الخطاب الإعلامي لداعش في 2019 .. سلسلة "العاقبة للمتقين" نموذجًا

  • | الخميس, 23 يناير, 2020
الخطاب الإعلامي لداعش في 2019 ..  سلسلة "العاقبة للمتقين" نموذجًا

     كان عام 2019 مليئًا بالأحداث الكثيرة التي تتعلق بتنظيم "داعش" الإرهابي، أهمها بلا شك مقتل زعيم التنظيم "أبو بكر البغدادي" يوم السبت 26 أكتوبر 2019 نتيجة غارة أمريكية شُنَّت على المنزل الذي كان يُقيم به في قرية "باريشا" إحدى قرى "إدلب" شمال غرب "سوريا".

وقد سبق هذا الحادث انتهاء السيطرة المكانية لداعش وسقوط التنظيم في "الباغوز" آخر معاقله. ولا شك أن مقتل "البغدادي" لا يعني بالضرورة نهاية التنظيم؛ إذ إنه لم يكن أصعب من فقدان التنظيم المساحات والمدن التي كان يُسيطرُ عليها وخصوصًا مدينتا "الرَّقة" و"الموصل"، كذلك لم يكن مقتل "البغدادي" أصعب على هذا التنظيم الإرهابي من خسائره البشرية خصوصًا في القيادات؛ إذ يُعدُّ "البغدادي" آخر القادة التاريخيين للتنظيم والبالغ عددهم 42 قيادة.    

ويرى مرصد الأزهر أن عام 2019 كان عام الضعف الحقيقي لـ "تنظيم داعش" الإرهابي، ويُمثل إحدى مراحل الانهيار التي بدأت بفقدان مدينة "الفلوجة" العراقية عام 2016، مرورًا بفقدان "الموصل" و"الرقة" في 2017، وانتهاءً بفقدان "الباغوز"، ثم مقتل زعيم التنظيم الإرهابي. وفي هذا التقرير سنستعرض إحدى أهم ملامح الضعف في "داعش" وهو ضعف الخطاب الإعلامي المرأي للتنظيم خلال عام 2019.

تحليل مقاطع "العاقبة للمتقين"

اشتهر "تنظيم داعش" بأن لديه آلة إعلامية تتمتع بقدرات تقنية عالية وكفاءة كبيرة في التعامل مع العوالم الافتراضية وشبكات التواصل على وجه الخصوص، وقد استطاع من خلال منصاته الإعلامية استقطاب المقاتلين من جميع أنحاء العالم، كما استطاع نقل عملياته الإرهابية من الشرق إلى الغرب عبر الشباب الذين خُدِعوا بدعايته الضالة وقاموا بعمليات نوعية عُرفت إعلاميًا باسم "عمليات الذئاب المنفردة".

لكن هذا الجهاز قد أصابه الضعف اعتبارًا من سقوط التنظيم في سوريا والعراق عام 2017، وبدا ذلك واضحًا في انخفاضٍ كبير في حجم المحتوى الداعشي المنشور، إضافة إلى رداءة جودته خاصة جودة الفيديوهات والصور، وكذلك سقطات الترجمة؛ خاصة الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية.

وقد بلغ الضعف الإعلامي ذروته خلال عام 2019، ورأينا مقاطع "العاقبة للمتقين" المرئية تظهر بصورة سيئة سواء من حيث التصوير أو من حيث المحتوى، بل ومن حيث المتحدثين ولغتهم الركيكة. فأحد هذه المقاطع كان عن دولة تقع في آسيا الوسطى، يتحدث التنظيمُ لأول مرة أن له فيها ولاية مزعومة وموطأ قدم بها، وخرج المتحدثُ في المقطع مُلثمًا يرتدي ملابس سوداء وخلفه رجلان يمسكُ كل واحد منهما بندقية آلية. واللافت للنظرِ في هذا المقطع هو قلة السلاح الموجود في أيدي الرجلين اللذين على يمين ويسار المتحدث، وكذلك قلة العدة والعتاد بصفةٍ عامة في المقطع مقارنة بالمقاطع الأخرى في السلسلةٍ ذاتها، والتي كان بها أسلحة أكثر وعدد أكبر من المقاتلين، الأمر الذي يثيرُ الشكوكَ عما إذا كان للتنظيم موطأ قدمٍ بالفعل في هذه الدولة أم لا.

