الجماعات المتطرفة

 

06 فبراير, 2025

مستقبل داعش الإرهابي.. بين التمدد والانحسار

     استند تنظيم داعش الإرهابي إلى منطلقات فكرية متطرفة أسهمت في رسم صورة الخلافة المزعومة، وحولت داعش من مجموعة مسلحة إلى تنظيم يتبع إستراتيجيات تقوم على خطط تواكب الأوضاع التي يمر بها، فضلًا عن الحواضن الشعبية التي تكفلها له المحركات الدعائية التي تستغل الأحداث الساخنة مثل حرب غزة، وكذلك المناطق التي تعج بالفتن الطائفية. وإن نظرة إلى سيرة التنظيم تؤكد أن الخسائر البشرية والمادية التي يتعرض لها، لا تعني نهايته، لأن قوة التنظيم لا تتمركز حول قادته أو إمكانته المادية فقط، بل تعتمد على جملة متغيرات أخرى مثل الاستقطاب ووسائل الحشد والتعبئة واستعادة الهيكلة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل سيواصل هذا التنظيم سعيه لإنشاء خلافة تمكينية (وفقًا لخطابه) مرة أخرى؟ أم سيستمر في خلافته الافتراضية المزعومة؟ وهل سيسعى إلى بسط نفوذه على جهات أخرى غير تلك التي كان يتمركز بها، أم سينشئ له موطأ قدم تكفل له منطلقًا لعملياته الإرهابية؟ وما هي أهم المحددات المؤثرة في تعاظم دور التنظيم أو العكس؟؟؟؟؟

نجيب على هذه التساؤلات من خلال دراستنا الحالية. إذ لا يمكن إعطاء صورة واضحة عن الوضع الحالي للتنظيم بمعزل عن تحليل جملة معولات يستند إليها، ومن خلال الربط بين تلك المعولات والأهداف التي يبتغيها التنظيم ستتجلى لنا عوامل كثيرة تُسهل فهم إستراتيجيات التنظيم وخططه. ونعرض لتلك المعولات كما يلي:

أولًا الولايات البعيدة:

           لا يمثل داعش مجرد تهديد عابر، بل يشكل منظومة تمتد جذورها في عمق الصراعات الإقليمية والدولية. فبعد أن فقد التنظيم سيطرته على مساحات واسعة في سوريا والعراق، لم يَنْهَرْ بل تحول إلى شبكة معقدة من الولايات البعيدة التي تعمل بشكل مستقل، مع الحفاظ على الولاء للتنظيم. هذه الولايات البعيدة المنتشرة في مناطق مختلفة من العالم، تشكل تحديًا جديدًا لمكافحة الإرهاب، إذ تعمل على إعادة إنتاج نفسها وتوسيع نفوذها في ظل الظروف المتغيرة.

الخلفية التاريخية

قبل سنوات تجاوزت العشر أذاب داعش الحدود بين العراق وسوريا، وأطلق على الأراضي التي يسيطر عليها فيهما اسم "ولايات"[1]. كما شملت ولاياته المزعومة مناطق أيضًا في أفريقيا وشرق آسيا والقوقاز..... ويقوم ولاة تلك الولايات بدور حاكم الولاية، ويشكلون همزة وصل بين قيادة التنظيم وعناصره في ولاياتهم. ويوجد تحت إمرتهم مجموعة مساعدين، يُسمى بعضهم: "أمراء حرب" وهم شخصيات عسكرية، فضلًا عن اختصاصات أخرى مثل أمراء التجنيد وأمراء التمويل وغيرهم[2].

وقد تراوحت قوة تلك الولايات وضعفها خلال السنوات الماضية، لاعتبارات تتعلق بموقع تلك الفروع وسياسات الحكومات في مكافحة الإرهاب في المناطق المتواجد بها تلك الولايات، فضلًا عن إستراتيجيات التنظيم تجاه تلك المناطق.

