المساقون إلى دائرة اللهب.. "المسماري" أنموذجًا

  • | الثلاثاء, 6 فبراير, 2018
المساقون إلى دائرة اللهب.. "المسماري" أنموذجًا

     لم يكن حديث عبد الرحيم المسماري، الإرهابي الليبي الذي شارك في قتل ضباط وجنود الشرطة المصرية في الواحات، إلا ترجمة لواقع إرهابي قاعدي مؤدلج، وجد في انسياقه الأعمى لجماعات الضلال والتكفير، وفي اعتناقه للفكر الجهادي المغلوط تفريغًا لدوافعه الإجرامية المكبوتة، مقرونًا بيقينٍ لا يئنُّ معه ضميره الذي اطمأن إلى أن قتل الأبرياء وإراقة الدماء هما الجهاد الأكبر وسر الفلاح الأعظم الذي استتر عن البقية الجاهلة، فأكثر الناس لا يعلمون ما عَلمه، وحمدًا لله أن أكثر الناس لا يعلمون ما علمه من تضليل وافتراء وقلب للحقائق.

فهو لا يعلم شيئًا عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي استشهد به لتسويغ جرمه؛ فقط هو بايع شيخه بيعةً عمياء على السمع والطاعة، تلك البيعة التي تعلَّم عبد الرحيم من بنودها أن قتل الضباط والجنود المُكلفين بحماية البلاد وأمنها دفعٌ للصائل، متجاهلًا أنه هو نفسه الصائل المعتدي، الذي توارى في الصحراء شهورًا، وأعد العدة من أجل الغدر وسفك الدماء الزكية. وهي نفس البيعة التي صورت له أن الجهاد فرض عين وهو في الأصل فرض كفاية، أسقطه عنا وجود الجيوش التي تحمي الحدود والأوطان ووجود رجال الأمن في كل ربوع الوطن.

عبد الرحيم لم يع أيضًا الفرق بين القتال والقتل واختزل الجهاد في القتل الذي هو استباحة دماء الأبرياء، ولم يلتفت إلى قول الحق تبارك وتعالى: " مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"، وقوله أيضا:"وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ  وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ  إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا".

أحَلَّ عبد الرحيم ما حرَّم الله ونصَّب نفسه واليًا وحاكمًا وقاضيًا وجلادًا، تجرد من إنسانيته ليرتدي قناعًا أسماه شرع الله والشرع منه ومن أمثاله براء. لقد افترى بعلمه الجديد على نبي الرحمة ورماه بأنه قتل أعمامه الأربعة وهو صلى الله عليه وسلم من ذلك براء، فمسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل أعمامه لم ترد في أية رواية حتى ولو ضعيفة؛ لم يقتل النبي أحدًا من أعمامه الأربعة، ولم يعتد النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل على مخالفيه أبدًا، بل كانت حروبه كلها دفاعية لرد العدوان ودفع الظلم.

إرهاب عبد الرحيم وأمثاله كما وصفه فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب "ليس إفرازًا للدين الإسلامي الحنيف، بل هو مرض فكري ونفسي، يبحث دائمًا عن مسوغات وجوده في متشابهات نصوص الدين وتأويل المؤولين ونظرات المفسرين، فالدين والعنف نقيضان لا يجتمعان أبدا ولا يستقيمان في ذهن عاقل، والجماعات الدينية المسلحة التي ترفع لافتة الدين هي خائنة لدينها ووطنها قبل أن تكون خائنة لنفسها."

ولم يكن الإرهاب قادرًا على شن حروب لا مُتماثلة بين قوات نظامية حكومية وميليشيات إرهابية غير نظامية إلا من خلال تجنيد الشباب وفصلهم عن الفضاء العام وخلق مسرح لهم يمارسون عليه العنف ضد أهم حق من حقوق الإنسان وهو الحق في الحياة. وقد استطاعت تلك التنظيمات الإرهابية أن تقتات من الظروف التي أنتجتها العولمة وحالات التوتر والصراعات الأهلية الدينية والسياسية.