وازدادت هذه الشكوك عندما ذكرت إحدى الصحف أن البندقيتين الآليتين اللتين كانتا في أيدي المقاتلين اللذين ظهرا على يمين المتحدث ويساره كانتا سلاحين غير حقيقيين حيث أشار خبراء الأسلحة وفقًا لهذه الصحيفة أن هذه الأسلحة ألعاب وليست أسلحة حقيقية.

الأمر الثاني في هذا المقطع هو أن الرجل الواقف على يمين المتحدث كان يمسك السلاحَ في وضع الاستعداد، ويوجه فم ماسورة البندقية إلى رأس المتحدث في المقطع، وهذا خطأ عسكري فادح لا يقع فيه إلا شخص حديث عهدٍ بحمل الأسلحة، إذ إن أول شيء يتعلمه من يتعامل مع السلاح هو كيفية حمله.

كذلك أيضًا كان المتحدث في أحد هذه المقاطع ضعيفًا جدًا في اللغة وفن الإلقاء، ويفتقد إلى جذب المتلقي أو لفت انتباهه على خلاف المقاطع التي كانت تظهر في عامي القوة 2014، 2015، والتي كان المُتحدثُ فيها في حد ذاته جزءًا لا يتجزأ من منظومة الاستقطاب وتجنيد المقاتلين الأجانب، وقد رأينا كيف كان المتحدث "أبو محمد العدناني" مؤثرًا بلغته وإلقائه لدرجة جعلت منه شخصية ملهمة للذئاب المنفردة، وكان تأثيره عليهم أكثر بكثيرٍ من تأثير "البغدادي" الذي كان متخفيًا عن الإعلام.   

توظيف خطاب المظلومية

من جهة أخرى، كان الخطاب الإعلامي في هذه السلسلة خطابًا تقليديًا يشبه إلى حدٍّ كبير خطابات التنظيم القديمة، واستخدم التنظيم في هذه السلسلة أساليبه المعتادة والمركبة، والتي منها توظيف "خطاب المظلومية في مقابل خطاب العنف"، فيقول مثلًا في أحد المقاطع "فبتطبيقنا لأحكام الله تعالى تكالبت علينا طواغيت العالم بكامل عُدَدهم وجيوشهم، وأسسوا تحالفًا لم يُرَ له نظير في التاريخ". فهذا خطاب مظلومية، وهو ليس خاص بتنظيم داعش الإرهابي وحده بل بجميع التنظيمات الأخرى. وبالرغم من أن تنظيم داعش الإرهابي عوّل في المقام الأول على الخطاب الانتصاري العنيف إلا أنه يستخدم المظلومية وحالة الضحية، ويسعى إلى تصوير العالم كله مُعاديًا له.

كما أن دغدغة المشاعر في الخطاب واضحة، والرسالة التي يريدون إيصالها هي أنهم إنما يُحارَبون فقط من أجل تطبيقهم لأحكام الله، وهذا افتراء محض، رد عليه المرصد قبل ذلك، ونُشر الرد على بوابة الأزهر في قسم "اللجنة الشرعية".