جدير بالذكر أن الهزائم التي لحقت بداعش أجبرته إلى إعادة هيكلة تلك الولايات وتقليصها من 35 إلى 14 ولاية[3]، فبعد فقدان التنظيم سيطرته المكانية أعاد تشكيل هيئته بما يناسب المعطيات الجديدة خاصة بعد فقدانه عددًا من قياداته في الأعوام الأخيرة، محافظًا على نهج اللا مركزية[4] الذي عُرف به، فالولاية البعيدة وإن كانت مبقية على هيكلها الإداري وفق قواعد التنظيم إلا أنها تغيرت من ناحية إستراتيجية عملها وتواصلها مع القيادة الأم وفق المستجدات التي تطرأ عليه، كما هو الحال بالنسبة لولاية خراسان المزعومة على سبيل المثال.

صورة ترسيمية لولايات داعش

ينشط داعش الآن في سوريا بمجموعات تنتشر في منطقة البادية السورية، وفي العراق يأخذ شكل المفارز التي تتكون من أعداد محدودة وشرسة في الوقت ذاته. وخارج نطاق البلدين يوجد في المناطق الحدودية بين أفغانستان وباكستان فيما يعرف إعلاميًّا باسم "داعش- خرسان". ووفق تقديرات الأمم المتحدة في عام 2021 فإن هذه الولاية المزعومة لديها حوالي 2200 مقاتل متمركزين في مدينتي "كونار" و"نانجارهار". وفي عام 2015 أعلن التنظيم عن ولاية "القوقاز" المزعومة، وهي المسئولة عن هجمات "داغستان" الأخيرة في يونيه 2024[5].

وللتنظيم وجود في إفريقيا. وتعد ولايتا: "غرب إفريقيا" و"وسط إفريقيا"، من أكثر فروع التنظيم نشاطًا فـي الآونة الأخيرة؛ حيث نفذتا عمليات كبيرة نسبيًّا، واحتلتا بعض الأراضي فـي بعض الدول، ولو بصفة مؤقتة، فضلًا عن تأمين مزيد من مصادر التمويل. وفي عام 2022 أعلن التنظيم عن ولاية "موزمبيق" المزعومة. وهي كلها أدوات إعلامية يستغلها التنظيم في الترويج لنفسه[6].

إستراتيجية التمدد من خلال الفروع

رفع التنظيم شعار: "باقية وتتمدد" وسعى من ورائه إلى رسم صورة تخرجه من كونه مجموعات قتالية تقتصر على بقعة بعينها إلى كونه عنصر جذب عالمي يستقطب أتباعًا من الخارج. وهذا الشعار لا يقتصر على التوسع الجغرافي فحسب، بل يشمل أيضًا توسع النفوذ بهدف تعزيز قابلية مشروعه التوسعي للاستمرار. وقد شكلت تلك الإستراتيجية نقطة جذب للبعض من الجنسيات الأجنبية التي انخدعت بالبروباجندا الإرهابية ورأت في التنظيم حلم المدينة الفاضلة.

وقد اعتمدت إستراتيجية داعش في البقاء والتمدد على عوامل عدة، منها: البراغماتية فيما يتعلّق بالإدارة والسيطرة على الأراضي، وتسيس السكان وحكمهم لتحقيق حلم الخلافة الموهوم، وجذب مقاتلين أجانب؛ واستخدام الإعلام أداةً للسيطرة على العقول وتجنيد المقاتلين وجمع الأموال، وتطوير إستراتيجية عسكرية لشن الهجمات، فضلًا عن الانخراط في صراعات وجودية مع التنظيمات المتطرفة الأخرى لإثبات الذات والتفرد، واستغلال الكوارث والأزمات التي تطفو على مسرح الأحداث في تنفيذ أجندته.

وتأتي حرب غزة في الصدارة باعتبارها فرصة سانحة سعى التنظيم لاستغلالها في توجيه مسارات الغضب الجماهيري تجاه خصومه، إذ دعا داعش ذئابه المنفردة إلى شن هجمات انتقامية في الغرب، معتبرًا ذلك ثأرًا للفلسطينيين، كما دعاهم إلى استخدام آلياته في هذه العمليات من طعن ودهس واستخدام الأحزمة الناسفة، ليُسّهل بذلك نسبتها إليه.