لا تتكلف الرحلة إلى عقول هؤلاء المجندين عنتًا كبيرًا، فيكفي من يريد ترويض أمثال هؤلاء أن يتودد إليهم مواسيًا أو مهنئًا أو مهاديًا، حتى يأنسوا إليه؛ ليبلغ مبلغه في اصطيادهم وبلبلة أفكارهم وزعزعة إيمانهم تدريجيًا، ليغرس بسهولة عقيدته الجديدة الدامية، وليقنع فريسته بأنه دون غيره قد بلغه الحق، الذي سيجعل منه استثناءً وسط قطيع ضل الطريق ولا سبيل لصلاحه إلا بالقضاء عليه. ويساعد على ذلك أن العقول خاوية متعطشة لفكرة تبرر النهاية المأساوية، وتواري العجز عن المواجهة والصمود من أجل الحياة. ثم تأتي المرحلة الأخيرة في الرحلة وهي أخذ العهد والبيعة والاحتفاء به لانفصاله عن مجتمعه الأصلي وانصياعه لعقيدة الانتقام والثأر دون أن تبصر أو تفكر.

وبهذا يتضح أنه لا يولد أحد على فطرته إرهابي، لكنه يكتسب السلوك الإرهابي والانحرافي من خلال التربية والتعليم والتقليد الأعمى، يكتسبه من خلال مجموعة من العوامل المتشابكة التى تشمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والقدرات العقلية والخبرات المكتسبة، والحالة المزاجية والانفعالية، التي تخرجه عن الفطرة السليمة المألوفة للنفس البشرية، لينخرط بين صفوف المتهورين والمندفعين الذين لا يراعون حرمة ولا يكترثون بمشاعر الآخرين وحقوقهم.

صراع يعيشه الإرهابي بين "أنا" و "هو"، صراع تفشل فيه الأنا عن تحقيق مساعيها وغاياتها بسلوك متزن وبتكيف لائق مع البيئة والظروف، لتنحرف بدوافع مكبوته للإجرام ولتعزيز أفكار الموت والتدمير والقتل. ويؤكد ذلك مقولة مهاتما غاندي بأن "الإرهاب هو سلاح الضعفاء وليس سلاح الأقوياء"، لأن الضعيف هو من عجز عن تعزيز غريزة الحياة بالنظرة الإيجابية لها والقدرة على التكيف والتطور، وهو من عجز أيضًا عن مواجهة الحقيقة واستسلم للإحباط ولم ينتصر لفطرته السوية.

لقد بدا في حديث الإرهابي الليبي جموده الفكري وانغلاقه العقلي، ومعرفته السطحية بالدين، وفراغه الثقافي والعاطفي؛ هو ينتمي إلى الجماعة وزعيمها أكثر من انتمائه للعقيدة نفسها، فالإرهابي ينتمي كليًّا إلى الجماعة ويرى فيها هويته وأمانه، وهي تمثل له منظومة القيم التي تحدد سلوكه وأفكاره وكذا ردود أفعاله. هو يقبل سياج العزلة الذي تفرضه الجماعة عليه؛ حتى تستطيع أن تعزز قيم العنف الذي أصبح في هذه الحالة مقدسًا، أو دينيًّا بالنسبة له؛ ومن ثم تظهر سمات الشخصية السيكوباتية الإجرامية بسطحيتها وتطرفها في المشاعر السلبية وتلذذها بإيذاء الآخرين وتجردها من المعايير الأخلاقية ومن الضمير الإنساني الحر. ويؤكد ذلك أنه لم يشعر بالخجل والندم على ما فعله، بل بدا مباهيًا بجرمه مفاخرًا به.

عبد الرحيم وأمثاله هم نتاج لمعتقدات وهمية تلقوها من شخصيات دينية واجتماعية لها تأثير عليهم، قَوِيت تلك المعتقدات مع الزمن لتصبح حقائق مسلَّمًا بها لا تقبل جدالًا ولا نقاشًا، وهي التي تؤجِّج النزعة للضغينة والحقد والعداء؛ يستخدمون تلك المعتقدات سلاحَ حرب في معركتهم لفرض وجهة نظرهم المتطرفة والانتقام من المخالف والانفجار في وجه المجتمع  الذي يرفضونه ويحملونه سبب فشلهم واضطهادهم؛ هم يساقون إلى دوائر اللهب لإعدام كل مظاهر الحياة؛ لأنهم عجزوا عن استيعابها والتكيُّف معها وآثروا عليها العزلة والدمار والموت.

طباعة

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.