ويُوظف "داعش" خطاب المظلومية هذا في مقابل خطاب العنف والتهديد؛ ليمنح عنفه ووحشيته غِطاءً شرعيًا، ويؤكد ذلك ما ذكره المقطع بعد النص السابق حيث خرج من المظلومية إلى التهديد بالعنف بقوله: "أما أنتم يا طواغيت ...، يا من تسعون جاهدين لإرضاء دول الصليب ... اعلموا أننا لسنا بجاهلين عما تعملون. وحينها سترون جزاء تعذيبكم وقتلكم للمسلمين. فانتظروا إنا معكم منتظرون"، وما كان للتنظيم أن يخدع المتلقي بهذا التهديد مباشرة إلا بالتمهيد بخطاب المظلومية الذي يظهرهم في صورة الضحية. وهذا الأسلوب قريب جدًا من المقطع الذي صوّر حرق الطيَار الأردني "معاذ الكساسبة" الذي مُهد بمظلومية عن طريق تصوير أماكن مُدمرة للغارات الجوية التي تُشن عليهم، وذلك ثقة من التنظيم الإرهابي أن ما فعلوه لا يُرضي أي إنسانٍ يتحلّى بأقل قدر من الفطرة الإنسانية التي فطر اللهُ الناسَ عليها.                                       

"البروباجندا" الداعشية

أيضًا استخدم التنظيم الإرهابي في هذه السلسلة أسلوب "التحريض في مقابل الدمج"، وهو من أهم أساليب "البروباجندا" الداعشية وفقًا للباحث "تشارلي وينتر" الذي يقول إن "البروباجندا" التحريضية تهدف إلى نقل المؤيدين من التأييد السلبي إلى الإيجابي، ومن حالة رفض الواقع إلى التمرد عليه. وتركز "بروباجندا التحريض" على الفعل بينما تركز "بروباجندا الدمج" على تهيئة المؤيدين وتطبيعهم على مجموعة الأفكار التي ستطرح مستقبلًا أو مجموعة العمليات التي ستُشن لاحقًا كمبرر لها حين التنفيذ.

ومثال ذلك قول المتحدث في أحد مقاطع السلسلة سالفة الذكر: (ورسالتي إلى الأخوة والأخوات في سجون الطواغيت نقول لكم: "اصبروا وصابروا وعلِّقُوا قلوبكم بالله عز وجل. فوالله ما نسيناكم، ولن ننساكم أبدًا، ولن ندخر جهدًا في فكاك أسركم بإذن الله) ثم عقّب هذه القطعة بقوله:  "وللإخوة القاعدين عن الجهاد نقول لكم: "مالكم! أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. .... راجع دينك وستجد أنك على خطر عظيم".

فالخطاب هنا مركب من جزء حماسي استثار به التنظيم عاطفة مؤيديه، ثم تلاه خطاب تحريضي على المشاركة في العمل من أجل تحرير المسجونين التابعين للتنظيم، وفيه أيضًا لفت النظر إلى السجون، وإشارة إلى أن مهاجمتها قد تكون هدفًا خلال الفترة القادمة.

ومن يمعن نظره في الخطاب الداعشي في سلسلة "العاقبة للمتقين" يجد أيضًا خطاب "اليوتوبيا" حاضرًا بقوة، وهو خطاب لا مكان فيه للمظلومية التي تُكسب التعاطفَ لكنها لا تُكسب الرغبة والحماس للانضمام إلى التنظيم، ولا تبرزه كشيء يستحق التضحية والتنازل بعض الشيء عن الثوابت، وارتكاب العمليات الدموية التي لا يقرُّها شرعٌ ولا يقبلها عُرف في سبيل الوصول في النهاية إلى حلمِ المدينة الفاضلة.

فمن خلال خطاب "اليوتوبيا" يصور التنظيم لمتابعيه كذبًا وخداعًا حلاوة الانتماء لصفوف الخلافة المزعومة، مثل قوله في أحد مقاطع "العاقبة للمتقين": "أيها المجاهدون لقد كنا في العهد القريب أحزابًا متفرقين وجماعات مشرذمين، كل منا يتعصب لحزبه وتنظيمه {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لديهم فَرِحُون}، فبزغ بفضل الله شمس الهدى بإعلان الخلافة الراشدة أدامها الله!".

