في ظل التحولات العميقة التي يشهدها العالم الرقمي، أضحت التكنولوجيا الحديثة أداة مزدوجة تُسهم في تسريع وتيرة التنمية من جهة، وتُتيح من جهة أخرى مساحات واسعة للاستغلال العدواني من قِبل التنظيمات الإرهابية، التي أعادت صياغة إستراتيجياتها لتواكب مقتضيات العصر الرقمي.
فقد باتت هذه التنظيمات توظف تقنيات الذكاء الاصطناعي، والعملات المشفرة، والطائرات المسيرة، ومنصات التواصل الاجتماعي، لا لتنظيم العمليات التقليدية فحسب، بل لتوسيع نطاق التجنيد، وتأمين مصادر التمويل، وشن هجمات سيبرانية معقدة تستهدف البنى التحتية للدول. ولأن هذه الممارسات تُنفذ غالبًا خلف ستار من التشفير واللا مركزية، فإن مكافحتها لم تعد ممكنة بالآليات الأمنية التقليدية وحدها، بل تستدعي مقاربة شاملة تتضافر فيها الأبعاد التقنية والتشريعية والاستخباراتية، جنبًا إلى جنب مع بناء وعي مجتمعي قادر على مقاومة التطرف الرقمي. وعليه، فإن الإرهاب المرتبط بالتكنولوجيات الحديثة لا يُعد مجرد امتداد للإرهاب التقليدي، بل يمثل ظاهرة مركبة تُعيد تعريف مفاهيم الأمن، والسيادة، والردع، وتفرض تحديات نوعية على الدول والمؤسسات في سعيها للحفاظ على استقرارها في عصرٍ باتت فيه الشاشات لا تقل خطرًا عن السلاح.
ففي زمنٍ باتت فيه التكنولوجيا تتغلغل في أدق تفاصيل الحياة الإنسانية، لم يعد من الممكن فصل التحولات التقنية عن التحولات الاجتماعية والسياسية، ولا عن امتدادات العنف العابر للحدود. لقد أصبحت الأدوات الرقمية، التي صُممت لتيسير المعرفة، والتواصل، والتنمية، سيفًا مسلولًا في يد التنظيمات المتطرفة، التي أحسنت –بدهاء قاتم– توظيف منجزات العلم في خدمة أجنداتها الظلامية. وعليه فإن الإرهاب المعاصر لم يعُد مقصورًا على العبوات الناسفة والأحزمة الناسفة، بل تطور ليشمل ما هو أخطر وأخفى؛ الهجمات السيبرانية، والحروب المعلوماتية، والتجنيد عبر الشاشات.
أولًا: مظاهر الإرهاب في ثوبه التكنولوجي الجديد
1. الهجمات السيبرانية: ساحة الحرب الخفية
ما عادت الحرب تُخاض على الجبهات التقليدية وحدها؛ بل إن لوحات المفاتيح صارت صدًى لقرقعة السلاح. تستهدف التنظيمات الإرهابية البنى التحتية الرقمية، كشبكات الكهرباء، والمياه، والمطارات، والمنظومات المصرفية، في محاولة لإحداث شلل وظيفي يعادل في أثره الضربات العسكرية. فهجمة سيبرانية واحدة قادرة على إظلام مدينة، أو تجميد حركة الملاحة، أو تسريب بيانات حساسة تهدد الأمن القومي.
2. التجنيد الإلكتروني: هندسة العقول عن بُعد
تُحول التنظيمات المتطرفة الفضاء الرقمي إلى ميدانٍ مفتوحٍ للدعوة والتجنيد، تُغذيه خطابات محملة بالغضب والاغتراب، وتستهدف فيه العقول الشابة الهشة نفسيًّا وفكريًّا. يتم تفكيك الانتماء الوطني والإنساني، وإعادة تركيبه ضمن سرديات جهادية مموهة بمفاهيم دينية مشوهة، في عملية غسيل دماغ رقمي تجري عبر تطبيقات مشفرة ومنتديات مظلمة يصعب تعقبها.
3. التمويل الخفي: العملات المشفرة وتحدي الشفافية
أضحى تمويل الإرهاب أكثر خفاءً ودهاءً، بفضل العملات الرقمية مثل "بتكوين" و"مونيرو"، التي تُتيح تحويل الأموال عبر الحدود دون رقابة مركزية. هذا النمط غير المرئي من التمويل يحد من قدرة أجهزة الرقابة المالية على كشف الشبكات الداعمة، ويشكل نقطة ضعف خطيرة في بنية الأمن الاقتصادي العالمي.
