تعد المجتمعات هي الركيزة الأساسية التي تقوم عليها الحضارات والأمم، لكن هذه المجتمعات لا تسلم من محاولات الهدم والتدمير التي تستهدف زعزعة استقرارها وتفكيك بنيتها الأخلاقية والاجتماعية والثقافية، وقد تكون هذه المحاولات موجهة من جهات خارجية، أو نابعة من الداخل، عبر سياسات أو ممارسات تؤدي إلى إضعاف المجتمعات تدريجيًّا، وفي السطور التالية، نسلط الضوء على أبرز إستراتيجيات هدم المجتمعات، مع توضيح آلياتها، وآثارها المدمرة، والحلول الممكنة للتصدي لها.
إستراتيجيات هدم المجتمعات وتدميرها
(1) إثارة الفتن والصراعات الداخلية:
من أبرز الإستراتيجيات التي تُستخدم لتدمير المجتمعات إثارة الفتن الداخلية، سواء كانت دينية، أو عرقية، أو طائفية، ويتم ذلك عن طريق خلق الانقسامات بين الفئات المختلفة في المجتمع، بهدف تحويل التركيز من القضايا المشتركة إلى قضايا ثانوية تفرق بين الأفراد، ونشر الكراهية والبغضاء من خلال وسائل الإعلام، أو شبكات التواصل الاجتماعي، التي تُستخدم أدوات لزرع الشكوك، وإشعال الصراعات، واستغلال التنوع الثقافي والديني لتأجيج النزاعات الطائفية، بدلًا من تعزيز التعايش والتكامل بين أطياف المجتمع.
(2) الترويج للفوضى وعدم الاستقرار:
الفوضى وعدم الاستقرار بيئة خصبة لتدمير أي مجتمع، ويتم الترويج للفوضى عبر دعم التنظيمات الخارجة عن القانون التي تستغل الأوضاع الأمنية الهشة لتحقيق مكاسب شخصية أو سياسية، أو من خلال زرع الشكوك في قدرة مؤسسات الدولة على حماية المواطنين وتلبية احتياجاتهم، مما يؤدي إلى انعدام الثقة، ويمكن تحقيق الفوضى أيضًا من خلال تشويه القيم والقوانين التي تنظم حياة المجتمع، وجعلها تبدو غير ضرورية، أو غير فعالة.
(3) تدمير التعليم والثقافة:
التعليم هو العمود الفقري لتقدم المجتمعات، وتدميره يؤدي إلى انهيار ممتد لسنوات أو عقود وربما قرون، وتشمل هذه الإستراتيجية، إضعاف المناهج التعليمية عبر التركيز على مواد سطحية، أو الترويج لفكر غير علمي أو غير نقدي، ونشر ثقافة الاغتراب الثقافى من خلال تهميش القيم الثقافية والعلمية، واستبدالها بأفكار مستوردة تهدف إلى إضعاف الهوية الوطنية، أيضًا يتم تدمير التعليم والثقافة من خلال تضييق الخناق على المؤسسات الثقافية التي تُعنى بالتوعية والتنوير، واستبدالها بمنصات تروج للتفاهة، والإلهاء.
(4) تدمير الأسرة وضرب القيم الأخلاقية:
الأسرة هي النواة الأولى لأي مجتمع، واستهدافها يؤدي إلى انهيار القيم التي تقوم عليها المجتمعات، ويتم ذلك من خلال التحفيز على التفكك الأسري من خلال تقليل أهمية الروابط الأسرية، وتعزيز قيم الأسرية الفردية، كما يمكن تدمير الأسرة من خلال نشر ثقافة الاستهلاك المادي التي تجعل الأفراد يركزون على رغباتهم الشخصية، بدلًا من مسؤولياتهم الاجتماعية، والترويج للعلاقات غير السوية من خلال بعض أعمال الدراما ووسائل الإعلام التي تضعف من مكانة الأسرة وأهميتها، وتبرزها في صورة التقييد والتضييق، لا الاحتواء والأمان الاجتماعي.
(6) التضليل ونشر الشائعات من خلال المنصات الرقمية:
ويتم ذلك من خلال نشر الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة لتشويش وعي الجمهور، وترسيخ مفاهيم خطأ عن الواقع السياسي والاجتماعي، مما يؤدي إلى خلق حالة من الإحباط والسلبية، وتعزيز التفاهة على حساب القيم من خلال الترويج لمحتوى فارغ يبعد الأفراد عن قضاياهم الجوهرية.
