الأخذ على أيدي المتطرفين .. دواءٌ ناجِعٌ!!

  • | الإثنين, 1 أكتوبر, 2018
الأخذ على أيدي المتطرفين .. دواءٌ ناجِعٌ!!

     إن الإرهاب على مستوى العالمِ بأسْرِهِ يأخذ لونًا أيديولوجيًّا يُحاول من خِلالِه أن يصرفَ نظرَ الجميع إلى ارتباطِهِ جغرافيًّا وتاريخيًّا بالعالم الإسلامي، وهذا بلا شك أمر خاطئ، لأنَّ الإرهابَ ظاهرةٌ تفتك بالعالم قاطبة، ومفهومه بات مطّاطيًّا. والأسوأ من ذلك، نجدُ أنَّ العالمَ بأسره يواجه الإرهاب من خلال فرض التدابير الأمنية وحدها، وبذلك يقطع الظاهرة عن جذورها المعقدة، ويكأن الإرهابي أو المتطرف عضو فاسد في المجتمع، لا ينصلح أمره إلا بترًا، لذلك يلجأ العالمُ إلى القوة والتدابير الأمنية في مواجهةِ الإرهاب.

     ثمَّة علاقة بين التَّطَرُّفِ والإرهابِ، حيثُ إنَّ كُلَّ متطرفٍ هو مشروع إرهابي في انتظار الظروف الملائمة لتفعيله، وبذلك يتحول من التَّطَرُّفِ الناشئ عن تعصبٍ لفكرةٍ أو رأيٍّ أو دينٍ أو أيديولوجية، إلخ...، إلى الإرهابِ المسلح لينتقمَ من المجتمع. فالتَّطَرُّفُ على اختلافِ أنواعه لا يقبلُ الآخَرَ ويرفض التنوعَ ويسعى لفرضِ الرأي بالقوة والعنف خارج نطاق القانون والعقل.

     إنَّ المتطرفَ في الأصل هو متعصبٌ بسبب تضييق هوامش الحريات وانقطاع وسائل الحوار والتواصل والفهم الخاطئ للدين، أو من خلال التغطية الإعلامية للأحداث الإرهابية، الأمر الذي يدفعُ المتطرفَ إلى اعتزالِ المجتمع نفسيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا ليعيشَ في عالم يجمعه بشرذمةٍ من المتطرفين. فالتعصبُ هو أساسُ التَّطَرُّفِ والعنف والإرهاب، والإنسان المتعصب هو شخص غير طبيعي؛ لأن الطبيعة البشرية القويمة تخلو من التحيز أو التطرف؛ لذا يجب فحص الشخص الإرهابي أو المتطرف نفسيًّا للوقوف على نقاط ضعفه أو الظروف التي أودت به إلى الإنحراف عن المسار الطبيعي وجعلته متعصبًا، ثُمَّ متطرفًا ثُمَّ إرهابيًّا، والعمل على غرس ثقافة التفكير النقدي المبني على الموضوعية والأدلة والشواهد بداخله، وكذلك غرس ثقافة الحوار والتسامح والتعاون وقبول الآخر... وبالتالي ستتحول نقطة الضعف هذه إلى نقطة يُمكن استغلالها في رجوعه وأوْبَتِهِ إلى المسار الطبيعي.

     كما أنَّ نوعًا آخر من التعصب يُمكِنُ أن ينشأ من التغطية الإعلامية للأحداثِ الإرهابيةِ الخاصة بالجماعات الإرهابية كــــ"داعش" وغيرها، والتي قد تقود بعض المرضى النفسيين أو أصحاب الشخصيات الضعيفة الهشَّة إلى السلوك الإجرامي، وتلك الشخصيات لا يجب أبدًا الخلط بينها وبين الإرهابيين الفعليين، والذين تُحركهم في الأساس دوافع ذات صبغة سياسية، أو اجتماعية، أو ثقافية، أو دينية...إلخ.

     لقد شَهَدَت السنواتُ القليلة الماضية العديدَ من الحوادثِ الإرهابية غير المتوقعة باستخدام أدواتٍ بسيطة وغير تقليدية على غِرار الشاحنات والسكاكين، إلخ...، وقد قام بتنفيذ تلك الحوادث الإرهابية أفراد لا علاقة لهم بالحركات الإرهابية، ولكنهم يعانون من أزماتٍ ومشاكل عقلية وعدم اتزان نفسي، قد يصل في بعض أحيانه إلى أن يُشكّل خطورة على المحيطين به.

