أزمة دُور العبادة في الهند بين التشدد والاعتدال

  • | الثلاثاء, 28 يونيو, 2022
أزمة دُور العبادة في الهند بين التشدد والاعتدال

     التسامح والسلام والاعتدال أساس تقدم الأمم والحضارات، وعامل رئيس في تجنب الكراهية والصراعات، وهو ما تدعو إليه جميع الرسالات والأديان دون تفرقة؛ إذ تهدف جميعها إلى نشر الحب والسلام والمؤاخاة.

وما يحدث في العالم اليوم من حثٍّ على الكراهية والعداء، والتعصب المفرط، ناتج عن تراجع القيم الإنسانية الرئيسة؛ لا سيما تقبل الآخر وخاصة بين أبناء الوطن الواحد في بلدٍ يتسم بالتعددية في الأديان والمعتقدات المختلفة، حيث يتلاشى التباعد الفكري تدريجيًّا، وتتبلور حالة من التقارب في وجهات النظر المختلفة.

وما يحدث مؤخرًا بين المسلمين والهندوس، أو بين المسيحيين والهندوس في الهند، صورة من صور هذا التباعد الفكري القائم على تعصبات دينية ألقت بتداعياتها السلبية على المجتمع، إذ ينظر كل منهم للآخر -وهم أبناء أرض واحدة- على أنه نِدٌّ وعدو، ينبغي التفوق عليه لضمان بقائه تحت وطأته، وذلك لشعوره بالاستعلاء على الآخر، وإيمانه بأن لجماعته الأفضليةَ المطلقة، وهو ما يعد عاملًا مهمًّا في نشأة الصراعات، والتي قد تصل في أحيانَ كثيرةٍ إلى المذابح والإبادة والإرهاب، أو ربما الحروب.

وتجلى ذلك في محاولات إحكام القبضة وتضييق الخناق على دور العبادة بصورها المختلفة والتي بدأت ببعض الأمور المقبولة نسبيًّا في بادئ الأمر، مثل:

تقنين الأذان: من حيث ارتفاع صوت الآذان وعدد مكبرات الصوت، إلا أنه أخذ منحنى آخر بعد تصاعد الهتافات في أبريل الماضي ٢٠٢٢م؛ حيث مُنعت مكبرات الصوت تدريجيًّا في بعض المناطق ذات الأغلبية الهندوسية. وكان "راج ثاكيري" زعيم حزب (ماهاراشترا) الهندوسي اليميني، قد هدد بإقامة الطقوس الهندوسية أمام المساجد، في حال تجاهلت الحكومة الموقف، معللًا بأنه إذا افترض أن الدين شأن خاص، فلماذا يُسمح للمسلمين باستخدام مكبرات الصوت (365) يومًا في السنة". بالمقابل ينظر المسلمون بالهند وعددهم نحوَ (200) مليون نسمة، إلى هذه التحركات باعتبارها محاولات ترمى إلى تقويض حقوقهم في حرية العبادة، وممارسة الشعائر الدينية.

ولاحتواء الأزمة؛ ألقت قيادات شرطية بارزة وفدًا من كبار رجال الدين في ولاية "مهاراشترا" الهندية، مايو الماضي، وذلك للتأكد من خفض صوت المكبرات؛ خشية وقوع اشتباكات بالولاية التي يقطنها ما يزيد عن عشرة ملايين مسلم و(70) مليون هندوسي، وهددت الشرطة برفع دعوى جنائية ضد مَن يستخدم مكبرات الصوت، كما حذرت أعضاء حزب "ثاكيري" من التجمع حول المساجد.

واضطر أكثر من (900) مسجد إلى الامتثال لمطالب "راج ثاكيراي" تجنبًا للعنف الطائفي، وقال "طمحمد أشفق قاضي، العالم المسلم الأوسع نفوذًا في مدينة مومباي: "لقد أصبحَتْ مكبرات الصوت، ومدى ارتفاع صوت الأذان مسألة سياسية، لكنني لا أريد أن يتخذ الأمر منحًى طائفيًّا. في حين نفى الحزب الحاكم مزاعم استهداف الطوائف الدينية، معللًا بأنه يريد تغييرًا تقدُّميًّا من شأنه أن يفيد جميع الهنود، وأن مثل هذه الخطوات لا تهدف إلى التمييز ضد المسلمين.

