أراد الله تعالى أن يكون من آياته اختلاف ألسنة الناس وألوانهم وطبائعهم، وجعل الإنسان يميل بفطرته إلى العيش في مجتمعات تتداخل مع بعضها البعض لتتفق في أمور وتختلف في أخرى وتستمر الحياة، يقول تعالى في سورة الحجرات (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا). ربما يؤدي الاختلاف بين البشر أحيانا إلى الخلافات والصراعات، بل والحروب؛ وذلك بسبب تعارض المصالح والأهداف، وخاصة إذا صادف هذا غياب القيم والاعتبارات الإنسانية. وقد يتخوف مجتمع ما من انضمام أناس من مجتمع آخر إليه، ربما يكون محقا في مخاوفه؛ وكثيرا ما يكون مخطئا ومناقضا لما تنادي به أسس الحوار والتعايش المتبادل بين الناس على اختلاف ألسنتهم وعقائدهم وتوجهاتهم. ينعكس هذا جليا في نظرة كثير من الغرب للمسلمين، فرغم أن بعض المجتمعات الغربية لا ترى حرجا في اندماج المسلمين بينهم، إلا أن هناك الكثير أيضا يرفض قبول الآخر سواء أعلنوا ذلك بوضوح أو أشاروا إليه بتلميحات غير مباشرة.
إن التخوف من أسلمة الغرب ليس بالجديد، ولهذه الظاهرة أسباب عدة من بينها زيادة عدد المسلمين بأوروبا حيث يرى المتخوفون أن ذلك هو المعيار لتغير البلاد حيث يصبح لهم تأثير كبير ويبدأون في الضغط من أجل تحقيق مطالب خاصة بهم. ويستندون إلى التوقعات بأن عدد المسلمين سيستمر في الزيادة إلى أن يتساوى مع عدد المسيحيين بحلول عام 2050. كما يرون أن أوروبا التي تعتبر مركز انتشار المسيحية أصبحت اليوم علمانية لا تهتم بالهوية الدينية بينما يعتبرها المسلمون أمرا لا يُمَس؛ فهم يحافظون على هويتهم الإسلامية في الوقت الذي تمحو فيه أوروبا هويتها المسيحية. كذلك يرى المتخوفون أن مبادئ الديموقراطية الغربية ذاتها ستكون هي المدخل لتحول أوروبا نحو الإسلام والحكم بشريعته.
وقد ترسخ الخوف من أسلمة أوروبا في الآونة الأخيرة بسبب موجات تدفق المهاجرين من سوريا إلى القارة العجوز. وظهرت هذه التخوفات داخل البرلمان الأوروبي من خلال تصريحات بعض أعضائه الذين أعلنوا أن هناك تخوفا من النزوح الرهيب للاجئين إلى أوروبا ممزوجا بالتخوف من تسلل عناصر جهادية لتنظيم داعش بينهم، بل يذهب بعض المتخوفين إلى أبعد من ذلك، معتبرين أن هناك برنامجا ممنهجا لأسلمة أوروبا وإعادة "غزوها ، وأن موجات اللاجئين ما هي إلا عملية "غزو سلمي" لبلاد الغرب لقلب حضارته رأسا على عقب.
وقد انعكست هواجس الغرب من الأسلمة في الرواية الفرنسية الشهيرة "الخضوع" للكاتب ميشيل ويليبك والتي نشرت مطلع عام 2015 لتعكس مدى التخوف من أسلمة فرنسا يوما ما. يتخيل فيها الكاتب فرنسا بعد انتخابات الرئاسة عام 2020 التي يفوز بها مسلم يفرض على البلاد نظاما إسلاميا، لتصبح السوربون جامعة إسلامية، عميدها متزوج من ثلاث نساء إحداهن مراهقة، ويعمل بها أساتذة مسلمون فقط، بينما يحال غير المسلمين وكذلك النساء إلى التقاعد، مع معاشات خيالية يوفرها الأمراء المسلمون أرباب الثراء. تنشر الرواية صورة خاطئة عن الإسلام تظهر تحريم عمل المرأة التي لا دور لها إلا أن تكون ملكا للرجل. ولا شك أن لرواية كهذه تأثيرا كبيرا في تعزيز التخوف من المسلمين الذين -بلا شك- يحفل الغرب بالعديد من النماذج المشرفة منهم والتي تسهم بدور فعال في نموه وتقدمه.
