الجماعات المتطرفة

 

14 أبريل, 2025

الذئاب المنفردة.. قناصو العقلية الشابة

     تُعد ظاهرة الذئاب المنفردة من الظواهر الحديثة التي أصبحت تشكل خطرًا متزايدًا في العديد من المجتمعات. وتُشير هذه الظاهرة إلى الأفراد الذين يقومون بتنفيذ عمليات عدائية أو إرهابية بشكل منفرد، دون أن يكونوا جزءًا من مجموعة أو تنظيم واسع. وتعتمد هذه العمليات على التخطيط الفردي، مما يجعل اكتشافهم ومنعهم أكثر صعوبة، ومن الأمثلة البارزة لهذا النوع من الهجمات الإرهابية التي لا يمكن أن تغيب عن أذهان العالم أجمع: هجوم نيس 2016م الذي استخدم فيه رجل شاحنة لدهس مدنيين في فرنسا، مُتأثرًا بدعاية تنظيمات إرهابية، وكذلك هجوم نيوزيلندا 2019م الذي استهدف مسجدين في كرايستشيرش، ونُفذ بواسطة فرد متأثر بأفكار اليمين المتطرف.

وفي خضم ما يتكبده العالم من صراعات نفسية وأزمات إنسانية محدقة كفيلة بأن تودي بالإنسانية إلى هاوية سحيقة، كان لزامًا أن ندق ناقوس الخطر إزاء مأساة متجددة تسمى: (الذئاب المنفردة)، تلك الظاهرة التي تستغل التوترات الداخلية والخارجية لتتلاعب بالعقول وتستقطبها لسحق المزيد من الأرواح البريئة دون ذنب أو جريرة.  فوفقًا للتقرير الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام - مؤسسة عالمية بحثية مستقلة غير ربحية مقرها الرئيسي مدينة سيدني الأسترالية - هناك تقارب بقدر ما بين الإرهاب "الفردي" و "الداخلي". فالإرهاب الفردي يصدق على أي أعمال عنف يرتكبها أفراد بشكل مستقل، دون تسلسل قيادي مباشر أو دعم مادي مستدام من تنظيم إرهابي بعينه، رغم تبنيه لرؤية جماعة أو تنظيم بعينه. وقد يتلقى هؤلاء الأفراد توجيهات أو تشجيعًا إلكترونيًّا، ما يخلق ظاهرة تُوصف أحيانًا بأنها مؤامرات "هجينة" أو "موجهة عن بُعد"؛ إذ يتواصل الإرهابي مع عناصر متطرفة عبر رسائل مشفرة مع بقائه معزولًا جسديًّا.

بينما يشير الإرهاب الداخلي إلى أعمال التطرف العنيف التي يرتكبها أفراد أو تنظيمات داخل بلدهم بدافع أيديولوجيات أو مؤثرات محلية، بدلًا من التوجيهات الأجنبية، فغالبًا ما يكون مرتكبوها مواطنين أو مقيمين منذ مدة طويلة بالبلاد، وقد تطرفوا بسبب السخط السياسي، أو الديني، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، ويهدفون إلى تعطيل خط سير الحياة بالمجتمع أو فرض أجندة محددة من خلال بث الزعر ونشر العنف. ولأن الإرهاب الداخلي يظهر داخل المجتمع ذاته؛ فهذا يجعل سبل الوقاية منه أكثر تعقيدًا بسبب عدم وضوح الخطوط الفاصلة بين المعتقدات المتطرفة والتهديدات التي يمكن اتخاذ إجراء بشأنها.