منع المسلمين من صلاة التراويح والعيد في المساجد: قررت السلطات الهندية حظر صلاة العيد في المسجد الجامع، ومن قبلها صلاة التراويح، والاحتفالات الدينية المتعلقة بليلة القدر وجمعة الوداع. وقد أبلغت الهيئات الدينية المتعلقة بشئون المسلمين، إدارة (سرينغار أنجومان) بضرورة إقامة صلاة العيد في المسجد الجامع، بموجب القانون والحرية الدينية للمسلمين، إلا أن الإدارة رفضت دون إبداء أسباب. وانتقد زعيم حزب الشعب الديمقراطي "رؤوف بت" القرار وقال:" من المستهجن عدم السماح للمواطنين بأداء الصلاة في المساجد والساحات والمسجد الجامع في هذا اليوم السعيد".

وفي الحقيقة تؤدي مثل هذه القيود إلى شعور الفرد بالاضطهاد الديني وإثارة الغضب وخلق فجوة أكبر بين الشعب والمسئولين.

عدم السماح للمسلمين بدخول بعض المساجد التاريخية: بشبهة أن تحت أنقضاها رموزًا وآثارًا هندوسية، ومن ثَمَّ يجب التعامل معها على كونها أماكن تابعة للهندوس يتحتم إقامة الطقوس بها مثلما حدث مع مسجد "جيانوابي گيان واپى" التاريخي في فاراناسي، حيث قرر نشطاء حزبي "فيشوا هندو بريشاد" وَ "باجرانج دال" إقامة الطقوس الهندوسية داخل المسجد في حضور أحد أعضاء الحزب وسط حشد كبير من الرجال والنساء، في حين تصدى لهم المتظاهرون وطبقت الشرطة المادة (144) من القانون والتي تنص بوقف التجمعات.

وعلى فرض صحة الأخبار عن اكتشاف آثار هندوسية داخل أحد المساجد، فهذا لا يعني أن كل المساجد قد بُنيت على أنقاض آثار هندوسية. ومما لا شك فيه أن الفصل في مثل هذه الأمور الشديدة الحساسية ينبغي أن يعود للجهات المختصة، ولكن لأسباب خاصة قرر البعض إشعال فتيل الفتنة. وهو أمر غير مقبول مما تسبب في صراعات وكراهية بين المسلمين والهندوس، حيث حاول البعض تسييس الأمر واستغلال الأحداث في تحقيق أهداف خاصة لبعض الجماعات والأحزاب على حساب الاضطرابات وزعزعة الأمن والسلام.

وكان لا بد من النظر للأمر من منطلق مراعاة كل طرف للآخر، وعدم خلط الأوراق وتعميم الأمور. وبحسب وكالة أنباء رويترز، فقد قضت محكمة في دائرة رئيس الوزراء الهندي "ناريندرا مودي" بالتفتيش وتسجيل فيديو داخل مسجد (جيانوابي) التاريخي في فاراناسي، والتشكيك في شرعية المسجد. ويعتقد البعض أنه عثر على عدد كبير من آثار الإله الهندوسي (شيفا) داخل المسجد، والتي دمرها حكام المسلمين لترسيخ حكمهم، في حين يؤكد المسلمون أن الأثر يعود لرأس نافورة تم تحريفها بسبب التوترات الدينية.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد إلى استغلال الموقف للتشكيك في شرعية عموم المساجد، فطالب متطرفون هندوس في ولاية (أوتاربراديش) شمال الهند بوقف دخول المسلمين إلى مسجد (عيد جاه) التاريخي الملكي الذي يعود إلى القرن (17) للكشف عن وجود رموز وآثار هندوسية أم لا. وتصعيدًا للوضع طالبت الجماعات الهندوسية في غرب وجنوب الهند بتفتيش المساجد الأخرى.