وعلى الرغم من أن الإيديولوجيا المتطرفة التي يتبناها داعش لها عظيم الدور في تحديد طبيعته، إلا أن أهدافه الإستراتيجية ليست مرتبطة بتلك الأيديولوجيا وحدها، إنما تتمركز على حوز القوة والنفوذ والموارد البشرية والمالية على حد سواء، لذا فإن حلم إقامة الخلافة المزعومة لا يعد معقل آماله أو جل ما يعوّل عليه، بل هو مجرد بداية في عقيدة التنظيم.

ساحات بديلة

لعب العامل الجغرافي دورًا في تقوية ولايات داعش البعيدة فالتضاريس الجبلية والمناطق الوعرة لبعض البلدان تسهم في سهولة تخفي أفراد التنظيم واختبائهم ، مما جعلها ساحات بديلة يعتمد عليها داعش في إعادة هيكلته. ومن ثم بعد هزيمته في سوريا والعراق اتبع إستراتيجية إسقاط المدن، ولجأ أفراده إلى الصحاري والقرى المهجورة والانطلاق منها في شن هجمات ذات طابع فردي. وفي الوقت ذاته حافظ التنظيم على إستراتيجية الجغرافية المتلاصقة عن طريق وجوده في المناطق القريبة بين الدول، مثل الحدود الأفغانية الباكستانية، أو الحدود السورية العراقية. 

وترتكز هذه الرؤية الجغرافية على إمكانية أن تصبح حدود تلك الدول جسورًا يعبر من خلالها مقاتلو التنظيم إلى أوروبا ودول وسط آسيا وروسيا، مما ينذر بكارثة حقيقية مثلما أشرنا لدعوات داعش سابقًا للأخذ بالثأر من تلك البلاد.

ومن الملاحظ أنه كلما قويت فروع داعش لا سيما تلك التي تتمكن من تنفيذ هجمات إرهابية ذات فعالية قَوِيَ التنظيم في المركز، مما يشير إلى وجود صلات وثيقة بين مركز التنظيم وفروعه حيث تجمعهما علاقات تكاملية ودعم متبادل، بخلاف ما كان متوقعًا من تنافسهما على من تؤول إليه مقاليد الأمور في التنظيم.

واستنادًا على ما سبق ترسم المعطيات السابقة صورة تحذيرية مفادها أن قوة داعش في ولاياته البعيدة تنعكس على قوته في معاقله الرئيسة، ويستغلها التنظيم إعلاميًّا، وإن نظرة واحدة إلى أي بوقٍ إعلامي من أبواق التنظيم لتؤكد هذه الصورة. وهو ما يجب رصده والانتباه له مع الوضع في الاعتبار ضرورة أن توضع مكافحة داعش في إطارها الكلي.

وإذ يستغل داعش الأزمات والصراعات الدولية، ليصبح معطًى أساسيًّا في المعادلة الدولية، وليكون اسمه حاضرًا في المشهد الإعلامي، فإنه يسعى على الدوام إلى إعادة هيكلة تلك الولايات البعيدة، مستغلًّا الفراغات الأمنية في بعض المناطق التي تشهد صراعات مستمرة. والهدف من هذه الولايات هو أن تصبح مراكز لانطلاق عمليات إرهابية، وقواعد لتجنيد المقاتلين، ومصادر لتمويل الأنشطة الإرهابية. وفي ظل التغيرات الجيوسياسية المتسارعة، والنزاعات المسلحة، والظروف الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها بعض الدول، فإن هذه الولايات تجد بيئة خصبة للتمدد. وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن هذه الولايات قادرة على شن هجمات إرهابية، مما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن والاستقرار الدوليين، ومن ثم فإن مواجهة هذا التهديد يتطلب تضافر جهود المجتمع الدولي، وتبني إستراتيجيات شاملة في القلب منها تجفيف منابع التطرف.