وطبقًا لمؤشر "إرهاب الذئاب المنفردة" على مدار عام ٢٠٢٤م، فقد ارتفع إجمالي عدد الحوادث الإرهابية في الغرب ليصل إلى ما يزيد على ٥٠ حادثة مقارنةً بـ ٣٢ في العام السابق. وتمثل عمليات "الذئاب المنفردة" ٩٣٪ من الهجمات الإرهابية الدامية التي شهدها الغرب على مدار السنوات الخمس الماضية. وعليه تم تصنيف 7 دول غربية في الآونة الأخيرة ضمن أسوأ ٥٠ دولة وفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي، لتأتي ألمانيا في المرتبة الـ ٢٧، والولايات المتحدة في المرتبة الـ ٣٤، وفرنسا في المرتبة الـ ٤٠، والمملكة المتحدة في المرتبة الـ ٤١، وأستراليا في المرتبة الـ ٤٦، وكندا في المرتبة الـ ٤٨، والسويد في المرتبة الـ ٥٠. كما يُظهر تحليل المؤشر البياني أن إرهاب الذئاب المنفردة لا يتزايد فحسب، بل إن هجمات الذئاب المنفردة أصبحت الآن أكثر شيوعًا من الهجمات التي تنفذها التنظيمات المتطرفة. فمن خلال تحليل المدة من 2014م إلى 2024م؛ فإن غالبية الهجمات الإرهابية المميتة في الغرب منذ عام 2017م هي هجمات ذئاب منفردة، لتضم بذلك بيانات الذئاب المنفردة ممن بايعوا داعش قبل تنفيذهم الهجمات بمدة وجيزة.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنه في عام ٢٠٠٢م كان الوضع مختلف تمامًا عن الوقت الحالي؛ إذ إن تبني فكرة تنفيذ هجوم إرهابي كانت تستغرق ما يقرب من  ١٦ شهرًا في المتوسط منذ بداية تعرُّض المُنفذ لمحتوى متطرف وصولًا إلى تنفيذ هجوم إرهابي، بينما بحلول عام ٢٠١٥م انخفضت هذه المدة بأكثر من ٤٠٪ ؛ إذ تكفي فقط بضعة أسابيع لتبني الفكرة وتنفيذها، ويرجع ذلك إلى 3 عوامل رئيسة تُؤثِّر على التطرف: المرونة الأيديولوجية، واستهداف التنظيمات المتطرفة للشباب، وتأثير الاضطرابات الجيوسياسية المستمرة؛ إذ يعمد إرهابيو الذئاب المنفردة إلى الخلط بين الأفكار الدينية والسياسية ونظريات المؤامرة من مصادر مُتعدِّدة لخلق سرديات شخصية تتحدَّى التسميات التقليدية.

وعلى مدار العقد والنصف الماضيين، شهد الفكر الإرهابي في الغرب تحولًا ملحوظًا. فعلى الرغم من استمرار المؤامرات واسعة النطاق التي تدبرها منظمات معروفة، فإن معظم الهجمات الإرهابية الدامية في الغرب نُفِّذَت على يد أفراد غير منتمين إلى تنظيمات إرهابية معينة، تحت شعار "الذئاب المنفردة". وهذا يوضح أن هؤلاء الإرهابيين ربما اعتنقوا فكرًا محددًا أو تعاملوا مع مجتمعات متطرفة عبر الإنترنت، إلا إنهم لا يتلقون بالضرورة تدريبًا رسميًّا شخصيًّا أو موارد تنظيمية مباشرة.

ومما يزيد الأمر خطورة، أن معظم المتورطين في عمليات الذئاب المنفردة الإرهابية، في المملكة المتحدة على سبيل المثال، شباب لم تتجاوز أعمارهم 18 عامًا. وللأسف يسهم الشعور بالاغتراب الثقافي وسهولة التعرض لدعايات المحتوى العنيف في زيادة مخاطر وقوع أولئك الشباب في غيابات التطرف العنيف. وفي الوقت ذاته، غالبًا ما يتلقى القُصَّر تحذيرات أمنية أقل شدة، وحتى في حال القبض عليهم فإنه يُطبق عليهم عقوبات قانونية أقل شدة؛ الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في المفاهيم التقليدية للعنف المتطرف، وأفضل السبل للوقاية منه.

وثمة قواسم مشتركة بين حوادث إطلاق النار الجماعي والهجمات الإرهابية. ومن المؤسف أن الشباب في سن المراهقة تورطوا فيما يقرب من ثلثي الاعتقالات ذات الصلة بتنظيم داعش الإرهابي في أوروبا. فقد شهدت حوادث إطلاق النار الجماعي في الولايات المتحدة ارتفاعًا ملحوظًا منذ مطلع القرن الحادي والعشرين؛ إذ كان متوسط نسبة حوادث إطلاق النار الجماعي 3.7% سنويًّا خلال المدة من 2000م إلى 2009م، لتصل إلى 5.6% بحلول عام 2024م. ونظرًا لتزايد الدوافع الأيديولوجية الملتبسة، إضافة إلى نقص الأدلة حول دوافع أحداث بعينها، غالبًا ما يكون من غير الواضح ما إذا كان ينبغي تصنيف حادث إطلاق النار الجماعي على أنه هجوم إرهابي أم لا.

وفي الوقت ذاته،  يشير تحليل البيانات أن 20% من حوادث إطلاق النار الجماعي في الولايات المتحدة حتى عام 2019م صُنفت على أنها أعمال إرهابية، بل وزادت هذه النسبة على مر السنين، وأصبح التمييز بين إطلاق النار الجماعي والهجوم الإرهابي أكثر ضبابية خلال العقد الماضي. الأمر الذي يمكن أن نعزيه للقواسم المشتركة نفسها التي تدفع إلى زيادة معدلات إرهاب الذئاب المنفردة.