ينعكس أيضا تخوف الغرب من الأسلمة في بعض التصريحات والعبارات، كان من أبرزها التعبير عن دخول أعداد من المهاجرين إلى أوروبا بكلمة "غزو" وأن استقبالهم سيكون بمثابة "حصان طروادة الجديد"، بل ويعتبر البعض دخولهم سيفا على رقاب أوروبا. وتنتشر الدعوات الذاتية أن يفيق الغرب من سباته ومن هذه "اللامبالاة" المسيطرة عليه ليدرك أنه في آخر المراحل الانتقالية نحو أسلمة أوروبا لأن الإسلام من وجهة نظرهم هو التهديد الأكبر الذي يواجهونه، إذ إن نبي الإسلام محمدا "صلى الله عليه وسلم"–على حد زعمهم ونظرتهم القاصرة- كان رجل حرب؛ تلك الشبهة البيِّن بطلانها التي يثيرها دائما المعادون للإسلام حول نبي الرحمة الذي أرسله الله (رحمة للعالمين) وليس للمسلمين فحسب، والذي لم تُمثِّل الحرب من سنوات حياته سوى أيام معدودة وكانت لأسباب محددة. كما كان عليه الصلاة والسلام رائدا في وضع قوانين إنسانية للحرب ولحماية المدنيين مازالت تتعلم منها البشرية إلى يومنا هذا.
ومع تزايد تلك التخوفات من أسلمة الغرب وربط ذلك بالمهاجرين أعلنت بعض الدول إغلاق حدودها في وجه اللاجئين كافة، ولو على سبيل العبور من بلادهم دون الإقامة بها. بينما أعلنت دول أخرى استقبالها للاجئين المسيحيين فحسب. تتصدر هذه الدول المجر وسلوفاكيا والتشيك بموقفها المتشدد من اللاجئين بدعوى تسلل عناصر جهادية متطرفة بين اللاجئين المسلمين خاصة، وبدعوى أن الثقافة الغربية والقيم المسيحية في أوروبا باتت مهددة بسبب اللاجئين الذين ألزم الاتحاد الأوروبي دوله باستقبال عائلات مسلمة منهم بأكملها. بل حذر الرئيس المجري من التعددية الثقافية التي من الممكن أن تتسبب في إنشاء مجتمعات منقسمة على حد قوله. أو ليس هذا مناقضا لمبادئ التعايش والاندماج التي ينادي الغرب بتحقيقها في البلاد الإسلامية؟ وهل العرب المسيحيون قادرون على الاندماج مع الثقافة الأوروبية دون المسلمين؟! وهل تسقط حقوق الإنسان من إيواءٍ ورعايةٍ عن المسلمين؟! ولماذا لا تتخذ الدول إجراءاتها الأمنية لمنع تسلل الإرهابيين دون إلصاق التهم بالجميع؟! إن هذه الدعوات الرافضة لاستقبال المهاجرين الفارين من لظى الحرب في بلادهم تضرب عُرض الحائط بكل ما تنادي به مبادئ الإنسانية والتعايش التي تفخر أوروبا دائما بتبنيها وتطبيقها. ولا يمكن بحالٍ إلغاء الاعتبارات الإنسانية التي تحمل كل ذي ضمير حي على مساعدة هؤلاء البؤساء الفارين من الحرب إلى المصير المجهول.
حتى البلاد المرحبة باللاجئين وعلى رأسها ألمانيا، تشهد مدنها مظاهرات ضد اللاجئين وضد "الأسلمة"، تقوم بها حركة بيجيدا (PEGIDA اختصار ألماني لحركة "وطنيون غربيون ضد أسلمة الغرب"). وقد استغل الرافضون للاجئين ما حدث ليلة رأس السنة من أحداث التحرش التي وقعت بمدينة كولونيا ، حيث ألصقوا التهم باللاجئين دون أي دليل سوى أن هذا الأمر لم تشهد مثله البلاد إلا بعد دخول اللاجئين، مستبقين بذلك نتائج التحقيقات ومتجاهلين الأصوات التي ترجح أن تكون هذه الأحداث مدبرة خصيصا لتبرير التخوفات من أسلمة البلاد.