ثانيًا هدم الأسوار:

على الرغم من حالة الضعف التي يمر بها تنظيم داعش الإرهابي بسبب الهزائم التي تعرض لها بفاصل زمني قصير والملاحقات الأمنية لأفراده، فإن عملية تهريب نزلاء ينتمون للتنظيم من سجن "كوتوكالي" الذي يبعد 40 كيلومترًا من العاصمة "نيامي" بالنيجر، في يوليو 2024[7] وما تلاها من عمليات مشابهة، يدل على قدرة التنظيم على القيام بعمليات نوعية ضمن إستراتيجية "هدم الأسوار" التي تعني: "اقتحام السجون وتهريب عناصر التنظيم منها" هي واحدة من الأمور المهمة التي يعوّل عليها التنظيم، ومن خلال تتبعها ستتجلى لنا بعض العوامل التي تسهم في تشريح عقل التنظيم وتوقع خططه المستقبلية، الأمر الذي استحثنا أن نبحث في طبيعة تلك الإستراتيجية ومؤشراتها ودوافعها ودلالاتها، وذلك على النحو الآتي:

الخلفية التاريخية

إن اقتحام داعش السجون وتحرير عناصره الإرهابية ليست إستراتيجية جديدة، بل قديمة أطلق عليها في خطابه الإعلامي اسم "هدم الأسوار". وقد ورث داعش هذه الإستراتيجية عن سلفه تنظيم القاعدة في العراق، إذ كان "الزرقاوي" يولي اهتمامًا كبيرًا لتحرير السجناء. وقد استمر هذا الاهتمام متصاعدًا عبر مراحل تطور مختلفة، ليصبح جزءًا لا يتجزأ من خطط التنظيم. ولا تكاد تخلو كلمة من كلمات متحدثيه الإعلاميين من الإشارة إلى أهمية اقتحام السجون. ويعود أول تطبيق عملي لإستراتيجية "هدم الأسوار" إلى عام 2004 بمحاولة "أبو أنس الشامي" استهداف سجن أبو غريب[8]. ورغم أن هذه المحاولة لم تكلل بالنجاح المرجو للتنظيم، إلا أنها شكلت نقطة تحول في توجهاته.

وفي عام 2013، نفذ التنظيم سلسلة من الهجمات على السجون العراقية، ما أدى إلى إطلاق سراح مئات المقاتلين الذين انتقلوا إلى سوريا، وعززوا قدرة داعش على السيطرة على مناطق واسعة في البلدين. ومع تراجع نفوذ التنظيم وتعرضه لضربات متتالية، زاد تركيزه على استمالة أنصاره وتعبئتهم لتهريب السجناء. كان ذلك متوازيًا مع خطاب إعلامي محفز على تهريب المعتقلين من السجون، إذ طالب "أبو بكر البغدادي" أتباعه في كلمته المعنونة بـ "وقل اعملوا"، بالهجوم على السجون لإطلاق سراح عناصر التنظيم وعائلاتهم.

وقال البغدادي، في هذا التسجيل الذي نشرته أبواق التنظيم: "السجون السجون يا جنود الخلافة"، "إخوانكم وأخواتكم جدّوا في استنقاذهم ودكّ الأسوار المكبلة لهم، فكوا العاني..."، وأصبح ذلك دأب من جاء من بعده.

وبعد مقتل "البغدادي"، وتولي "أبو إبراهيم الهاشمي القرشي" زعامة التنظيم، استمر في التركيز على قضية تهريب السجناء، وذلك وفقًا للخطابات المتكررة لقياداته، التي أكدت أهمية هذه القضية واستمراريتها. وكانت آخر عملية خطط لها "القرشي" قبل مقتله هي اقتحام سجن الصناعة بـ"الحسكة" في سوريا.

وفي عددها 246، وجهت صحيفة التنظيم الأسبوعية توجيهات صريحة لعناصر داعش باقتحام السجون وتهريب المسجونين، مؤكدة أن قيادة التنظيم تعد هذا الأمر واجبًا دينيًّا.

ترتب على ما سبق وقوع سلسلة من الهجمات على مدى السنوات الأربع الماضية، شنها التنظيم لإطلاق سراح عناصره، وشملت سجونًا في مناطق متفرقة، بدءًا من أفغانستان وصولًا إلى إفريقيا، مرورًا بالشرق الأوسط. وقد بدأت هذه السلسلة من الهجمات في عام 2020 باستهداف سجن "ننغرهار" في أفغانستان وسجن "كانجباي" في الكونغو، ثم توسع نطاق هذه الهجمات ليشمل سجن الصناعة بـ"الحسكة" في سوريا في عام 2022، تلاه الهجوم على سجن "كوجي" في العاصمة النيجيرية "أبوجا"[9].

