حتى لا يستقطبوهم (3) ... دور علماء الدين في مكافحة الفكر المتطرف

  • | السبت, 2 فبراير, 2019
حتى لا يستقطبوهم (3) ... دور علماء الدين في مكافحة الفكر المتطرف

     ذكرنا في المقال الثاني من هذه السلسلة أن مكافحة الفكر المتطرف تُمَثِّل إشكاليّةً مُعَقَّدَةً، تَتَداخل فيها عِدّةُ أبعادٍ، وليست قاصرة على المعالجة العسكرية فقط؛ لأن التنظيمات المتطرفة تلعبُ على الشباب، وتخدعُ عقولهم قبل قلوبهم، مدعيين كذبًا وزورًا أن ما يرتكبونه من خيانات في حق ديننا الإسلامي الحنيف هو من تعاليم هذا الدين ومبادئه، ومن ثم أصبح من الضروري أن تلعب الثقافة والإبداع والفَنّ الهادف وعلماء الدين وعلماء النفسِ والرياضيون وجميع فئات المجتمع أدْوارهم المُهِمّة في هذه القضية.
ولقد تحدثنا في المقالين السابقين من هذه السلسلة عن دور المدرسة والمؤسسة التعليمية والفن الهادف في مكافحة الفكر المتطرف، واليوم نتحدث عن فئةٍ ثالثة من أهم فئات المجتمع، ولها الدور الأهم والأبرز في توعيته، ويُعوّل عليها كثيرًا في قضية مكافحة التطرف الديني، هذه الفئة هي "علماء الدين".
ويختلف دور علماء الدين عن دور جميع عناصر المجتمع الأخرى من عدة أوجه أهمها: أن دور الفئات الأخرى يُعتبر دورًا وقائيًّا يتعامل مع الشباب قبل أن يقعوا فريسة للتنظيمات المتطرفة، فيغرسون في نفوسهم حب الوطن، وتقبل الآخر، وإعلاء قيمة الحوار والاختلاف مع الغير في إطارٍ من التفاهم والتسامح، وغيرها من القيم الدينية والإنسانية التي تقيهم مستقبلًا شرَّ الجماعاتِ المتطرفة وخطر استقطابها وتحريضها، أما علماء الدين فإضافة إلى دورهم الوقائي لهم دور علاجي مهم؛ إذ إنهم هم القادرون على قراءة تراثنا الديني في سياقه الكلي الشامل، وليس باستقطاع جزءٍ منه وإخراجه من سياقه كما يفعل المتطرفون في تسويغ جرائمهم، أو خداع الشباب من أجل استقطابهم، كذلك علماء الدين هم القادرون على تفنيد شُبه الجماعات المتطرفة، وإظهار خطأ استدلالاتها من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ولذلك كان دورهم التوعوي مهم للغاية.
الاختلاف الثاني بين دور رجل الدين وغيره من العناصر الفعالة في المجتمع في مجال مكافحة الفكر المتطرف هو أن القاعدة الجماهيرية المستهدفة لرجل الدين أكثر وأوسع من القاعدة الجماهيرية لغيره، فالرياضي قاعدته الجماهيرية قاصرة على متابعيه من محبي الرياضة، ويستطيع أن يغرس في محبيه ومتابعيه العديدَ من القيم من خلال أخلاقه في الملعب أو صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو غير مسئول عن أي فئةٍ مجتمعية لا تتابع الرياضة ولا تمارسها، والمدرسُ في مدرسته قاعدته الجماهيرية قاصرة على طلابه وتلاميذه، يستطيع أن يغرس في نفوسهم الفكر المعتدل، ويربيهم على التسامح وتقبل الآخر، سواء في المدرسة أو من خلال بعض الأنشطة الطلابية مثل: الرحلات ومجلات الحائط وغيرها. الأمر ذاته مع الفنان؛ حيث تقتصر قاعدته الجماهيرية على متابعيه، ويستطيع أن يرسل إليهم من خلال أعماله الفنية أو ظهوره الإعلامي العديدَ من الرسائل التي يُغذي من خلالها القيم الأخلاقية المفيدة لهم ولمجتمعهم.
