تشهد أوروبا في السنوات الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في التهديدات الإرهابية والتطرف بمختلف أشكاله، مما دفع الحكومات إلى تشديد الإجراءات الأمنية، واتخاذ تدابير استباقية لمواجهة هذه الظاهرة، وقد شملت هذه التهديدات هجمات إرهابية فردية، مع تزايد تأثير التنظيمات المتطرفة عبر الإنترنت، مما استدعى استجابات أمنية مكثفة وجهودًا توعوية لمكافحة الفكر المتطرف.
في النمسا وبتاريخ 15 فبراير 2025م، وقع حادث إرهابي حيث قام طالب لجوء سوري يبلغ من العمر 23 عامًا بتنفيذ هجوم بسكين في مدينة "فيلاخ"، مما أدى إلى مقتل صبي يبلغ من العمر 14 عامًا، وإصابة خمسة آخرين بجروح خطيرة، وكشفت التحقيقات أن المهاجم وقع في شباك التطرف عبر الإنترنت، واستوحى هجومه من تنظيم داعش، وقد تمكن لاجئ سوري آخر يُدعى علاء الدين الحلبي من إيقاف المهاجم عبر دهسه بسيارته، مما حال دون وقوع المزيد من الضحايا.
وأكدت الشرطة أن أعلام داعش كانت معلقة في شقة المهاجم، مما يشير إلى ارتباطه بالتنظيم الإرهابي، وأثارت الحادثة جدلًا واسعًا حول سياسات اللجوء في النمسا، والمخاطر المرتبطة بالتطرف الرقمي، ويبين المرصد هنا أن الحادث يظهر وجهين متناقضين للجوء: أحدهما يتمثل في اللاجئين الذين استغلوا فرصة اللجوء للقيام بأعمال إرهابية، والآخر يتمثل في اللاجئين الذين جسدوا قيم الشجاعة والمسؤولية المجتمعية، الأمر الذي يكشف عن إمكانية أن يكون اللاجئون جزءًا من النسيج الاجتماعي في بلدان اللجوء، وأنهم قادرون على حماية هذه المجتمعات والمساهمة في بنائها بدلًا من هدمها، وهذا يدعو إلى خطاب أكثر موضوعية بعيدًا عن التعميمات التي قد تؤدي إلى وصم جماعات بأكملها؛ بسبب أفعال أفراد قليلة جدًّا، الأمر الذي قد ينعكس على السياسات المتعلقة بالمهاجرين وطالبي اللجوء، وعليه فإن هناك حاجة ماسة إلى معالجة القضية بمنظور متوازن، يضمن الأمن دون المساس بحقوق الفئات المستضعفة.
وفي ألمانيا، كشفت السلطات الأمنية عن تهديدات إرهابية من تنظيم داعش تستهدف احتفالات الكرنفال، خاصة في مدينتي "كولونيا"، و"نورنبيرغ"، ونشرت الشرطة الألمانية 1,500 عنصر إضافيّ خلال الاحتفالات، في ظل تحذيرات من أن التنظيم الإرهابي يعتمد بشكل متزايد على استقطاب الذئاب المنفردة عبر الإنترنت، وتحريضهم على تنفيذ هجمات بأسلحة بدائية، وقد أبدت السلطات قلقها إزاء تطور أساليب التجنيد الإلكتروني التي ينتهجها التنظيم الإرهابي، مما يستوجب إستراتيجيات جديدة لمواجهته.
ويبين مرصد الأزهر أن هذه الحوادث وغيرها تؤكد أن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ما زالوا من أهم أدوات التنظيمات المتطرفة لنشر فكرها وتجنيد الأفراد، خاصة الشباب، وتُظهر الإحصاءات أن العديد من منفذي الهجمات الإرهابية الأخيرة في أوروبا تأثروا بمحتوى متطرف على الإنترنت، دون أن يكون لديهم اتصال مباشر مع أي تنظيم، هذا التحول الخطير يجعل من الضروري تعزيز الرقابة على المحتوى الرقمي، وتكثيف الجهود لتطوير إستراتيجيات مواجهة التطرف عبر الإنترنت، وقد أشار خبراء أمنيون إلى أن تنظيم داعش وغيره من التنظيمات المتطرفة يعتمدون على تقنيات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات الرقمية لاستهداف فئات معينة من الشباب، مما يعزز من خطورة هذه الظاهرة، وتطالب العديد من الحكومات الأوروبية شركات التكنولوجيا بضرورة التعاون في إزالة المحتويات المتطرفة بسرعة وكفاءة.
وفيما يلي أبرز ما حدث بين الحكومات الأوروبية وشركات التواصل الاجتماعي على الإنترنت:
بموجب "قانون الخدمات الرقمية" الذي دخل حيز التنفيذ في عام 2024م، أصبحت منصات التكنولوجيا ومحركات البحث الكبيرة ملزمة ببذل جهود أكبر لمكافحة المحتوى الضار، وغير القانوني، وعدم الامتثال قد يؤدي إلى فرض غرامات مالية كبيرة على هذه الشركات.
