراضية، تمكن داعش من توسيع نطاق تجنيده وتأثيره على مستوى العالم، وتعزيز قدرته على البقاء حتى بعد خسارته لأراضيه، وصعّب على الأجهزة الأمنية تتبع أنشطته ومراقبة اتصالات أعضائه. كما أسهم هذا الفضاء في تسهيل التخطيط والتنفيذ للهجمات الإرهابية ونشر الفكر المتطرف بشكل أكثر سرية وأمانًا، ونشر الدعاية والتأثير على الرأي العام على نطاق واسع ، فضلًا عن تسهيل عمليات غسيل الأموال والتمويل. وبالتالي، فإن الخلافة الرقمية المزعومة تمثل تحديًا جديدًا ومعقدًا لمكافحة الإرهاب.
ختامًا، يشكل صعود تنظيم داعش في الفضاء الرقمي تحولًا جذريًّا في طبيعة الصراع ضد الإرهاب. فبعد أن كان التنظيم يعتمد على السيطرة على الأراضي، انتقل إلى بناء "خلافة افتراضية" تمتد عبر القارات، تستغل أحدث التقنيات لتجنيد الأنصار ونشر الفكر المتطرف وتنسيق العمليات الإرهابية. هذا التحول يضعنا أمام تحدٍّ مستمر يتطلب منا مواكبة تطور أدوات التنظيم وتطوير إستراتيجيات جديدة لمواجهته.