وفي عام 2023، شن التنظيم هجومًا على سجن الرقة في سوريا، قبل أن تختتم هذه السلسلة باستهداف سجن "كوتوكالي" في يوليو الماضي، وهذه الهجمات المتكررة والمتنوعة جغرافيًّا تشير إلى إستراتيجية ممنهجة من التنظيم لتعزيز صفوفه وإطلاق سراح عناصره.

دوافع هدم الأسوار عند داعش

ثمة جملة محركات باعثة لداعش على شن هجمات تستهدف اقتحام السجون وتهريب نزلائها، نذكر منها:

1. استعادة النفوذ وتعزيز المكانة، وذلك من خلال ما يلي:

  • التعويل على الاقتحامات السابقة: استلهم التنظيم من قدرته على تحرير أعداد كبيرة من عناصره القابعة في السجون، أن تكون لاحقًا منطلقًا ومحفزًا مهمًّا لعملياته.
  • تعويض الخسائر: يسعى التنظيم إلى تعويض الخسائر البشرية التي لحقت به في المعارك عن طريق تحرير العناصر المسجونة وضمها مرة أخرى.
  • بناء القوة القتالية وإعادة الهيكلة: يهدف التنظيم إلى إعادة بناء شبكاته النائمة وتفعيل خلاياه الكامنة التي تسهل مسألة اقتحام السجون.

2. الدعاية والتأثير:

  • تعزيز الصورة القتالية: يسعى التنظيم إلى تعزيز صورته كقوة قادرة على حماية عناصره وتحرير المعتقل منهم.
  • الغلبة والتفوق على المنافسين: يهدف التنظيم بعلميات الاقتحام إلى إحراج التنظيمات المتطرفة الأخرى التي تتبع أساليب تفاوضية، وإظهار تفوقه عليها.
  • تجنيد المزيد من الأنصار: يستخدم التنظيم قدرته على تحرير أتباعه من السجون والمعتقلات أداة للترويج وجذب المزيد من الأنصار، لا سيما من عناصر التنظيمات الأخرى التي لا تسعى إلى تهريب عناصرها.

3. البعد الإستراتيجي:

  • تشكيل تهديد مستمر: يهدف التنظيم إلى الحفاظ على تهديده المستمر للدول والمجتمعات، من خلال إظهار قدرته على تنفيذ هجمات إرهابية.
  • إلهاء الأجهزة الأمنية: يسعى التنظيم إلى استنزاف الأجهزة الأمنية بعمليات الملاحقات والتحقيق، ما يربك قدرتها على مواجهة التهديدات الأخرى.

آليات تنفيذ هدم الأسوار:

يستند داعش في إستراتيجية هدم الأسوار على جملة من الآليات، منها:

  • التنقيب عن نقاط الضعف: يحدد تنظيم داعش السجون التي تعاني ضعفًا في الإجراءات الأمنية، أو تلك التي يوجد بها عدد كبير من عناصره.
  • تكوين خلايا نائمة داخل السجون: يعمل داعش على تكوين خلايا نائمة داخل السجون مهمتها التنسيق وتبادل المعلومات.
  • استغلال التكنولوجيا الحديثة: يلجأ داعش إلى استخدام التكنولوجيا، مثل الهواتف المحمولة المشفرة، للتواصل مع عناصره داخل السجون وتوجيه عمليات الهروب.
  • التحريض وخطابات الكراهية: يستخدم داعش وسائل الإعلام غير التقليدي لنشر الدعاية وتوجيه رسائل لعناصره داخل السجون، بهدف تشجيعهم على الهروب. 