في يناير 2025م أعلنت المفوضية الأوروبية عن التزام شركات التكنولوجيا الكبرى، بما في ذلك فيسبوك، إكس (تويتر سابقًا)، ويوتيوب، بتعزيز تدابيرها ضد المحتوى الذي يروج للكراهية عبر الإنترنت، تضمنت هذه التعهدات تقديم بيانات مفصلة على مستوى كل بلد، تُصنِّف خطاب الكراهية بناءً على معايير مثل العرق، والدين، والهوية الجندرية، أو التوجه الجنسي، مما يسهم في تحليل أعمق لهذه الظاهرة.
بدأ الاتحاد الأوروبي في تدقيق جهود شركات التكنولوجيا الكبرى لإزالة المحتوى الضار؛ بهدف ضمان امتثالها للقوانين الجديدة، ويُتوقع أن تواجه هذه الشركات عمليات تدقيق مرتبطة بأعمالها، إضافة إلى تطبيق قواعد جديدة لوقف بيع المنتجات غير القانونية.
ولا شك أن كل هذه القوانين تسهم في مكافحة التطرف في الفضاء الإلكتروني، ونرجو أن تستفيد منها باقي دول العالم، حيث إن التطرف لا يقتصر على مكان دون آخر.
وفي سياق آخر عززت الحكومات الأوروبية تدابيرها الأمنية، وأطلقت العديد من المبادرات التوعوية لمكافحة التطرف، ففي النمسا شهدت المدارس تزايدًا ملحوظًا في الطلب على ورش العمل الخاصة بمكافحة التطرف الرقمي، حيث يسعى المعلمون إلى فهم أفضل لكيفية التصدي لعمليات الاستقطاب التي تستهدف الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد أكدت منظمة "ARGE Jugend gegen Gewalt und Rassismus" في "غراتس" أن هناك حاجة ماسة لتعزيز الوعي الرقمي بين الطلاب، في ظل استغلال الخوارزميات الرقمية لنشر المحتوى المتطرف بين الشباب بسرعةٍ، وكثافة.
ويؤكد المرصد أن المؤسسات التعليمية من أهم الجهات الفاعلة في مواجهة التطرف؛ حيث تلعب دورًا حاسمًا في تقديم المعرفة الصحيحة، وتعزيز التفكير النقدي لدى الطلاب، وقد أظهرت دراسات سابقة للمرصد أن تعزيز مناهج التربية الدينية، وتقديم برامج توعوية حول مخاطر التطرف، يمكن أن يحد من استقطاب الشباب من قبل التنظيمات المتطرفة، ولذا بدأت بعض الدول الأوروبية بتطوير مبادرات تستهدف تدريب المعلمين على كيفية التعرف على علامات التطرف لدى الطلاب، والتعامل معها بطرق فعالة، هذا إلى جانب تعزيز دور الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين داخل المدارس، لضمان تقديم الدعم الكافي للطلاب المعرضين لخطر الاستقطاب.
وفي ألمانيا، كثفت الشرطة إجراءاتها الأمنية عقب التهديدات الإرهابية المرتبطة بتنظيم داعش، كما تم فرض قيود مشددة على بعض الفعاليات العامة لضمان سلامة المشاركين، وإلى جانب ذلك أطلقت المؤسسات الإسلامية حملات توعوية لإدانة العنف والتطرف، وتعزيز قيم التعايش السلمي بين مختلف مكونات المجتمع.
ويبين مرصد الأزهر أن خطر التطرف والإرهاب يظل أحد أبرز التحديات الأمنية التي تواجه أوروبا؛ حيث تتطلب مكافحته جهودًا متكاملة تشمل تعزيز الأمن، وتطوير برامج وقائية، ومراقبة المحتوى المتطرف على الإنترنت، وبينما تعمل الحكومات والمؤسسات الأمنية على التصدي لهذه التهديدات، يبقى التعاون بين الجمعيات والمؤسسات التعليمية عاملًا أساسيًّا في بناء وعي جماعي يسهم في حماية المجتمعات من مخاطر التطرف بأشكاله كافة، ونكرر ما قاله المرصد أكثر من مرة من أن التصدي لهذه الظاهرة لا يقتصر على الجانب الأمني فحسب، بل يحتاج إلى معالجة الأسباب الجذرية التي تؤدي إلى التطرف، مثل الفقر، والعزلة الاجتماعية، وضعف الاندماج المجتمعي، مما يستدعي إستراتيجيات شاملة طويلة الأمد، والتعامل مع المستجدات التكنولوجية بالشكل الأمثل، حيث إن التكنولوجيا الحديثة التي كانت تهدف إلى تعزيز الوعي لدى الشباب، أصبحت اليوم أداة للاستقطاب والتجنيد من قبل التنظيمات الإرهابية، مما يستدعي تحركًا سريعًا لمنع استغلال الفضاء الرقمي ساحةً لنشر العنف والتطرف، ويمكن أن يحدث هذا من خلال التعاون بين الحكومات والمؤسسات والمجتمع المدني لبناء إستراتيجيات فعالة تضمن فضاءً إلكترونيًّا آمنًا.
وحدة الرصد باللغة الألمانية