الجماعات المتطرفة

 

09 مارس, 2025

تفنيد مزاعم داعش في تكفير المجتمعات.. رؤية تحليلية

منذ ظهور تنظيم "داعش" الإرهابي، اتخذ التكفير منهجًا ثابتًا في أيديولوجيته، حيث وجه جهده إلى تكفير الدول والمجتمعات الإسلامية، متذرعًا بشبهات تأويلية مغلوطة للنصوص الشرعية من القرآن والسنة والقياس الشرعي. وقد تصدى مرصد الأزهر لمكافحة التطرف لهذا الفكر عبر تفنيده عقليًّا ونقليًّا، وبيان مخالفته لأصول الإسلام ومقاصده الكبرى.

وفي المقال الافتتاحي من عدد الخميس الماضي الموافق 6 من مارس 2025م، من صحيفة النبأ الداعشية، والذي جاء بعنوان: "سبيل العزة"، يدلف التنظيم من فكرة العزة والاعتزاز بالإيمان وفكرة التوحيد، إلى فكرة تكفير المجتمعات ورميها بالنفاق والفسق والكفر وغير ذلك. وهي فكرة تعدى فيها التنظيم حدود الشرع والعقل جملة وتفصيلًا. فيقول:

"ولا يتصور عاقل البتة أنْ يبتغي المرء العزة بعيدًا عن جناب الله تعالى، مفارقًا عتبة العبودية له؛ منطرحًا على عتبات الطواغيت طوّافًا على محافلهم وقصورهم كما يفعل اليوم كثير من الهيئات والأحزاب المرتدة! اللاهثة خلف سراب المكاسب وفتات المناصب تحت أجنحة "النظام الدولي" الكافر!"

ويهدف هذا المقال إلى تقديم قراءة تحليلية للأفكار المطروحة في افتتاحيته العدد المشار إليه.

أولًا: الأسس العقلية لدحض فكرة التكفير الداعشي للمجتمعات

  1. مناقضة مبدأ التكفير للعقل والمنطق

إن الحكم بالكفر على المجتمعات جملةً يتناقض مع الفطرة السليمة والعقل المستقيم؛ إذ كيف يُعقل أن تجتمع الأمة على الباطل، والله عز وجل قد وعد بحفظ هذا الدين؟ إن تكفير المجتمعات يؤدي إلى فوضى دينية واجتماعية، ويفتح الباب أمام الفساد والاقتتال، وهو الأمر الذي يناقض مقصد الشريعة في حفظ النفس والعقل والدين.

  1. التكفير الجماعي ينافي مبدأ المحاسبة الفردية

وفقًا للعقل والمنطق، لا يجوز تعميم الأحكام على الأفراد بناءً على أفعال السلطة أو الحكومات؛ إذ إن القرآن الكريم يؤكد على مسؤولية الإنسان الفردية، يقول تعالى : ﴿ألّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [النجم: 38]. فكيف يمكن اتهام أمة بأكملها بالكفر بسبب سياسات معينة قد ينتهجها حكامها؟ هذا خلل منطقي ينافي القواعد العقلية الأساسية للعدل والإنصاف.

  1. ضرب المجتمعات الإسلامية وخدمة أعداء الإسلام

إن منهج التكفير الداعشي لم يؤدِّ إلا إلى تفتيت المجتمعات الإسلامية، وإراقة دماء المسلمين، وهو ما يخدم مصالح القوى المعادية للإسلام. فبدلًا من توجيه الجهود نحو البناء والإصلاح، ينشغل هؤلاء في إشعال الفتن والحروب الداخلية، والذي يؤدي إلى انهيار الدول الإسلامية وسقوطها بدلًا من قيامها وازدهارها.

