دراسات وتقارير

 

06 مارس, 2025

رمضان من منظور علم النفس.. كيف يعيد الصيام برمجة النفس والعقل؟

 

في كل عام يأتي رمضان ضيفًا عزيزًا يحمل في طياته فرصة ذهبية لإعادة التوازن إلى حياتنا، ليس فقط على مستوى العبادة، بل أيضًا على المستوى النفسي والعقلي، فهو ليس مجرد شهر للصيام عن الطعام والشراب، بل هو رحلة نفسية وعقلية تعيد تشكيل أفكارنا، وتصفِّي أذهاننا، وتُرقّي مشاعرنا، لكن كيف يؤثر الصيام فعليًّا على عقولنا وأرواحنا من منظور علم النفس؟[i]

(1) الصيام تدريب للعقل على قوة الإرادة وضبط النفس

قد يفقد الإنسان السيطرة على رغباته اليومية كالطعام، الهاتف، وسائل التواصل الاجتماعي، الاستهلاك المستمر، وهنا يأتي الصيام بوصفه أداة نفسية قوية تساعد على استعادة السيطرة على الذات، وهو ما يُعرف في علم النفس باسم: "تأجيل الإشباع (Delay of Gratification) "، ويعني القدرة على مقاومة الرغبات الفورية للحصول على مكافأة، أو نتيجة أفضل في المستقبل، ويُعتبر هذا المفهوم من أهم المؤشرات على قوة الإرادة والتحكم في الذات، حيث يساعد الأفراد على اتخاذ قرارات طويلة الأمد تعود بالفائدة عليهم لاحقًا، مثل الادخار بدلًا من الإنفاق الفوري، أو الالتزام بنظام غذائي صحي بدلًا من الاستسلام للأطعمة غير الصحية، وهو أحد العوامل الرئيسية التي تميِّز الأشخاص الناجحين عن غيرهم، وعندما تصوم، فأنت تدرب عقلك على الانتظار، وعلى التحكم في الرغبات، وعلى مقاومة الإغراءات.

ولا تقتصر السيطرة والتحكم في الذات على الطعام فقط، بل يمتد ليشمل العادات اليومية؛ فكم من مرة حاولت التخلص من عادة سلبية وفشلت؟ فها هو رمضان يمنحك بيئة مثالية لإعادة برمجة عقلك وإقرار عادات إيجابية والتخلي عن عادات سلبية، حيث يستغرق تشكيل العادة الجديدة حوالي 21 إلى 30 يومًا، وهي مدة تتطابق مع شهر الصيام!

(2) الصيام والهدوء النفسي: كيف يقلل الصيام من التوتر والقلق؟

في ظل تسارع الحياة وضغوطها، يصبح العقل محاصرًا بالتوتر والقلق، لكن العجيب أن رمضان يأتي ليقدم لنا فرصة للتخلص من التوترات والضغوط، فعندما نصوم، يقل إفراز هرمون الكورتيزول، المسؤول عن التوتر، مما يؤدي إلى حالة من الاسترخاء والسكينة، ولا يمكن إغفال الجانب الروحاني، فالصلاة والذكر والتأمل في رمضان تعمل على زيادة مستويات هرموني السيروتونين والدوبامين، وهما الناقلان العصبيان المسؤولان عن الشعور بالسعادة والراحة النفسية.

 

 

(3) رمضان وتعزيز الذكاء العاطفي

هل لاحظت أنك في رمضان تصبح أكثر حساسية لمشاعر الآخرين؟ تشعر بالجوع كما يشعر به الفقير، وتصبح أكثر ميلًا للعطاء ومساعدة المحتاجين؟

هذا ليس مجرد شعور عابر، بل هو تأثير نفسي حقيقي، فالصيام يعزز من قدرتنا على التعاطف، وفهم مشاعر الآخرين، والشعور بها كما لو كانت مشاعرنا، في منظور علم النفس يُعد هذا من أهم مهارات الذكاء العاطفي، وهي المهارة التي تميِّز الأشخاص الذين يتمتعون بعلاقات اجتماعية قوية.

(4) الصيام وإعادة ضبط العادات

إذا كنت تفكر في التخلص من عادات سلبية مثل: التدخين، أو تناول الطعام غير الصحي، أو قضاء وقت طويل أمام الشاشات، فإن رمضان هو الوقت المثالي لذلك.

فعلى سبيل المثال، كثير من الناس يجدون في رمضان فرصة للتحكم في الإفراط في تناول الطعام؛ إذ يصبحون أكثر وعيًا بنوعية الطعام وكمياته التي يتناولونها، كما أن تقليل الانشغال بالهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي يتيح للعقل مدة للراحة من الضوضاء الرقمية، مما يعزز التركيز والهدوء النفسي.

(5) الصيام والسمو الروحي

رمضان ليس فقط شهرًا لتغيير العادات والسلوكيات، بل هو أيضًا رحلة روحية تُقربنا من أنفسنا ومن الله. ففي علم النفس، هناك مفهوم يُعرف بـ "تأمل الذات"، وهو ممارسة تجعل الإنسان أكثر وعيًا بحاضره، وأكثر توازنًا مع مشاعره وأفكاره، الصيام في حد ذاته هو شكل من أشكال التأمل الذهني؛ فهو يجعلك أكثر وعيًا بجسدك، وأفكارك، ومشاعرك، ويمنحك فرصة للتخلص من الضغوط الذهنية، والتركيز على جوهرك الداخلي.

ولهذا السبب، يشعر الكثيرون في رمضان بسلام داخلي لا يجدونه في بقية العام، ويخرجون منه بروح متجددة وعقل أكثر وضوحًا.

وختامًا: فإن رمضان ليس مجرد شهر للصيام بالامتناع عن الطعام والشراب والشهوة، لكنه فرصة ذهبية لإعادة برمجة الحياة ككل بجانبيها المادي والروحي، كما يعد دورة تدريبية متكاملة للعقل والروح، يُعلِّم قوة الإرادة، ويخفف من التوتر والضغوط، ويُعزِّز من التعاطف مع الآخرين والشعور بهم، ويمنح فرصة لإعادة بناء العادات والسلوكيات.

فهنيئًا لمن استثمر هذه الفرصة العظيمة، وأحيا أيامه ولياليه بالطريقة الصحيحة، ليجد نفسه في نهاية الشهر أكثر صفاءً، وأكثر تركيزًا، وأكثر قوة على مواجهة الحياة، متمتعًا بتوازن نفسي وروحاني جديد.

  وحدة البحوث والدراسات

 

[i]  استندت هذه المقالة إلى بحث منشور في مجلة التربية، العدد 196، الجزء (4)، أكتوبر لسنة (2022م) للدكتور/ محمد عبد الحليم فراج، بعنوان فاعلية التدريب على ما وراء الدافعية في تأجيل الإشباع الأكاديمي لدى طلبة كلية التربية جامعة الأزهر.