دلالات استهداف داعش للسجون

تُظهر إستراتيجية تنظيم داعش في تهريب المسجونين مجموعة من الدلالات المهمة يمكن تلخيصها على النحو التالي:

  • إستراتيجية واضحة المعالم: يؤكد التنظيم وجود خطة مدروسة لتهريب عناصره، إذ يلجأ إلى مجموعة من الأساليب، بما في ذلك الهجمات المباشرة والتعاون مع شبكات التهريب. وهذا يكشف قدرة التنظيم على التخطيط والتكيف مع الظروف المتغيرة.
  • تعزيز شرعية القيادة الجديدة: يسعى زعيم التنظيم الجديد إلى تأكيد قدرته على قيادة التنظيم من خلال التركيز على قضية تحرير المسجونين، التي تعد قضية محورية بالنسبة لعناصره. هذا الأمر يساعده على رفع الروح المعنوية لأفراده.
  • تهديد مستمر للأمن الإقليمي: يُظهر اقتحام السجون قدرة التنظيم على تنفيذ عمليات معقدة في مناطق مختلفة، مما يشكل تهديدًا للأمن والاستقرار في بعض المناطق.
  • مرونة التنظيم وقدرته على التكيف: تُظهر عمليات تحرير الأسرى أن التنظيم يتمتع بقدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة، إذ تستطيع فروعه المختلفة تنفيذ عمليات مستقلة، حتى في ظل الضغط على المركز.
  • التوسع الجغرافي وإعادة التموضع: يسهم تحرير المسجونين في تعزيز قدرات التنظيم على التوسع، وتجنيد عناصر جديدة، وبناء قواعد شعبية.

تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول: إن اقتحام السجون بالنسبة لداعش ليس مجرد عملية إنقاذ أو تحرير بعض عناصره، بل هو جزء من إستراتيجية تهدف لاستعادة النفوذ والتوسع الجغرافي وتعزيز مكانة التنظيم على الخريطة الأمنية في العالم. وتتسم هذه الإستراتيجية بارتفاع درجة خطورتها، نظرًا لارتباطها بعناصر إرهابية مدربة، وتخطيط مسبق، ووجود دوافع انتقامية، ما قد يشكل تهديدًا مستقبليًّا للأمن والاستقرار.

ثالثًا الفضاء الرقمي:

استغل تنظيم داعش قدراته الرقمية التي استمدها من تجنيد عناصر متخصصة في المجال الرقمي وتكنولوجيا المعلومات، واستطاع أن يوازي بين وجوده المادي وامتداده الافتراضي، مما مكّنه من خداع قاعدة جماهيرية ليست بالصغيرة في بعض الأماكن.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هناك فرق بين الخلافة التي أراد داعش إقامتها على الأرض والخلافة التي بناها في الفضاء الإلكتروني؟ الإجابة تتطلب فهمًا لأيديولوجية التنظيم وأهدافه، وتحليل الصورة الذاتية التي يقدمها عن نفسه، وكيف تغيرت هذه الصورة مع مرور الوقت، ومعرفة أهمية الجهاز الدعائي الداعشي، وكيف أثبت هذا التنظيم قدرته على التأثير على الأفراد عبر الفضاء الإلكتروني. سنتناول ذلك على النحو الآتي:

أهمية الفضاء الإلكتروني في نظر تنظيم داعش

جعل داعش الفضاء الإلكتروني أداة للتواصل والتجنيد وبناء مجتمع افتراضي متماسك ومتطرف. وكانت نتيجة ذلك استقطاب أعداد كبيرة من دول مختلفة. وقد وظّف التنظيم الفضاء الإلكتروني في نشر الفكر المتطرف، ولنا المثل في ذلك في خطاب "أبو بكر البغدادي" من على منبر "مسجد النوري الكبير" في الموصل، إذ قام التنظيم بعد ساعة من انتهاء الخطاب بنشره في الفضاء الرقمي بمختلف اللغات. كما نشر التنظيم عبر هذا الفضاء خطابات متحدثيّيه الإعلاميين والمجلات والصحف المختلفة مُدشنًا إستراتيجية إعلامية قائمة على مجموعة من الأسس من أخطرها إضفاء العنف على التعاليم الدينية وتجريدها من مبادئ الرحمة والتسامح وقبول الآخر...  