ثانيًا: الأدلة النقلية على بطلان التكفير المطلق للمجتمعات والدول

  1. نصوص القرآن الكريم في النهي عن التكفير

القرآن الكريم يحذر من التسرع في التكفير، ويؤكد أن الأصل في المسلم هو الإيمان، وليس الكفر. يقول الله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: 94]. فكيف يرى "داعش" تكفير مجتمعات كاملة ودول دون تثبّت، بينما نهى القرآن حتى عن تكفير شخص واحد ادعى الإسلام؟

  1. تحذير السنة النبوية من التكفير

جاءت السنة النبوية بتحذيرات شديدة من إطلاق التكفير جزافًا. فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما» [متفق عليه]. فكيف يمكن لتنظيم منحرف أن ينسب إلى نفسه سلطة تكفير الدول والمجتمعات، والنبي ذاته لم يفعل ذلك؟

  1. الإجماع الفقهي على خطورة التكفير

أجمع علماء الأمة عبر القرون على أن التكفير مسألة خطيرة لا يجوز التهاون فيها، وأن الأصل في المسلم الإسلام حتى يقوم الدليل القاطع على كفره. يقول الإمام النووي: «لا يُحكم بكفر المسلم إلا إذا أتى بأمر لا يحتمل التأويل». فكيف لداعش أن يبني أفكاره على تأويلات فاسدة، ويكفِّر بها أممًا بأسرها؟

  1. مفهوم الدولة في الإسلام ورفض التكفير

الإسلام دين نظام وعدل، لم يدعُ إلى هدم الدول وإسقاط الحكومات بحجة التكفير، بل دعا إلى الإصلاح، وحث على طاعة ولاة الأمر في غير معصية الله، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]. أما دعاوى داعش فهي تؤدي إلى الفوضى وسفك الدماء، ما يناقض مقاصد الإسلام ورسالته التي جاءت هداية للعالمين وإعمارًا للكون وترسيخًا للسلام والسكينة بين الجموع والمجتمعات.

ثالثًا: أثر فكر داعش التكفيري على الأمة الإسلامية

  1. تمزيق وحدة المسلمين

أدى انتشار الفكر الداعشي إلى تشتيت الصف الإسلامي، وتحويل الجهاد من مواجهة الأعداء الحقيقيين إلى قتل المسلمين واستباحة دمائهم، فأضعف الأمة وأوقعها في مستنقع الفتن، ومزق وحدتها، وبث الفرقة في الرأي والقرار بين أبنائها.

  1. تشويه صورة الإسلام عالميًّا

لا يخفى ما نتج عن هذه الأوضاع وتلك الأفكار من استغلال الإعلام الغربي جرائم داعش في نشر صورة مشوهة عن الإسلام، وشيطنة المسلمين أفرادًا ومجتمعات، ما عزز من موجات الإسلاموفوبيا والعنصرية المقيتة، وأدى إلى اضطهاد المسلمين في مختلف بقاع الأرض، وهو ما نراه واقعًا ملموسًا في كثير من الدول.

  1. إفساد عقول الشباب

عبر دعايته المضللة، تمكن داعش من خداع بعض الشباب، واستقطابهم إلى صفوفه، مستغلًّا جهلهم بمفاهيم الدين الصحيحة، وانخداعهم بشعارات واهمة وكلمات رنانة، تداعب حماستهم، وتغازل ميولهم إلى البطولة والشهرة.

وختامًا نؤكد أن مرصد الأزهر لمكافحة التطرف حمل على عاتقه التصدي لهذه الظاهرة؛ عبر نشر الوعي الديني الصحيح وتفنيد الأفكار المارقة من صحيح الدين تفنيدًا شاملًا، مستندًا إلى الأدلة العقلية والنقلية، كاشفًا زيّف ما يدعو إليه الفكر التكفيري الذي يتبناه داعش، مبينًا أنه يتناقض تمامًا مع مبادئ الإسلام السمحة، ويفتقر إلى أي مستند شرعي صحيح، مشددًا أنه من الواجب على المسلمين، وخاصة العلماء والدعاة، أن يواجهوا هذا الفكر الهدَّام بنشر الوعي، وتصحيح المفاهيم، وتعزيز الوحدة الإسلامية، والدعوة إلى العلم وإعمال العقل، حتى لا يقع شباب الأمة في شراك هذا التنظيم المنحرف، فيكون سقوطه من حيث أراد الاستقامة والهداية.

وحدة الرصد باللغة الإسبانية