داعش والمعايير المزدوجة

  • | الثلاثاء, 5 فبراير, 2019
داعش والمعايير المزدوجة

لا يمكن المرور على الدمار والخراب الذي خلفه تنظيم داعش الإرهابي وراءه دون التدقيق فيه، وإطالة النظر به، والاعتراف بأن هذا التنظيم الوحشي، الذي فاقت وحشيته كل وصف، قد نجح -للأسف الشديد- في تحقيق الكثير من مخططاته الشيطانية التي وضعها مسبقًا، هو ومن يدعمه ويموله. لقد نجح "تتار العصر الحديث"، في تمزيق دول بعينها، وتفكيك نسيجها الاجتماعي، وقتل وتشريد عشرات الآلاف من أبنائها خلال "بضع سنوات" هي عمر داعش الحقيقي، وبالتالي نجح هؤلاء في تنفيذ جزء كبير من أجندتهم التخريبية؛ معتمدين على بعض الآليات، ومستغلين للكثير من المعطيات التي توفرت لهم، أو تلك التي نجحوا في توفيرها لأنفسهم. ومن ضمن الآليات التي اعتمدها هذا التنظيم، وسلّط المرصد بوحداته المختلفة الضوء عليها في عدد من تقاريره السابقة: استغلاله للتكنولوجيا الحديثة بكل أنواعها في الوصول لأكبر شريحة من الشباب على مستوى العالم، هذا بالإضافة لعدد من الآليات الأخرى، أبرزها:

  • الازدواجية

بالنظر إلى الدول التي نجحت داعش في تمزيقها أو حتى في إثارة الفتن والاضطرابات بها، وضرب استقرارها، نجد أن غالبيتها العظمى من الدول النفطية التي تحوي أرضها العديد من الكنوز الطبيعية، وهو في حذ ذاته قد يكون دليل دامغ على أن هذا التنظيم لم يختر تلك الدول اعتباطًا، أو أنها كانت محض صدفة بالنسبة له، بل هي موضوعة في مخططته من أجل السيطرة على كنوزها تلك، ليضمن لنفسه مصدرًا لتمويل وحشيته وإرهابه. هذا فضلاً عن أنها دول ذات تاريخ وحضارة كبيرة، وبالتالي سيوفر لنفسه مصدر آخر للتمويل، وهو "بيع الآثار" والتكسب من ورائها.

حسب ما ورد في بعض التقارير، منها: تقرير "Global Terrorism Index 2016"، فإن التنظيم قد حقق عائدات مالية تقدر بــ 500 مليون دولار أمريكي، خلال عام 2015، من وراء تهريبه للنفط المتواجد في المناطق التي كان يسيطر عليها في منطقة الشرق الأوسط، كما حقق أرباح مالية وصلت لـ100 مليون دولار من وراء بيع القطع الأثرية المختلفة.

 

 

Image

مصادر التمويل الأساسية  لتنظيم داعش أدرت عليه ما يقرب من 2 مليار دولار أمريكيًا خلال عام 2015، نصفها من النفط، و10% منها من تهريب والتجارة بالآثار.  

إن تنظيم داعش ذو الفكر "الراديكالي"، الذي لا يؤمن بالحضارة الإنسانية، ويعتبر آثارها ـــــ التي تعد صورة من صور تلك الحضارة ــــــ أصنامًا يجب هدمها، لا يجد ضررًا في المتاجرة بها أو التكسب من ورائها.

هذا التحريم الذي فرضه التنظيم على تلك الآثار، وهدمه لبعضها، كما فعل في مدينة "تدمر"، الأثرية السورية، حيث قام بهدم وتدمير المذبح الأثري لمعبد "بل" والذي يعود تاريخه إلى الألف عام، وتدميره لثلاثة أبراج تابعة لمقابر أثرية مصنفة من قبل اليونيسكو ضمن مواقع التراث العالمي، وتدميره للأثار التاريخية في مدينة "نمرود العراقية"، وكذلك هدمه لمدينة "الحضر" الأثرية، والواقعة جنوب مدينة "الموصل"، والتي يعود تاريخها إلى القرن الثاني قبل الميلاد، بـ"الجرافات"، بل والتكفير الذي مارسه ضد كل من يؤمن بأنها صورة من صور التراث الإنساني التي لا حرمة فيها ولا جرم، يؤكد مدى الازدواجية التي يعاني منها .. أصنام لكن لا مانع من الاستفادة منها، خاصة وأن الاستفادة هنا استفادة "مزدوجة"، فهي على جانب ستكون مصدرًا للدخل الغزير الذي سيفيض بالأموال على التنظيم، وفي نفس الوقت سيتم إخراج تلك الآثار من بلادها الأصلية كجزء من مخطط تجريف بلاد الشرق الأوسط من حضارتها وتاريخها وتراثها الإنساني، "الشاهد" على عظمتها في الأزمنة السابقة.

يكرر داعش تلك الازدواجية مع المرأة ونظرته لها، فبعد أن كانت وظيفتها في الحياة مقتصرة على الزواج من مقاتليه؛ لإنجاب "أشبال الخلافة"، وبعد أن كان محرّمًا عليها الخروج من المنزل إلا للضرورة، أصبحت المرأة بالنسبة لداعش أحد أهم أدوات القتال التي يستخدمها لقهر مخالفيه والتنكيل بهم، وأصبحت تسند لها المهمات الانتحارية خاصة في الفترة التي بدأ نجم التنظيم فيها بالأفول. ولعل سيدة بغداد التي فجرت نفسها في جمع للشرطة العراقية وهي تحمل رضيعها خير مثال على هذه الازدواجية. ليس هذا فحسب، بل أصبحت وسيلة لجذب المزيد من الأتباع إلى صفوف التنظيم من الجنسين على السواء.