كما استغل التنظيم الفضاء الإلكتروني في إستراتيجيته التوسعية، إذ كان ينشر مشاهد القتل والعنف ويروجها ليرعب أهالي القرى والمدن التي كان يخطط للاستيلاء عليها، ومن ثم كان كثير من الأهالي يفرون من أمامه إلى مناطق آمنة ويتركون بيوتهم التي يستولي عليها التنظيم، ويوزعها على أفراده بعد ذلك.

ويشجع داعش أفراده باستمرار على الوجود في الفضاء الإلكتروني، ويصدر لهم فتاوى تلزمهم بهذا في ضوء مسوغات زائفة تعتمد تحريف النصوص الدينية واجتزائها من سياقتها.

الذكاء الاصطناعي: تهديد جديد يلوح في الأفق

استفاد داعش من الذكاء الاصطناعي في توليد محتوى دعائي ضخم ومقنع، وتحليل كميات هائلة من البيانات لتحديد الأهداف وتجنيد الأفراد، وتقديم كم من الأخبار الزائفة عبر تقنيات التزييف العميق، وتطوير طرق تشفير أكثر تعقيدًا لحماية اتصالاته، وتحليل المعلومات المرئية لتخطيط الهجمات بدقة.

وقد استخدم تنظيم داعش تقنية "التزييف العميق" (Deepfake) لتوليد مقاطع فيديو مزيفة تحاكي الواقع، على سبيل المثال، جرى تداول مقطع فيديو مدته 92 ثانية على منصة خاصة تابعة للتنظيم الإرهابي، يظهر فيه مذيع يرتدي زيًّا عسكريًّا ويقول: إن الهجوم كان جزءًا من "السياق الطبيعي للحرب المشتعلة بين التنظيم والدول التي تحارب الإسلام"، وذلك بعد 4 أيام من هجوم "داعش" على حفل موسيقي في روسيا في مارس 2024. وقد أكدت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية أن المذيع كان "مزيفًا" صُمم بواسطة الذكاء الاصطناعي، عبر برنامج يسمى "نيوز هارفست"، وذلك بحسب ما نقله موقع سكاي نيوز[10].

الخلافة الرقمية

مما سبق نعرج إلى محور مهم وهو الخلافة الرقمية، ولن يتسع المقام لدينا إلى تجليته بشكل تام، لكننا سنعرض كيف يعول عليه التنظيم مستقبلًا، استنادًا على جملة المعطيات التي عرضناها آنفًا.

تعتمد الخلافة الافتراضية لتنظيم داعش على إستراتيجية متكاملة لتجنيد وتدريب كوادرها أن ينبسطوا عبر الفضاء الرقمي. فبعد جذب المتعاطفين عبر منصات التواصل، تقوم بتزويدهم بالمهارات التقنية اللازمة لشن هجمات إلكترونية، وذلك من خلال برامج تدريبية تقدمها مؤسسات تابعة لها مثل مؤسسة آفاق الإلكترونية، الذراع التكنولوجي للتنظيم، كما تبث تدريبات متقدمة في مجال الأمن السيبراني والقرصنة لمتابعيها.

تشمل هذه الدورات برامج تعليمية مكثفة في استخدام أدوات تقنية متطورة مثل لينكس وميتاسبلوت، والتي تمكنهم من شن هجمات إلكترونية معقدة. إضافة إلى ذلك، توفر المؤسسة دورات لأفراد التنظيم في أساليب التضليل والخداع الإلكتروني، وكيفية جمع المعلومات الاستخباراتية من مصادر مفتوحة. وبفضل هذه التدريبات، يتمكن أتباع التنظيم من نشر الدعاية الإرهابية بفعالية أكبر، والتحرك بحرية في الفضاء الإلكتروني، متفادين جهود منصات التواصل الاجتماعي في حذف أي محتوى[11].

