تَحَوُّلٌ في السياسة الفرنسية تُجاهَ "مقاتليها الدواعش" بــ"سوريا"

  • | السبت, 9 فبراير, 2019
تَحَوُّلٌ في السياسة الفرنسية تُجاهَ  "مقاتليها الدواعش"  بــ"سوريا"

     في تصريح تفاجأ به الجميع، أعلن الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، أنه يعتزم سحب القوات الأمريكية المنتشرة في شمال "سوريا"، والتي أُوكلتْ إليها محاربة تنظيم "داعش"، وتدريب القوات المحلية للتصدي له، ولكن السؤال الذي بات يفرض نفسه بقوة على كافّة الساحات العالمية عَقِبَ هذا الإعلان: هل تمّ بالفعل دحر تنظيم داعش في سوريا؟ أجاب رئيس المخابرات الأمريكية، "دان كوتس": "أنّ تنظيم داعش الذي يعتقد "دونالد ترامب" إلى حَدٍّ كبير أنه هُزم، لا يزال لديه "الآلاف" من المقاتلين في "العراق وسوريا"، وأنّ هذا التنظيم لا يزال يضم ثمانيَ ولايات تابعة له، وعشرات المواقع الإلكترونية، وآلافًا من المُناصِرين في جميع أنحاء العالم، على الرغم من الخسارة الكبيرة من حيثُ القادةُ والأراضي التي يُسيطر عليها".
وكان لهذا القرار تأثيرٌ على الدول الأوروبية، لا سيّما "فرنسا"، حيث عَدَلتْ عن سياستها الرافضة تمامًا لعودة مقاتلي "داعش" من الفرنسيين البالغين، سواء من الرجال أو النساء، إلى أراضيها، بحُجّة أنّ هؤلاء الذين قاتلوا في صفوف التنظيم أو الذين يوجدون حاليًّا في مناطق النزاع لم يذهبوا هناك عبثًا، ولم يكونوا هناك في نُزهةٍ أو سياحة، فهم يعلمون جَيّدًا السبب الذي من أجله شَدّوا رِحالهم إلى هناك، وهو القتال في صفوف هذا التنظيم، فقد واجهوا "فرنسا" بالسلاح وقاتلوها؛ لذا كانت قضية "إعادة المقاتلين الفرنسيين في صفوف داعش وأسرهم"، والمُحتجَزين لدى القوات الكردية في "سوريا"، وما تُمَثِّله من تَحَدٍّ خطير على المستوى الأمني الداخلي الفرنسي، تؤرّق الساسةَ الفرنسيين منذ أمدٍ بعيد.
ولفترةٍ طويلة لم يكن مصير هؤلاء السجناء الفرنسيين المحتجزين في "سوريا" من أولويات "باريس"، وكان عمل أجهزة الاستخبارات الفرنسية والقوات الخاصّة الفرنسية المنتشرة في المنطقة السورية – العراقية، يتركّز حول رصد المقاتلين الفرنسيين الذين لا يزالون نَشِطين؛ لتَجَنُّب مخاطر فرارهم مع فقدان تنظيم داعش معاقله الرئيسة هناك، ومنع عودتهم سرًّا إلى "فرنسا"، لكن أصبح الخطر الذي يُشَكِّله العائدون من "داعش" على الأمن الداخلي الفرنسي؛ بسبب عدم استقرار الوضع السياسي في "سوريا والعراق"، واحتماليّة فِرار هؤلاء السجناء الفرنسيين الذين يُمَثِّلونَ خطورةً من تلك السجون، بالغَ الخطورةِ، وأمرًا بات على الحكومة الفرنسية إلزاميّةُ التصدي له، لا سيّما بعد أن عاد تنظيم "داعش" إلى إستراتيجية التمرد.
 جديرٌ بالذِّكْرِ؛ أنه في عام 2012، أطلق تنظيم "داعش" حملة "كسر الجدران"، والتي أدَّت إلى شَنِّ عِدّة هجماتٍ على العديد من السجون في البلاد، لا سيّما سجن "أبو غريب"، الذي فَرَّ منه أكثرُ من 500 متطرفٍ، بما في ذلك العديد من الكوادر المستقبلية لتنظيم "داعش".
لذا كان لزامًا على الحكومة الفرنسية أن تُعَدِّلَ من سياستها تُجاهَ "مقاتليها الدواعش"، وربطت هذا التعديل بقرار الولايات المتحدة بالانسحاب من "سوريا"، وأثار هذا التعديل حفيظة الطبقة السياسية الفرنسية، وصولًا لحَدّ الانتقاد من قِبَلِ اليمين المتطرف؛ بحُجّة أنّ "هؤلاء متطرفون، ولذلك يجب ألّا يُعتبروا فرنسيين بعد الآنَ"، ولكن الحكومة الفرنسية برَّرت موقفها الجديد بـ "تَجَنُّب فرار" هؤلاء الإرهابيين من المعتقلات الكردية، ودخولهم الأراضي الفرنسية سرًّا؛ ما يُهَدِّد الأمنَ العامّ الفرنسي.