ومن ناحية أخرى، قالت الجماعات السياسية والدينية الإسلامية: إنها ستخوض معركة قانونية ضد الجماعات الهندوسية على خلفية تدنيس المساجد والأضرحة، وصرح "أسد الدين أويسي" عضو البرلمان الهندي والزعيم الإقليمي للحزب السياسي:" نحن (المسلمون) لن نسمح للهندوس بتدنيس عقيدتنا ومساجدنا".

أيضًا تأكد هدم عدد من المساجد الأخرى، ووفقًا للجارديان البريطانية، فقد قررت إدارة محلية في ولاية (أوتار براديش) هدم مسجد يقع في مدينة (رام سانسهى غات) كان قد صمد ستة عقود على الأقل منذ زمن الحكم البريطاني؛ في تحد صارخ لقرار المحكمة العليا بتاريخ 24 أبريل الماضي وينص على حماية مبنى المسجد من أي إجلاء أو هدم حتى 31 مايو من العام نفسه

جاء ذلك في واحدة من أكثر الإجراءات التحريضية ضد دُور العبادة منذ سماح المحكمة العليا للهندوس عام 2019م ببناء معبد محل المسجد (البابري) المتنازع عليه، والذي يعود للقرن السادس عشر، بعد أن هدمته حشود هندوسية عام 1992م بدعوى أنه مُقام في المكان الذي ولدت فيه الإلهة الهندوسية (رام). وكان رئيس وزراء ولاية (أتر برديش) قد وضع بحضور (90) مهندسًا معماريًّا وكاهنًا هندوسيًّا حجر الأساس للمعبد بتاريخ 1 يونيو 2022م. وأعلن كبير الوزراء "يوكي أديته ناته" أنه سيكون معبدًا وطنيًّا للهند ورمزًا للوحدة، وأن شعب الهند ينتظر هذا اليوم منذ سنوات. ليس ما سبق فحسب، بل تم تقديم دعوى من قبل (وتشار مانش) الذراع الأيمن لحزب "ناريندر مودي" بدعوى أن المسجد الجامع، والذي بناه السلطان تيبو عام (1700) شُيِّد على أنقاض معبد (هانومان) وذلك تمهيدًا لهدمه.

ولم تسلم كذلك المعالم التاريخية والآثار الإسلامية؛ حيث هدد حزب (ماهاراشترا) الهندوسي اليميني المتطرف بتدمير مقبرة الحاكم المسلم المغولي "أورنجزيب" بدعوى أنه كان مناهضًا للهندوس. وحسب الإعلام الكشميري قدم "بهجوان جويل" رئيس الجبهة الهندوسية المتحدة، مذكرة إلى وزير الداخلية "أميت شاه" زعم فيها أن المزار الثقافي "قطب مينار" أو متحف الآثار القديمة للعصور الوسطى، والذي بناه الحاكم المسلم "قطب الدين أيبك" كان في الأصل معبد "فيشنو". وطالب في المذكرة المزار إلى معبد وقال: " معبد فيشنو كان بداخله (27) صنمًا يُعبَدون بشكل منفصل".