      فقد أثبتت دراسة صادرة عن إدارة الاستخبارات التابعة للأمن الداخلي الفرنسي (DGSI) أنّ 30% من المتهمين بالحوادث الإرهابية التي وقعت في فرنسا في الأعوام ما بين 2010 و2016 والبالغ عددهم 71 شخصًا، يعانون من خللٍ نفسي كبير. الأمر الذي يقره ويطلق عليه المحلل النفسي "مارك ساجمان"، العميل السابق بوكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) بباكستان، اسم عملية "التأثير بالتقليد" حيث أوضح لوكالة الأنباء الفرنسية قائلًا : "يتِمُّ الترويج الإعلامي للسلوكيات الإرهابية فيتساءل هؤلاء المختلون نفسيًّا مع أنفسهم عن مدى قدراتهم الشخصية على القيام بمثل هذه السلوكيات؟!"، فهم ليسوا بأيِّ حالٍ من الأحوال متطرفين، ولكن الإرهابيين يشكلون بالنسبة لهم أبطال الصفحات الأولى ونجوم الشباك في الفضاء الإعلامي الحديث، الأمر الذي يجعلهم شغوفين لتقليد ما أقدم عليه هؤلاء.

     ويستطرد قائلًا : "أستذكر الآن قصة هذا الياباني الذي كان قاب قوسين أو أدنى من الإقدام على الانتحار عام 2005، إلى أن قرأ بالجرائد عن هجمات "لندن" والتي أسفرت عن مصرع 52 شخصًا، فقرر وقتها محاولة تصنيعه لسترة ناسفة يستخدمها في تفجير نفسه داخل مترو الأنفاق، وكانت هذه هي الطريقة التي اختارها للانتحار والتخلص من حياته، إلا أنّ سترته لم تعمل، وما كان من الشرطة إلا أن ألقت القبض عليه، وسألته حينها عن أسباب إقدامه على تلك الفعلة؟ وكان الجواب هو : لقد قرأت ذلك في الجرائد".

     وبعد مطالعة مسيرات المئات من عناصر "تنظيم القاعدة"، انتهى "مارك ساجمان" إلى القول بأنَّ : "العينة التي قمت ببحثها أظهرت أنَّ هؤلاء يتمتعون بصحةٍ عقليةٍ تفوق الإنسان الطبيعي، إلا أنَّ الناسَ الذين يقدمون على القيام بهجمات إرهابية فقط للتقليد ليست لديهم أيّة مشاكل سياسية ولكن بهم اختلالات عقلية متنوعة، فلا بد من الانتباه حيال تلك القضية؛ حيث إنه في حالة عدم التفريق بين هؤلاء والإرهابيين الحقيقيين فقد حكمنا على أنفسنا بعدم الفهم المطلق لتلك الظاهرة".

     كما أجابت مذكرةٌ صادرة عن "وحدة مكافحة الإرهاب" - والتي تمكنت "وكالة الأنباء الفرنسية" من الاطلاع عليها - على أحد التساؤلات شديدة الأهمية وهو : هل الإرهابيون مختلون عقليًّا؟!

     فيقول خبراء "وحدة مكافحة الإرهاب" : "إنَّ القضية لا تُعنى فقط بتعريف الحالة النفسية للإرهابي ومن ثمّ تشخيصها، وهو الأمر الذي يصعب تنفيذه، ولكن ما يمكننا قوله: إنَّ المتطرف دائمًا ما يُمارس نشاطه ووجوده من خلال بعض المؤثرات التي دومًا ما تجد لها صدى لدى فئة الشباب الذين عادةً ما يوجد لديهم هواجس للانتحار، وذلك على غِرار طلاب المدارس الإعدادية الأمريكية الذين يطلقون النار على زملائهم، ومن ثمّ ينتحرون بُعيد ارتكابهم للجريمة".