فالمتأمل هنا يرى أن التنظيم يوجِّه هذا الخطاب بصورة مباشرة إلى المجندين المحتملين في الخارج، وخصوصًا من يفتقدون إلى الاندماج والانتماء إلى أوطانهم لظروفٍ سياسية أو نفسية أو اجتماعية معيَّنة مصورًا لهم أن أفراد التنظيم قبل إعلان خلافتهم المزعومة كانوا يعيشون حياة بائسة، متفرقين ومتشرذمين، لكنّ كل شيء قد تَّغير مع الانضمام إلى داعش، الذي صحبته الألفة بين القلوب والرضا والهدى وغيرها مما كانوا يفتقدونه من قبل، وهذه كلها دعايات كاذبة فَنَّدتْهَا شهادات العائدين من داعش والذين صُدِموا بالحياة في التنظيم، ووجدوا أنها لم تكن على قدر الزخم الذي مارسه التنظيم على صفحات التواصل الاجتماعي.

ومن بين هذه الشهادات التي تُظهر كذب خطاب "اليوتوبيا"، شهادة سيدة تُدعى "جميلة أصلان" حررتها قوات سوريا الديمقراطية من أيدي التنظيم، تقول في شهادتها: "ليتني لم أعرف داعش، ولم أنضم إليه. لقد ابتعدت عن عائلتي وأصدقائي وبلدي، وعشت بعيدة عن بيئتي اعتقادًا مني أني سأعيش دين الإسلام الذي كان يعيشه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام... عرفتُ التنظيم عن طريق الإنترنت؛ حيث كُنت حديثة عهدٍ بمعرفة تعاليم الإسلام، وهذا خطأ كبير، فلا يجب على الإنسان أن يبحث عن دينه عن طريق الإنترنت؛ لأنه سيصادف أشياء كثيرة توقعه في الخطأ... لقد كان التنظيم ينشر أشياء كثيرة عن الدِّين كنت أتابعها مع زوجي، وكان التنظيم يروج من خلال هذه المنشورات لأفكار تطبيق الشريعة والجهاد ووجوب الهجرة إلى أرض الخلافة، فانخدعت بشعاراته كأيِّ شخص حديث عهد بالتدين... وبعد فترة تعرَّف زوجي على أحد عناصر التنظيم وقام بمساعدتنا في الذهاب إلى سوريا. ومع مرور الوقت بدأتُ أرى الظلم الذي يعانيه الشعب، ورأيتُ بعيني فرْدًا داعشيًّا يحذر سيدة تسير في الشارع دون أن تغطي عينيها ثم أطلق عليها النار لعدم استجابتها لأمره... إن التنظيم لا علاقة له بتعاليم الإسلام، إنه لا يعرف سوى الظلم والقهر وقتل الناس... لقد انضممنا إليه عام 2014 ولم نستطع الخروج منه، فهو يمنع الذهاب إلى الحدود. كان يمكنني أن أعيش ديني بجانب عائلتي، لقد فهمت هذا مؤخرًا".

وأخيرًا ...

فهذه الشهادة الحيَّة وغيرها من الشهادات الأخرى تثبت أن "داعش" ما هو إلا تنظيم إرهابي، كاذب وخادع يستخدم الدعاية الكاذبة للعديد من الأهداف من أهمها استقطاب الشباب، وصدق فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر، حين قال: "إن الحملات التي يطلقها تنظيم داعش الإرهابي لضم الشباب المسلم إلى صفوفه حملات ضالة ومضللة غرضها زعزعة أمن الأوطان الإسلامية، والنيل من استقرارها، وزلزلة أركانها، واستهداف شبابها الذين يمثلون عماد هذه الأمة".

بدوره، يحذّر مرصد الأزهر لمكافحة التطرف الشباب من الوقوع في براثن هذا التنظيم الإرهابي الذي لا يعرف شيئًا عن صحيح الدين الإسلامي، مؤكدًا أن تعاليم الإسلام وكل الشرائع السماوية والأعراف الدولية تُقرر حرمة الإنسان وتُجرم الاعتداء عليه.

وحدة الرصد باللغة التركية

طباعة

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.