4. الطائرات المُسيرة والطباعة ثلاثية الأبعاد: أدوات الحرب منخفضة الكلفة
فيما مضى، كانت صناعة الأسلحة حكرًا على الدول؛ أما اليوم، فبإمكان فئة قليلة من المتطرفين تصنيع طائرات مسيرة صغيرة الحجم، دقيقة التوجيه، مزودة بعبوات ناسفة، بل حتى إنتاج أجزاء أسلحة باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد. هذا الواقع المذهل، والمقلق في آن واحد، يجعل من المستحيل تقريبًا تعقب كل التهديدات قبل حدوثها.
ثانيًا: عقدة التحديات الأمنية والتشريعية
- اللا مركزية التكنولوجية: كابوس الأمن الرقمي
التقنيات الناشئة مثل البلوك تشين، رغم ما تتيحه من أمان وشفافية في بعض الاستخدامات، تمثل تحديًا صارخًا لأجهزة الأمن، نظرًا لصعوبة تعقب المعاملات التي تتم عبرها، وعدم خضوعها لسلطة تنظيمية موحدة.
-بطء التشريع أمام سرعة الابتكار
تتقدم التكنولوجيا بخطى واثقة ومتسارعة، في حين تتحرك منظومات التشريع ببطءٍ تحكمه البيروقراطية والموازنات السياسية. هذا التفاوت يخلق فراغًا تشريعيًّا قاتلًا، يتيح للمتطرفين هامشًا واسعًا للمناورة.
- الرقابة والخصوصية: ميزان معقد
إن مكافحة الإرهاب الرقمي تتطلب توسيع صلاحيات الرقابة الإلكترونية، غير أن هذا المسار يصطدم بجدار الحريات الفردية، وحقوق الخصوصية، ورفض الرقابة الشاملة. كيف نُوازن بين أمن الدولة وحرية المواطن؟ سؤال لا زال معلقًا فوق طاولات القرار.
ثالثًا: نحو إستراتيجية شاملة للمجابهة
1. تدويل الجهود الأمنية
لا يمكن مواجهة هذا التهديد بحدود جغرافية ضيقة، فالإرهاب الرقمي عابر للسيادة. يجب أن تُبنى تحالفات معلوماتية عالمية، تُشارك فيها الدول البيانات الاستخباراتية، وتقنيات الرصد، وآليات المتابعة، بشكل فوري ومفتوح.
2. تشريعات رقمية مرنة ومُحكمة
ثمة حاجة مُلحة لإعادة صياغة القوانين بما يضمن ملاحقة الجرائم الإلكترونية ذات الطابع الإرهابي، وتكييف القواعد الجنائية مع بيئة الإنترنت، وتحديد مسؤوليات المنصات الرقمية بدقة تشريعية غير قابلة للتأويل.
3. استثمار في الذكاء الاصطناعي والرصد الاستباقي
الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون حليفًا قويًّا في التعرف على الأنماط السلوكية المشبوهة، وتحليل البيانات الضخمة للعثور على خيوط خفية تربط المتطرفين ببعضهم. لا بد من تحويل هذه الأدوات إلى درع وقائي، لا مجرد وسيلة استهلاكية.
4. بناء الوعي الرقمي
لا تقل المعركة الفكرية أهمية عن المواجهة الأمنية. إن تفكيك سرديات التطرف، وتصحيح المفاهيم الدينية، وبناء وعي مجتمعي قادر على الفرز، من أولويات الصمود أمام هذا الخطر. فكل شاب واعٍ هو متراس ضد الفكر المنحرف.
5. تحالف مع عمالقة التكنولوجيا
لا يجوز أن تبقى الشركات الكبرى على هامش المعركة. يجب أن تتشارك شركات مثل: "غوغل" و"ميتا" و"إكس" المسؤولية الأخلاقية والأمنية، من خلال تطوير أدوات آلية لرصد المحتوى الإرهابي، وتعزيز أنظمة الإبلاغ، والتعاون مع الحكومات دون تهديد لحرية التعبير المشروعة.
ختامًا: بين اليقظة والفكر، تُرسم ملامح النصر
إن مكافحة الإرهاب التكنولوجي ليست معركة عسكرية وحسب، بل هي صراع بين قيمتين: العقل الحر في مقابل الفكر المأسور، والتقدم في مقابل الردة، والإنسانية في مقابل التوحش الرقمي. إنها معركة تتطلب يقظة دائمة، وفكرًا متقدًا، وإرادة سياسية عالمية لا تهادن ولا تتراخى. فإن لم نُدرك خطورة اللحظة، ولم نُحسن تسليح وعينا بقدر ما نُسلح أجهزتنا، فلن يكون الخطر القادم مجرد احتمال، بل حقيقة دامغة تهدد وجودنا ذاته.
وحدة الرصد باللغة الصينية