لماذا يعول داعش على الخلافة الافتراضية المزعومة؟

جملة من الافتراضات لتعويل داعش على الخلافة الافتراضية نجملها فيما يلي: تُشكل الخلافة الرقمية التي أقامها تنظيم داعش تهديدًا متزايدًا للأمن العالمي، إذ تمكن التنظيم من تحويل الفضاء الإلكتروني إلى ساحة عمليات واسعة النطاق. فبفضل هذه الخلافة الافتراضية، تمكن داعش من توسيع نطاق تجنيده وتأثيره على مستوى العالم، وتعزيز قدرته على البقاء حتى بعد خسارته لأراضيه، وصعّب على الأجهزة الأمنية تتبع أنشطته ومراقبة اتصالاته. كما أسهم هذا الفضاء في تسهيل التخطيط والتنفيذ للهجمات الإرهابية ونشر الفكر المتطرف بشكل أكثر سرية وأمنًا، ونشر الدعاية والتأثير على الرأي العام، فضلًا عن تسهيل عمليات غسيل الأموال والتمويل. وبالتالي، فإن الخلافة الرقمية تمثل تحديًا جديدًا لمكافحة الإرهاب.

ختامًا، يمكن القول: إن تنظيم داعش الإرهابي، رغم الخسائر الفادحة التي تعرض لها، لا يزال يشكل تهديدًا أمنيًّا عالميًّا متجددًا. فقدرته على التكيف والتطور، واستغلال الثغرات الأمنية والتكنولوجية، وتوظيف الفكر المتطرف، تجعله قادرًا على إعادة تشكيل نفسه والظهور في صور جديدة.

إن التركيز على الولايات البعيدة، وإستراتيجية "هدم الأسوار"، والاستثمار المكثف في الفضاء الرقمي، جميعها تشير إلى أن التنظيم يسعى جاهدًا لبناء بنية قادرة على البقاء. وبالتالي، فإن مواجهة هذا التنظيم تتطلب نهجًا متعدد الأوجه يشمل مكافحة الإرهاب التقليدية، إلى جانب مكافحة التطرف الفكري، وتأمين الفضاء الرقمي، وتعزيز التعاون الدولي. كما يتطلب الأمر فهمًا عميقًا لديناميكيات التنظيم، وتطوير إستراتيجيات طويلة الأمد للتصدي له. وفي النهاية يتطلب القضاء على تنظيم داعش معالجة الأسباب الجذرية التي أدت إلى نشوئه وانتشاره.

وحدة رصد اللغة التركية

 

 

 

 

[1]- أطلق داعش زعمًا اسم "ولايات" على أذرعه وفروعه المختلفة معتمدًا صبغ الاسم بصبغة دينية لإضفاء مزيد من الشرعية لوجودهم على ساحة الأحدث، وهو الاسم الوارد في إصداراتهم بعد تبنيهم أية عملية إرهابية، إذ يقولون: "قام جند الخلافة بولاية كذا مع ذكر تفاصيل العملية الإرهابية".

[2]- تقرير لموقع سكاي نيوز بعنوان: " خريطة داعش: 4 ولايات في إفريقيا.. وجنوب ليبيا أهم محطاته"، بتاريخ 17 يوليو 2021م  

https://www.skynewsarabia.com/world/1451905-%D8%AE%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A9-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D8%A7%D9%95%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7-4-%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%94%D8%AE%D8%B7%D8%B1%D9%87%D8%A7-%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8%D9%8A-%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7

[4]- اللا مركزيّة تعني على المستوى العامّ: تحويل السُّلطة إلى الأقاليم، والولايات، وجَعْلها تَتمتَّعُ باستقْلاليَّةٍ في تَسييرِ شُئونها الخاصَّة؛ وهي عكس المركزيَّة.

https://www.azhar.eg/manage/Portals/ArtMID/7494/ArticleID/81676/%D9%86%D9%87%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A7%D9%85%D8%B1%D9%83%D8%B2%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%86%D8%AF-%D8%AA%D9%86%D8%B8%D9%8A%D9%85-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8%D9%8A

[6]- تقرير لموقع سكاي نيوز بعنوان": خريطة داعش: 4 ولايات في إفريقيا.. وجنوب ليبيا أهم محطاته"، بتاريخ 17 يوليو 2021م  

https://www.skynewsarabia.com/world/1451905-%D8%AE%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A9-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D8%A7%D9%95%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7-4-%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%94%D8%AE%D8%B7%D8%B1%D9%87%D8%A7-%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8%D9%8A-%D9%84%D9%8A%D8%A8%D9%8A%D8%A7