تهم التجسس تطارد أئمة المساجد الأتراك في ألمانيا

  • | الخميس, 16 مارس, 2017
تهم التجسس تطارد أئمة المساجد الأتراك في ألمانيا

يعود تأسيس الاتحاد الإسلامي التركي في ألمانيا (ديتيب) إلى ثمانينيات القرن العشرين. فبعد هجرة أعدادٍ كبيرةٍ من الأتراك للعمل في ألمانيا بدءًا من ستينيات القرن الماضي وتزايد عدد المساجد هناك تأسس الاتحاد في عام 1984 بوصفه اتحادًا تابعًا لرئاسة الشئون الدينية في العاصمة التركية أنقرة (ديانات). ويقع مقره الرئيسي في مدينة كولونيا الألمانية. ومنذ ذلك الحين نما هذا الاتحاد ليضم تحت إشرافه ما يزيد عن 900 مسجد حتى عام 2016 ليصبح أكبر اتحادٍ إسلامي في ألمانيا. تقوم تركيا بتدريب وإرسال الأئمة للعمل في المساجد التابعة للاتحاد، حيث غالبًا ما تُعقد خطب الجمعة باللغتين التركية والألمانية أو التركية فقط. كما تدفع رئاسة الشئون الدينية التركية رواتب هؤلاء الأئمة

ولما كان المسلمون من أصلٍ تركي يشكلون غالبية المسلمين في ألمانيا نظرت العديد من الحكومات الألمانية المتعاقبة إليه بوصفه شريكًا أو على الأقل طرفًا في أي حوارٍ أو اتفاقٍ مع المسلمين الذين يعيشون في ألمانيا. فعلى سبيل المثال هناك اتفاقُ حكومي بين ولاية هامبورج والاتحاد لتنظيم الإجازات الدينية والأعياد وحقوق الأقلية المسلمة في نطاق الولاية. كما أن الاتحاد شريك مع ولاية هيسن على سبيل المثال فيما يخص تدريس الدين الإسلامي في المدارس. هذا بخلاف شراكته مع عدة جامعات في تعيين أساتذة للتاريخ العثماني. وقد أهدى الاتحاد لمعهد الدراسات الإسلامية في أوسنابروك 100 ألف مجلد في العام الماضي.

لكن هذا لم يحل دون أن يكون الاتحاد الإسلامي التركي محل انتقادٍ في ألمانيا. ففي العام الماضي وجه العديدون ولا سيما من التيار الذي يسمي نفسه "تيار نقد الإسلام" سهام النقد للعديد من روابط المساجد وكان للاتحاد الإسلامي التركي نصيبه من ذلك. كان من هؤلاء المختص بالدراسات الإسلامية في كلية التربية بجامعة فرايبورج د. عبد الحكيم أورغي والذي انتقد الاتحاد بوصفه واقعًا تحت سيطرة الحكومة التركية وينفذ أهدافًا دينيةً وسياسية. جاء هذا في سياق انتقاده لمناهج تدريس الدين الإسلامي في ولاية هيسن – والتي تتعاون فيها الولاية مع "الديتيب" كما أسلفنا- على أنها غير بناءة وتفتقد إلى النظرة النقدية، كما أنها –على حد قوله- تدرس آيات من القرآن تحث على عدم المساواة بين الجنسين. وبلغت المواجهة بين الطرفين ذروتها إثر مقالة نشرها مراد كايمان، أحد العاملين في الاتحاد الإسلامي التركي سابقًا، على مدونته في شهر أغسطس الماضي عن أورغي واصفًا إياه فيها بأنه من المحتمل أن يكون إباضيًا، اعتبر أورغي هذا الاتهام بمثابة فتوى تبيح قتله بدعوى أنه ليس على المذهب السني، وهذا ما يمكن أن يحفز بعض المتطرفين على قتله.

حاول الاتحاد الإسلامي التركي نفي هذه الاتهامات، إلا أن حدتها قد تزايدت على إثر محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا في يوليو الماضي، حيث اتهمت الحكومة التركية حركة الخدمة الإسلامية ومؤسسها فتح الله جولن بالوقوف وراء هذا الانقلاب. اتجهت أصابع الاتهام حينها إلى الاتحاد الإسلامي التركي واصفةً إياه بأنه الذراع الطويلة للحكومة التركية في ألمانيا. ولم يقتصر الأمر وقتها على الأكاديميين فحسب، بل وصل إلى السياسيين الألمان أنفسهم، إذ صرح فولكر كاودر زعيم الكتلة البرلمانية للاتحاد المسيحي بزعامة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في أغسطس الماضي برغبته في عدم السماح للاتحاد بالمشاركة في صياغة الحصص الدراسية للدين الإسلامي في أية مدارس ألمانية. تلا ذلك في سبتمبر إيقاف ولاية شمال الراين-وستفاليا التعاون مع الاتحاد الإسلامي التركي في برنامجٍ للوقاية من التطرف. جاء ذلك بعد أن كشف وزير داخلية الولاية عن قيام الاتحاد بتمجيد الاستشهاد في بعض القصص المصورة المنتجة ضمن هذا المشروع وبهذا –حسبما صرح الوزير- يفقد الاتحاد الإسلامي التركي حياده. علاوة على ذلك طالبت المعارضة المحلية في الولاية بوقف التعاون مع الاتحاد الإسلامي التركي في مجال تدريس الدين الإسلامي في المدارس.