أما رجل الدين فقاعدته الجماهيرية تشمل جميع فئات المجتمع ولا تقتصر فقط على رواد المساجد، بل يجب أن تصل دعوته إلى الجميع خصوصًا في مجتمعٍ متدين بطبعه كمجتمعنا المصري، ومن ثم كان نجاح رجل الدين في القيام بدوره ليس مُنصبًّا عليه وحده، بل يجب على مؤسسات المجتمع مساعدته لأداء رسالته، عن طريق خلق منابر دعوية يستطيعُ من خلالها إيصال رسالته إلى فئات المجتمع المختلفة. فيمكن للقنوات التلفزيونية استضافة رجال الدين الثقات في برامجها المختلفة للحديث عن مكافحة الفكر المتطرف ونشر الفكر المعتدل، كذلك يمكن للمدارس الاستعانة برجال الدين لتأصيل القيم الإنسانية لدى الأطفال، أيضًا مراكز الشباب وقصور الثقافة ومعسكرات الكشافة وغيرها من التجمعات الشبابية يمكن لها استضافة رجال الدين للقاء الشباب والحديث معهم، وبيان القضايا والشبهات التي يستغلها المتطرفون في نشر فيروس التطرف في شرايين مجتمعاتنا الإسلامية. كما يمكن استغلال رجال الدين أيضًا للمشاركة مع علماء النفس وخبراء التربية والتعليم في وضع مناهج تربوية ومدرسية للأطفال، تأصل للقيم الأخلاقية والدينية التي تعلو بقيمة الإنسان، وتُحرّم تخويفه وإرهابه.
وقد يظنُ بعضُ الناس أن التطرف الديني وخطر الاستقطاب قاصرٌ على الشباب المتدين فقط، لكن هذا التصور قد ثبت مؤخرًا خطأه؛ حيث أثبت الواقعُ أن تنظيم داعش الإرهابي في بعض البلاد كان يستقطبُ الشبابَ من على المقاهي، وقام بخداع العديد من الشباب غير المتدين، وجعلهم يتركون بلادهم ويذهبون للانضمام إليه والقتال في صفوفه، كذلك أثبتت شهادات بعض العائدين من داعش والمقبوض عليهم بعد سقوط التنظيم في أماكن تمركزه الرئيسية - أن من أهم ملامح الشخصية المتطرفة هي حداثة العهد بالتدين، وسطحية المعرفة بل وانعدامها بالعلوم الدينية؛ حيث فتح تنظيم داعش الإرهابي البابَ على مصراعيه أمام من يريد الانضمامَ إلى صفوفه، حتى وإن كان لم يدخل المسجدَ قط، ولم يصلِّ ركعة واحدة في حياته، بل وفتح بابَه أمام من له سوابق إجرامية كتجارة المخدرات أو شرب المسكرات، المهم عند التنظيم أن يبايع من يريدُ الانضمامَ إليه الخليفةَ المزعوم "أبو بكر البغدادي"، حتى وإن لم يذهب إلى أماكن التمركز، ليس هذا فحسب بل قامت قيادة التنظيم العليا بمخاطبة واستغلال هؤلاء الذين انخدعوا بدعاية التنظيم الضالة والمضللة في القيام بعمليات إرهابية نوعية في بلادهم، كحوادث الطعن والدهس، وغيرها من العمليات التي تنفذها الذئاب المنفردة، ومن ثم شاهدنا على مدار الأعوام الماضية حوادث إرهابية أعلن داعش مسئوليته عن تنفيذها، على الرغم من عدم انتماء الجاني تنظيميًّا إليه، بل إن كل ما يربطه بالتنظيم اعترافه على صفحته الخاصة بمبايعته للبغدادي، أو الاتصال برقم الطوارئ وتبليغه أنه عنصر من عناصر داعش، وسيقوم بتفجير نفسه.  