وتكمن خطورة الهجمات الإرهابية للذئاب المنفردة في أن مرتكبيها نادرًا ما يتركون بصمة استخباراتية واضحة، إذ أغلبهم يعمل بمعزل عن الآخرين؛ فهم عادةً لا يتواصلون مع شبكات كبرى أو يعتمدون على تلقي دعم مالي واسع النطاق ما يحد من فرص اكتشافهم وتتبعهم. ونظرًا لصغر نطاقها وقصر مدتها فغالبًا ما يكون من الصعب توقع مثل هذه المؤامرات مقارنةً بالمؤامرات الأكثر تفصيلًا، ما يؤدي إلى زيادة فرصة شن هجوم بنجاح. فقد تم تنفيذ ما يزيد عن 61% من مؤامرات الذئاب المنفردة، مقارنةً بـ 18% فقط من المؤامرات التي خططتها جماعات مكونة من أفراد.

وفي خضم هذا لا يمكننا أن نغض الطرف عن أن المنصات الإلكترونية تُسهم في تسريع وتيرة التطرف، وذلك على النحو التالي :

·       تعتمد هذه المنصات الإلكترونية على خوارزميات لترويج محتواها العنيف والمثير لمشاعر السخط؛ الأمر الذي يدفع الأفراد إلى الوقوع في غياهب التطرف العنيف. وهنا، قد تتلاشى الحدود بين الأفعال السياسية والدينية والأعمال الناجمة عن الكراهية فقط.

·       هناك عدد من العوامل التي تزيد من خطورة هذا النوع من الإرهاب، من بينها المرونة الأيديولوجية، واستهداف الجماعات المتطرفة، وتأثير الاضطرابات الجيوسياسية المستمرة. وتتجلى خطورة المرونة الأيدولوجية عندما يُعلن المهاجمون ولاءهم لجماعة واحدة، في حين أنهم يُدمجون مظالم وروايات متعددة المصادر ما بين أفكار دينية وسياسية وتآمرية بصورة تعيق التصنيفات التقليدية.

·       سهولة الوصول للفئات العمرية الأصغر سنًّا، ما يجعلهم عُرضةً بشكل خاص للدعاية المُضللة والتجنيد المتطرف. على سبيل المثال، طوَّر ذراع تنظيم داعش الإرهابي في خراسان إستراتيجية إعلامية متعددة اللغات تنشر محتوى باللغات: البشتوية، والداري، والعربية، والأردية، والفارسية، والأوزبكية، والطاجيكية، والإنجليزية، والروسية، والتركية؛ للتحريض على تشكيل مؤامرات، وتقديم دروس تعليمية إلكترونية حول صنع العبوات الناسفة، وشراء الأسلحة النارية، أو اختيار الأهداف.

·       أيضًا تلعب الصراعات الخارجية دورًا في تأجيج المشاعر المعادية للمهاجرين، والتشجيع على التعاطف مع القضايا التي يدعمها تنظيم داعش. فعندما تقترن هذه المحفزات بالتحديات الشخصية، ومشكلات الصحة النفسية، أو مشاعر التهميش، فإن الفرد قد يندفع إلى التفكير في العمل العنيف. ونظرًا لأن المجال الرقمي يتجاوز مفهوم الحدود الوطنية، فإن الخطاب المتطرف ينتشر بسرعة كبيرة كانتشار النار في الهشيم.

 

لذا، يهيب مرصد الأزهر لمكافحة التطرف بالجهات المعنية كافة بالحفاظ على الاستقرار المجتمعي، أن يعملوا جاهدين على زيادة الوعي المجتمعي لدى الأفراد حول مخاطر التطرف وأهمية التواصل الاجتماعي الفعال، والحفاظ على الأمن الدولي بتوخي الحيطة والحذر إزاء التعامل مع الفضاء الرقمي والمنصات الإلكترونية من خلال تعزيز التعاون بين الأجهزة الأمنية على المستوى المحلي والدولي، كما يدعو المرصد إلى اتخاذ جميع الإجراءات القانونية اللازمة التي من شأنها تقويض سبل انتشار المحتوى المتطرف، ويؤكد على ضرورة تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأفراد الذين يظهر عليهم علامات الانعزال أو التأثر بأفكار متطرفة.

 

وحدة الرصد باللغة الإنجليزية