(7) الترويج للانحرافات الأخلاقية والاجتماعية
ويتحقق ذلك من خلال استهداف العلاقات الأسرية والمجتمعية عبر تقليل قيمة الزواج والأسرة الطبيعية، والترويج لعلاقات غير أخلاقية بدعوى أنها "حرية شخصية"، مع إضعاف مفهوم الالتزام الاجتماعي والأسري، وإشاعة أن العلاقات يمكن أن تكون سطحية وغير مستدامة، كما يتم تشويه القيم الدينية التي تدعو إلى الأخلاق والفضيلة، واستبدالها بأفكار منحرفة عن الحرية الفردية.
الآثار المترتبة على هدم المجتمعات:
(1) تفكك النسيج الاجتماعي: فالانقسامات والصراعات الداخلية تُضعف الروابط بين الأفراد، مما يؤدي إلى مجتمع مفكك وغير متماسك.
(2) انعدام الأمن والاستقرار: فتصبح الحياة اليومية مليئة بالخوف وعدم الأمان، مما يؤدي إلى نزوح السكان أو الهجرة إلى أماكن أكثر استقرارًا.
(3) الركود الاقتصادي: حيث يتدهور الاقتصاد نتيجة الفساد والفوضى، ما يؤدي إلى تعطيل عجلة الإنتاج، وزيادة معدلات البطالة.
(4) فقدان الهوية الوطنية: فعندما تتآكل القيم الثقافية والأخلاقية، يفقد المجتمع هويته، ويصبح عرضة للذوبان في ثقافات أخرى، أو الانهيار داخليًّا.
كيفية مواجهة إستراتيجيات هدم المجتمعات:
تواجه المجتمعات الحديثة إستراتيجيات متعددة تهدف إلى زعزعة استقرارها وهدم قيمها، من خلال نشر الفوضى الفكرية والتشكيك في الثوابت، ولمواجهة هذه التحديات، يجب تعزيز الوعي المجتمعي، وترسيخ الهوية الثقافية، وتنمية التفكير النقدي لمواجهة التضليل، ويتطلب ذلك تكاتف المؤسسات التعليمية والإعلامية والدينية لحماية الأفراد، وبناء مجتمع متماسك قادر على الصمود، ويمكن تحقيق ذلك من خلال الإجراءات التالية:
(1) تعزيز الوحدة الوطنية والتركيز على القواسم المشتركة بين الفئات المختلفة، وإطلاق حملات توعية تسلط الضوء على أهمية التماسك الاجتماعي، وتقبل الآخر.
(2) تعزيز مكانة التعليم والثقافة من خلال تطوير المناهج التعليمية لتكون شاملة، وتعزيز ثقافة التفكير النقدي والوعي المجتمعي، وأيضًا دعم المؤسسات الثقافية التي تعمل على نشر القيم الإيجابية، وتعزيز الهوية الوطنية.
(3) مواجهة الشائعات من خلال فرض قوانين تنظم عمل وسائل الإعلام، وتحاسب الجهات والأفراد التي تنشر المعلومات المضللة، والحث على ترويج محتوى هادف يرفع الوعي، ويعزز القيم الإيجابية.
(4) تعزيز دور الأسرة والقيم الأخلاقية من خلال تشجيع برامج التوعية الأسرية التي تركز على أهمية الأسرة ودورها في بناء المجتمع.
(5) تعزيز الوعي المجتمعي بالمخاطر؛ بإقامة ورش عمل وبرامج تدريبية تشرح إستراتيجيات هدم المجتمعات وآثارها، وكيفية مواجهتها، وتشجيع الحوار بين الأجيال لتعزيز التفاهم ونقل القيم الأساسية.
وختامًا، فإن تدمير المجتمعات لا يحدث بين ليلة وضحاها، بل هو عملية متدرجة وممنهجة، ومع ذلك فإن بناء مجتمعات قوية يبدأ من الوعي بالمخاطر التي تواجهها، والعمل الجاد على مواجهتها من خلال الوحدة الوطنية، والتعليم الجيد، والقيم الأخلاقية الراسخة، فعلى كل فرد في المجتمع أن يتحمل مسؤولية الإسهام في هذا البناء، لضمان استمراريته وحمايته من كل محاولات الهدم والتدمير.
وحدة البحوث والدراسات
المصادر:
· فتحي، مديحة مصطفى (2020)، منظمات المجتمع المدني وتعزيز الانتماء لدى الشباب، مجلة كلية الخدمة الاجتماعية للدراسات والبحوث، جامعة الفيوم.
· هادناجي، كريستوفر (2017)،الهدنسة الاجتماعية فن اختراق العقل البشري، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة، الإمارات.
· الصعيدي، فايز بن مبيريك (2022)، دور الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي فى مواجهة تدمير القيم المجتمعية لدى الشباب" دراسة ميدانية مطبقة على عينة من الناشطين والشباب المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي في المجتمع السعودي، مجلة كلية الخدمة الاجتماعية للدراسات والبحوث، جامعة الفيوم.