 

Image

انتحارية الموصل قبل تفجير نفسها حاملة رضيعها

كانت المرأة لدى داعش "عورة"، دورها لا يتعدى خدمة جنود الخلافة وإنجاب أشباله، رغم ذلك لا مانع من خروجها في مهمات انتحارية وغيرها من المهمات، فمن وجهة نظره (الغاية هنا تبرر الوسيلة)، خاصة لو كانت مصدر ثقة لدى الآخرين، كما أن ملابسها الفضفاضة ستسمح لها بحمل وتهريب السلاح .. لا مانع من المجازفة بها طالما أن ذلك يُخَّدِم على أجندة التنظيم.

  • مواكبة الواقع

       لا يمكن إنكار أن هذا التنظيم يملك ذكاءًا حادًا مكّنه من التسلل إلى جسد الدول الإسلامية، والانتشار في عقول بعض من أبنائها. وعندما نقول ذلك فهذا لا يعني مدحه أو الانبهار به، ولكن يعني تسليط الضوء على المنهج الذي يعتمده التنظيم، والمبني على رصد الواقع، وتطوير الذات؛ لمواكبة هذا الواقع، وكيفية استفادته مما يقوله مخالفيه في حقه، لتطوير نفسه؛ حتى يتمكن من استقطاب المزيد، أو حتى إقناعهم أنه على حق، وغيره على باطل. ولعل أبرز مثال على هذه الاستراتيجية استخدامه لكلمة "القتال" بدلاً من "الجهاد" في عدد من إصداراته الأخيرة.

لقد أثارت كلمة "جهاد" التي ذكرها داعش في مقالاته وفيديوهاته حالة كبيرة من اللغط في الشرق والغرب، دعت الكثير من علماء الأمة الإسلامية إلى توضيح الفارق بين معنى الجهاد الحقيقي والذي يعبر عنه بكلمة "قتال"، أي: قتال الأعداء لصد هجومهم والذي يستدعي وجود فريقين يقاتل كل منهما الآخر، وبين كلمة "قتل"، والتي تعني مبادرة الآخر بالسلاح وقتله دون وجه حق ـــــــ وهو ما تمارسه داعش ـــــــ .

لقد أدرك التنظيم أنه تورط بسبب استخدامه المستمر لكلمة "جهاد"، وما صاحب هذا الاستخدام من توضيحات ــــــ من قبل علماء الأمة ــــــ لمعناه الحقيقي؛ بهدف صدّ ووقف الاستقطاب الداعشي، وما نتج عنه من بدء البعض إعادة التفكير فيما تقترفه أيدي هذا التنظيم الإرهابي، والربط بينه وبين المعنى الحقيقي للجهاد، ألا وهو "القتال" .. أدرك داعش أن استخدامه لكلمة "جهاد" في الفترة الأخيرة قد يجعله يخسر الكثير من مكاسبه، وبالتالي كان عليه تغيير جلده، والبدء في استخدام "قتال" في بعض إصداراته؛ ليؤكد لمن يتعاطف معه أنه على حق، وأنه يسير على الدرب الإسلامي الصحيح، فهو يقاتل "أعداء الله"!

  • تحديد الهدف والسعي لتحقيقه

لعل أبرز ما ساعد هذا التنظيم على الانتشار في صفوف الشباب على وجه التحديد، هو تحديده لهدفه الذي يصبوا إليه، وعمله الدائم بكل الوسائل الممكنة على تحقيقه مهما كانت النتيجة. فلكي ينتشر عليه أن يكتشف ضعف الطرف الآخر، ثم دراسة هذا الضعف، ومن ثمّ البحث عن الوسيلة التي ستمكّنه من استغلال هذا الضعف لصالحه. وخير مثال على ذلك تحديد داعش للفئة التي يرغب في استقطابها وهي "الشباب"، ثم إدراكه للضعف الديني المصاب به شريحة كبيرة منهم، ثم اقتطاعه للنصوص وإخراجها عن سياقها، وإمدادهم بها عن طريق خطاب إعلامي مبهر، يلعب على وتر العاطفة الدينية لهذا الشاب.

إن داعش مثلها مثل الحرباء والأفعى، فالأولى تغير لونها، والثانية تغيير جلدها من وقت لآخر؛ للاستمرارية والعيش بالطريقة التي تكفل لهما الحياة الآمنة. وما يملكه من "الذكاء" لابد أن يكون محل دراسة من المتخصصين ومن غيرهم، خاصة وأن داعش ما هو إلا "فكرة"، والفكرة في حد ذاتها لا تموت، ولكن يمكن مواجهتها واقتلاعها من جذورها إذا استخدمنا ذكاء مقابلا ومضادًّا لها .. ذكاء قائم على تحليل الخصم، والاستفادة ليس فقط من أخطائه، بل من إستراتيجياته وآلياته التي يتبعها.

وحدة رصد اللغة الأردية

طباعة

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.