ومن ثم نستطيع القول إن الثقافة الدينية والوعي الديني من أهم وسائل حماية الشباب من الوقوع في براثن الجماعات المتطرفة، واعتناق الفكر الظلامي الهدام؛ لذلك يجب على جميع رجال الدين في وقتنا الحالي أن يرفعوا حالة طوارئ فكرية، مركزها وهدفها الرئيسي محاربة الفكر المتطرف ونشر الفكر المعتدل، والتأصيل الديني للعديد من القيم على رأسها المواطنة والأخوة الوطنية، وما تفرضه هذه الأخوة من ترابط بين المواطنين على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وديانتهم، وما تفرضه بينهم من معاملات وتكافل اجتماعي. كذلك يجب على علماء الدين أن يوضحوا للناس أن قيم الإسلام قيمٌ فطرية، تتوافق وفطرة الناس جميعًا، بمعنى أنها تتعدى حدود المحلية إلى العالمية؛ لأن الخطاب القرآني نزل ليحمل القيم لكل الناس، أيًّا كان موطنهم. كما يجب على علماء الدين أن يُعرّفوا الناس بأهمية الإنسان ذاته، وقيمته المهمة في القرآن الكريم، وكيف أن الله كرمه وفضله على سائر خلقه، وجعله خليفته في الأرض، وكلَّفه بإعمارها، وأنعم عليه بالنعم الكثيرة التي يصعب عدها، وخلقه على الفطرة السليمة التي جعلته قادرًا على التمييز بين الحق والباطل، والصحيح والخبيث، وهذه كلها أمور عظيمة، ومسؤولية كبيرة تجعل من الواجب على الإنسان أن يُسخرَ قوته وحواسه وقلبه ومشاعره وسره وعلانيته؛ للقيام بتنفيذ المهمة التي كلَّفه الله بها وهي إعمار الأرض وبنائها، وليس تخريبها وإفسادها.
كما يجب على علماء الدين أن يستغلوا التطور التكنولوجي ووسائل الاتصالات الحديثة التي جعلت من العالم الكبير قرية صغيرة، وينتشروا في الفضاء الإلكتروني، وألا يتركوه أرضًا ممهدة لداعش وأخواتها، بل يجب مزاحمتهم في هذا الفضاء، ونشر قيم الإسلام السمحة، وتفنيد شبه المتطرفين التي أضرت بالإسلام ورسمت له صورة ذهنية سلبية بعيدة كل البعد عن جوهر الإسلام وروحه. كما يجب على علماء الدين الاهتمام بتوضيح المعاني الصحيحة والحقيقية لبعض المصطلحات التي يفسرها المتطرفون وفقًا لمفاهيمهم المغلوطة مثل "الجهاد، والخلافة، والحاكمية"
كما ينبغي أيضًا أن يوجد تنسيقٌ كاملٌ بين رجال الدين ومؤسسة الإعلام ومؤسسة التربية والتعليم، وأن يتم من خلال هذا التنسيق القيام بأعمال فنية هادفة تغرس التسامح والتعايش وغيرها من القيم الدينية والأخلاقية في نفوس الأطفال، خصوصًا في مرحلة ما قبل المدرسة عن طريق أفلام الكارتون وغيرها من الفنون التي يحبها الأطفال، ولقد رأينا في دراسة المرصد الأخيرة عن الأطفال كيف كان تنظيم داعش الإرهابي يغرس سمومه وفكره المتطرف في الأطفال أو ما يُطلق عليهم أشبال الخلافة؛ وذلك إيمانًا من هذا التنظيم الإرهابي أن أية فكرة يُكتب لها الخلود إذا توارثتها الأجيالُ جيلًا بعد جيل، فإذا كان هذا التنظيم وهو على الباطل يبذلُ قصارى جهده لتخليد فكره، فما بالنا بالمجهود الذي يجب أن يبذله علماء الدين المعتدلون وهم على حق.  
خلاصة القول: إن دور علماء الدين في مكافحة التطرف دور مهم ومحوري، ومرتبط بواجبات يجب على رجال الدين القيام بها، وواجبات أخرى يجب على باقي فئات المجتمع مشاركة رجال الدين من أجل القيام بها، الأمر الذي يؤكد رؤيتنا من أن قضية التطرف لها العديد من الأبعاد  تتطلب المواجهة والمعالجة من جميع فئات المجتمع.      

وحدة رصد اللغة التركية

 

طباعة

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.