ومن جانبها، برَّرت وزيرة العدل الفرنسية، السيدة/ "نيكول بيلوبات"، على شبكة "آر تي إل" الفرنسية، موقف الحكومة الفرنسية الجديد تُجاهَ "مقاتليها الدواعش" المحتجزين لدى الأكراد في "سوريا"، قائلةً: "إذا كان على القوات الكردية ضرورة إطلاق سراح الفرنسيين المحتجزين لديهم (...) فمن مصلحتنا جميعًا أن نضمن إعادتهم إلى فرنسا بدلًا من تركهم أحرارًا دون معرفة أماكن فرارهم"، مؤكدًة على أن البالغين الذين سيعودون إلى "فرنسا" سيُعتقلون فَورَ وصولهم، وأن معظم الفرنسيين المُحتجَزين لدى الأكراد في "سوريا" من الأطفال القُصَّر (75 % من الأطفال دون السابعة)، ولم تؤكّد العدد الإجماليّ للفرنسيين المعنيين بالعودة في هذه المرحلة.
ومن هنا أعلنت الحكومة الفرنسية استعدادها خلال الأسابيع المقبلة، لإعادة نحو 130 مقاتلًا فرنسيًّا من الرجال والنساء في صفوف الجماعات المتطرفة في "سوريا"، والمحتجزين من قِبَلِ السلطات الكردستانية السورية، والتي تخشى من هروبهم من المعتقلات الكردية؛ نتيجةَ إعلانِ أمريكا عزمَها سَحْبَ قوّاتها من "سوريا".
ويُعتقد أنّ أجهزة الاستخبارات الفرنسية ومكافحة الإرهاب ترصد هؤلاء العناصر الذين غادروا "فرنسا" إلى "سوريا" للقتال في صفوف الجماعات المتطرفة قبل عِدّة سنوات، فنحو (1700) مواطنٍ فرنسيٍّ تَوَجّهوا إلى "العراق وسوريا" للقتال مع التنظيم بين عامَي 2014 و2018، بحسب إحصاءات الحكومة الفرنسية، كما تتحدّث بعض الأرقام عن مقتل نحو (300) فردٍ من هؤلاء، وفرار البعض منهم إلى مَعاقِلَ أخرى للتنظيم، وفي سبتمبر 2018، عاد نحو (260) منهم إلى بلادهم طَوعًا، وجَرَتْ محاكمةُ نحو (200) شخصٍ، بحسب وزارة العدل، والبعض منهم معروف بالاسم الحقيقي أو الحَرَكيّ، والبعض الآخَر معروفٌ هُوِيَّتُه الحقيقية، كما توجد أشرطةٌ مُصَوَّرة وتسجيلاتٌ صَوتيّة تُظهِر ارتكابَ بعضِهم العديدَ من الانتهاكات والجرائم، التي يُعاقِب عليها القانونُ الفرنسي.
وأكَّدت الحكومة الفرنسية أنها ستفحص كلَّ حالةٍ على حِدَة، والحكم عليها لدى وصولها إلى "فرنسا"؛ حيث إنّ بعضهم صدر بالفعل ضده مذّكرة توقيف دولية، بموجَب المحاكم وأجهزة مكافحة الإرهاب، فهؤلاء ستتمّ إحالتهم مباشرةً إلى القاضي للنطق بالحكم عليهم، وهناك آخرون لم يصدر بحقهم أحكام أو مذكراتٌ تَوقيفيّة، فهؤلاء سيتمّ تَوجيه أصابع الاتهام إليهم، واحتجازهم للتحقيق معهم وتحويلهم إلى القضاء.
وتأكيدًا على ذلك؛ ذَكَرَ وزير الداخلية الفرنسية، "كريستوف كاستنير"، على قناة "BFMTV" الفرنسية؛ أن هؤلاء الأشخاص "سيتمّ احتجازهم" فَورَ وصولهم إلى فرنسا، كما أكَّد "ألكسندر جونزاليه"، الصحفي في دائرة الشرطة – القضائية، على قناة "BFMTV" الفرنسية، أنّ "هؤلاء الأشخاص سيتمّ احتجازُهم فَورَ وصولهم إلى فرنسا، وسيتمّ التحقيق معهم مِن قِبَلِ شرطة مكافحة الإرهاب، أو التحقيق مباشرةً من قِبَلِ القضاء المُختصّ للأشخاص الذين صدر في حقّهم بالفعل مذكرةُ توقيفٍ دولية".
وممّا سَبَقَ؛ يتّضح أمامنا أنّ عودة هؤلاء المقاتلين إلى "فرنسا" يُمَثِّلُ عِبئًا ثقيلًا على الحكومة الفرنسية، لا سيّما على المستوى الأمني الداخلي؛ لأنه إذا فشلت الحكومة في محاكمة هؤلاء وإعادة تأهليهم على كافّة المستويات، ولو بنسبة واحدٍ في المئة، فهناك احتمالية انضمام هذا الفرد لخلية إرهابية، ممّا يزيد حتمًا من احتمال تنفيذ هجومٍ إرهابي يودي بحياة العديد من الأبرياء، ويُزعزع استقرارَ الأمن الداخلي؛ لذا يجب تقويم كلّ فردٍ من هؤلاء المقاتلين العائدين من "سوريا" إلى "فرنسا"، وإخضاعه لبرنامجٍ تأهيليٍّ نفسيٍّ وديني يعمل على فَكّ شفرات الفِكر الداعشيّ الراسخ في ذهن هؤلاء، ومحاولة دمجهم داخل المجتمع الفرنسي، فحقًّا؛ إنها قضيةٌ لا تزالُ تشغل البال ويهتم بها الرأي العامّ الفرنسي، فماذا تَنويه "فرنسا" في التعاطي مع هذا الملفّ الذي بات من أهمِّ الملفّات والتحديات أمام حكومتها؟

وحدة رصد اللغة الفرنسية

 

طباعة

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.