هذا وبلغ هذا التوتر مبلغه بعد اتهام بعض الأئمة التابعين للاتحاد بالتجسس لصالح الحكومة التركية على أعضاء في حركة فتح الله جولن ونقل تلك المعلومات إلى الحكومة التركية في أنقرة. وجرى مداهمة بيوت بعض الأئمة التابعين للاتحاد. وذكرت بعض المصادر تحقيقات أنه جرى تفتيش مبانٍ تابعة للاتحاد في منطقة فورتن بولاية راينلاند-بفالتس. يأتي هذا بعد أن حذرت المستشارة ميركل من أن يسود انطباع بوجود حالات تجسس في ألمانيا إثر لقائها بالرئيس التركي مطلع فبراير. هذا وقد حاول الاتحاد نفي هذه المعلوماتٍ بطريقٍ غير مباشرة، فقد أكد بكير ألبوجا، سكرتير عام الاتحاد، بأن بعض الأئمة نقل معلومات عن أعضاءٍ في حركة فتح الله جولن، وقال إن هناك تعليمات من رئاسة الشئون الدينية التركية لنقل هذه المعلومات إلا أن هذه التعليمات لم تكن موجهةً للأئمة العاملين في الاتحاد الإسلامي التركي، ولكن بعض الأئمة نفذ هذه التعليمات على أي حال!!

أثارت هذه الاتهامات موجةً من ردود الفعل كان من بينها دعوة دعا وزير العدل الألماني هايكو ماس اتحاد "ديتيب" إلى العمل باستقلالية عن السلطات في أنقرة، معتبرًا أن التأثير الذي تمارسه السلطات التركية على الاتحاد كبير جدا. كما دعا إلى التعاون مع السلطات لتسليط الضوء على كل حيثيات تهم التجسس على أتباع حركة جولن. يأتي هذا فيما طالب السياسي "فولكر بيك"، المتحدث السياسي الديني لحزب الخضر، وزير الداخلية الألماني توماس دي ميزير (الحزب الديمقراطي المسيحي) بسرعة إعلان نتائج التحقيقات. حيث قال له يوم الأحد: "عليك ممارسة أُسلوب الضغط على الاتحاد الإسلامي التركي، وعليك إعلان أسماء الجواسيس للعدالة الألمانية".

تأتي هذه الأزمة لتضيف مزيدًا من وقود التوتر في العلاقة بين تركيا وألمانيا، حيث أعقبها تصريحات من الرئيس التركي رجب أردوغان يقارن فيها الحكومة الألمانية الحالية بالحكم النازي بعد رفض بعد المدن والولايات الألمانية استضافة مؤتمرات انتخابية للدعاية لتعديلات دستورية توسع من صلاحياته. وتأتي أيضًا لتؤكد التهم التي دأب تيار "نقد الإسلام" على توجيهها للاتحاد الإسلامي التركي بتنفيذ أجندات خارجية على الأراضي الألمانية، وبأنه لا يصلح شريكًا في مقاومة التطرف أو إدخال تدريس الدين الإسلامي في المدارس الألمانية، بما قد يؤدي إلى التراجع عن العديد من الخطوات التي تم اتخاذها بهذا الاتجاه في السنوات الماضية ويهدد المكاسب التي حققتها الأقلية الإسلامية في ألمانيا. فتهمةً كهذه تصب بلا شك في مصلحة الأحزاب المتطرفة التي تستفيد من هذه الأحداث في صياغة دعايتها المعادية للمسلمين والمهاجرين، لا سيما في العام الذي تجري فيه الانتخابات البرلمانية الاتحادية في ألمانيا ويخشى العديدون من أن يحقق أبرز هذه الأحزاب، حزب البديل من أجل ألمانيا، النسبة الكافية التي تؤهله لدخول البرلمان الاتحادي بعد أن نجح في إحراز نجاحات كبيرة على مستوى الولايات. كل هذه الأمور تضع الاتحاد الإسلامي التركي في وضعِ حرجٍ ودقيقٍ للغاية في قلب أزمةٍ أساسها النزاع السياسي الداخلي في تركيا وتؤججها رغبة اليمين المتطرف الأوروبي في إدانة المسلمين بالتقليل من ولائهم وانتمائهم للبلدان التي يعيشون فيها وأنهم إما إرهابيون محتملون وخلايا نائمة للتنظيمات المتطرفة أو منفذون لأجنداتٍ خارجية لا تخدم بالضرورة البلدان التي يعيشون فيها، خاصةً مع تصاعد الأزمة بين أوروبا وتركيا بعد رفض هولندا لإقامة مؤتمرات الدعاية الانتخابية على أراضيها. وستكشف الأيام القادمة عن المسار الذي ستأخذه الأحداث فيما يخص الاتحاد الإسلامي التركي أو غيره من الاتحادات التي قد تطالها اتهاماتٌ مشابهة.

طباعة

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.