     وتخلُص المذكرة إلى النتيجة التالية : حيثُ إنَّ الجريمة السياسية الدينية لا يرتكبها فقط المختلون عقليًّا، فالبعد النفسي موجود عند الإقدام على ارتكاب حادثٍ إرهابي، كما هو موجود عند ارتكاب أيّة جريمة أو مخالفة قانونية عادية، فالوضع النفسي يكاد يكون واحدًا في الحالتين.

     ولا يزال العديد من قضايا القتل الإرهابية يتَّسِمُ بالغموض، وذلك على الرغم من إعلان الجماعات الإرهابية الجهادية مسئوليتها عنها. فعلى الرغم من مرور ما يقارب العام على مذبحة "لاس فيجاس" والتي راح ضحيتها 58 شخصًا قتلهم الجاني من شرفة غرفته بالفندق، إلا أنه لا توجد إلى الآن أيّة مؤشرات تساعد على فهم الدوافع التي جعلت الجاني يقدم على مثل ذلك الفعل الإجرامي والمدعو "ستيفين كريج بادوك"، ذلك المتقاعد الذي لا يتمتع بسيرة ذاتية إجرامية.

     ويقول مدير الدراسات بمدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية (EHESS) "فرهد خسروفاخار" لوكالة الأنباء الفرنسية : "لقد أكَّدتُ مرارًا وتكرارًا أنّ مذبحة "نيس" والتي راح ضحيتها 86 شخصًا في يوليو عام 2016 على يد تونسي يبلغ من العمر 31 عامًا، لم تكن ذات صلة بالأيديولوجية المتطرفة، فقد أوضحت من قبل أنَّ مرتكب الحادث كان يُعاني من خللٍ عقلي كبير، إلا أنَّ أحدًا لم يُلقِ بالًا لما أقول. فإنني أشعر أنه وفي بعض الأحيان تصاب المجتمعات بالعمى، ما يجعلها تنخرط في اللعبة التي تفرضها "داعش"، وهي اللعبة التي يلعبها العالم أجمع وبمنتهى الإخلاص".

     ومما لا شك فيه أنَّ الحوادث الإرهابية التي ضربت العديد من دول العالم شكّلت مادة إعلامية دسمة لوسائل الإعلام، والتي تسارعت في نقل تلك الحوادث بُغيةَ تحذير الشباب من السقوط في هاوية الإرهاب، وجعلت منها مادة إخبارية ومواضيع لتقاريرها المرئية والمسموعة، مما جعل للإعلام دورًا مُهِمًّا في تشكيل الرأي العام حول ظاهرة الإرهاب لدى المتلقي، فالمتلقي يتخذ موقفًا وسلوكًا من المادة الإعلامية المقدَمة له ويعمل بعد ذلك على نشر هذا الرأي متشبثًا به ومدافعًا عنه.

     ولكن ربما تمثل التغطية الإعلامية للأحداث الإرهابية سلاحًا ذا حدين، أخطر ما فيه استغلال الجماعات المتطرفة للمنصات الإعلامية في نشر أيديولوجيتها وأفكارها المسمومة والمغلوطة على مسمع ومرأى المتلقي، ما يُكسبها تعاطف المتلقي وتأييده والذي قد يتطرّف وينهج نهج تلك الجماعات المتطرفة لزعزعة استقرار المجتمع المحيط به.

      لذا يجب على وسائل الإعلام أخذ الحيطة والحذر في تعاطيها مع هذا الملف الشائك والعمل على توعية الرأي العام، لا سيما الشباب، من مخاطر الإرهاب والوقوع في براثن التطرف. وتعمل على دفعهم نحو تبني سلوكيات إيجابية تغذي وتدعم التفكير النقدي، ونشر ثقافة  التسامح والوسطية والاعتدال وقبول الآخر. وبمفهومٍ آخر، فإنَّ الأخذ على يَدِ المتطرفين لا يقتصر فقط على المسئولين، بل إن الدورَ الإعلامي لهو من الأهميةِ بمكان في هذا الصدد؛ لأنه وسيلة فاعلة في توضيح الأمور لدى المتطرفين حتى يتقبلوا المراجعة الفكرية. أي إنَّ كافة القوى عليها أن تتضافر حتى تستأصلَ شأفة الإرهاب والتطرف.

وحدة رصد اللغة الفرنسية

طباعة

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.