إن من يتبنى فكرة ما سيحاول تطويع كل الأحداث ليبررها ويدافع عنها ويثبت لمعارضيه صواب رأيه. وللأسف أصبح العرب والمسلمون أداة في يد الدول الكبرى يستغلونها أينما رأوا في ذلك تحقيق مصالحهم. ولنا أن نتساءل لماذا اضطر الآلاف من البلدان العربية وخاصة سوريا إلى النزوح إلى أوروبا؟ ومن الذي صنع تنظيم داعش وأمده بالسلاح سرا للقضاء على نظام بشار الأسد؟ داعش ما هو إلا امتداد لتنظيم القاعدة الذي ولد على يد أمريكا بغرض الحرب بين الاتحاد السوفيتي وأفغانستان وحظي بدعمها المادي والعسكري والإعلامي. وداعش ذاته يُستخدم الآن كمبرر لقمع الحريات، وغدا كل لاجئ مشتبَها به وبنواياه. فهل أصبحت الدول الكبرى هي التي تستخدم اللاجئين الآن بمثابة "حصان طروادة" لتبرير تخليهم عن الاعتبارات الإنسانية؟!
إن الإسلام لا يحمي المسلم من العقوبة إن أخطأ، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها)، لكنه يحاسب المخطئ وحده دون سياسة التعميم.
وختاما فإن على الدول الإسلامية أن تتحمل مسؤولياتها في وقف الدماء المراقة فيها وفي استيعاب اللاجئين والضحايا قدر المستطاع. وعلى الغرب أن يعي أن معظم هذه البلاد في العصر الحاضر غارقة في شؤونها الداخلية ولا تسعى لأسلمة أوروبا، إلا أن أوروبا تستطيع أن تستفيد من بعض أحكام الإسلام وشريعته في وضع القوانين التي يشيد بها الباحثون والمتخصصون الغربيون أنفسهم. أوروبا التي تحيط بها مخاطر التفكك الأسري والإدمان وزيادة معدلات الانتحار وغيرها من المعضلات التي -لو أردوا البحث- لوجدوا لها في الإسلام الحلول.
ولقد أثبت المسلمون على مر التاريخ قدرتهم على الاندماج والتعايش مع الجميع. وخير دليل على ذلك في الوقت الحاضر ما وصلت إليه منى شندي، أول مسلمة في أستراليا تعمل كقبطان للأسطول البحري الملكي الاسترالي ولم يعُقْها الإسلام عن الاندماج في المجتمع، بل حصلت على لقب "المرأة المثالية" لعام 2015، تكريما لها على مسيرة عملها المشرفة في البحرية الاسترالية. وإذا أردنا تعداد هذه النماذج التي لا تقف عند الاندماج في الغرب فقط بل تتجاوزها إلى النهوض بهذه المجتمعات من خلال عملها واجتهادها من أمثال دكتور أحمد زويل ودكتور فاروق الباز وغيرهما لن تسعنا هذه السطور.
إن الغرب دائما يتذكر ما يُنسب لبعض المسلمين من الهمجية والعنف، متناسيا في الوقت ذاته كل إسهام للمسلمين في بناء الحضارات على مدار التاريخ. ويغفل عن عمد ما يُنسب لغير المسلمين من أفعال شائنة يطلقون عليها ساعتها "أفعال فردية" ولا ينسبونها لدين أو طائفة بعينها كما هو الحال مع المسلمين. كما يغمض العالم عينيه عما يتعرض له المسلمون من مجاعات وجرائم عنف وإبادة جماعية كما يحدث في بورما وكشمير وميانمار وأفريقيا الوسطى وغيرها، ولا يتحدث سوى عن تخوفاته ومصالحه.
لقد آن الأوان أن يُعلي الغرب المبادئ والقيم الإنسانية التي تكفل حق الحياة لكل البشر على السواء وأن يتخلى عن نظرة التعميم وإطلاق الأحكام المسبقة وخلط الأوراق بما يجنبه الوصول إلى منحدرات الظلم والاضطهاد وليتعامل المتخوفون مع المسلمين كشريك في الحياة كغيرهم من ذوي الديانات الأخرى التي لا تؤخذ بجريرة بعض أفرادها.