وفي وقت سابق تجمع نشطاء الأحزاب الهندوسية المتطرفة في "قطب مينار" للاحتفال بمهرجان (هانومان تشاليسا) الهندوسي، وغنوا أغانيَ دينية، وقامت الشرطة باعتقالهم ووضعت رئيس الجبهة الهندوسية المتحدة "بهجوان جويل" تحت الإقامة الجبرية، وتكررت التجمعات داخل "تاج محل" في آكره بمناسبة عيد الهندوس (مها شيفراتري) وتصاعدت مطالب بالسماح بتفتيش ضريح "تاج محل". وبحسب وسائل الإعلام الهندية فقد تعالت الأصوات المطالبة بتغيير اسم برج "جناح" بولاية (آندهرا برديش) بعد فشل محاولات هدمه، وهددت التنظيمات الهندوسية المتطرفة حكومة الولاية بعواقب وخيمة في حالة عدم تغيير اسمه، في حين لم تعتقل الشرطة أي شخص ممن هدَّد بهدم برج "جناح".
وساءت الأوضاع بعد خطاب الكراهية الموجه ضد المواطنين المسلمين والذي ألقاه "براديش يوجى أدينياناث" رئيس وزراء ولاية (أوتار) المعروف بالتشدد والنقد اللاذع للمسلمين، وفيه وصف المسلمين بـ (الإرهابيين). بخلاف التصديق على تشريعات تمييزية ضد المسلمين، كان من نتائجها قتل امرأة مسلمة بسبب ذبح بقرة. وكذلك بدأت الجماعات الهندوسية تدريب أتباعها على حمل السلاح. وقد تعرض مواطن هندوسي مسن للتعذيب حتى الموت على أيدي متطرفين هندوس فقط لمجرد الاشتباه في كونه مسلمًا، في حين صرحت أسرة الفقيد بأنه كان مريضًا عقليًّا، ولم يكن لديه ما يثبت هُويته.

صوت الوسطية والاعتدال: بعد كل ما تمَّ عرضه من صور للتطرف والتشدد والعصبية لا يزال هناك الكثيرون من الذين تتعالى أصواتهم بالحرية العقدية والمساواة والاعتدال، حيث أعلن رئيس حزب الرفاه الهندي الدكتور سيد قاسم رسول إلياس أن مزاعم إقامة معابد على مساجد ستؤدي حتمًا بالبلاد إلى عواقب وخيمة، وستلحق أضرارًا بالغة بالطابع العلماني والديمقراطي للبلاد.

وأعرب عن قلقه البالغ إزاء الموقف الحالي للمحاكم، قائلًا: إن القانون المركزي لحماية أماكن العبادة لعام 1991م لا ينص على أي نزاع جديد حول أماكن العبادة، وأنها ستبقى كما كانت في 15 أغسطس 1947م، إلا أن المحاكم الدنيا تقبل مثل هذه الالتماسات التي أدت دورًا بالغًا في تعزيز هذه النزاعات، فبلادنا –الهند- بلد متعدد الأديان، وإذا تمت إزالة ما يسمى بالأخطاء التاريخية، فستعاني البلاد من أسوأ حالات الخروج على القانون، حيث تم بناء المئات من معابد شيفاج وفيشوا عن طريق هدم أماكن عبادة البوذيين والجينيين، والتي لا تزال بقاياها موجودة حتى اليوم، وأضاف أن حكومة حزب بهاراتيا جاناتا تلعب بالتاريخ، متجاهلة حقيقة أن تشويه التاريخ يمكن أن يخلق الكراهية والعداوة ولا يمكن أن يبني مستقبلًا مستقرًّا.

كما اجتمع زعماء قادة الأديان معًا في العاصمة دلهي لتعزيز الأمن والسلام في البلاد لمواجهة أجواء التعصب الديني والكراهية الطائفية، وتعهدوا بالعمل معًا لمحاربته، وقدّم الحضور ومعظمهم من الهندوس العديد من المقترحات التي من شأنها أن تنهي الخلافات الطائفية وتعيد السلام، ومنها:
الجلوس معًا وعقد لقاءات لتوحيد الدولة، مع الوضع في الاعتبار دائمًا الأمن وسلامة البلاد في أثناء ممارسة الشعائر الدينية، أيضًا إذا تم استهداف أية فئة أو إلحاق الأذى بها بأي شكل من الأشكال، فإن أرباب الديانات والمجتمعات الأخرى سيخرجون علانية لدعمهم.
وفي الختام فإن حرية العقيدة وما يرتبط بها من حق المواطنة موضوع أساسي وأصيل في الفكر الإنساني، ووَفقًا لقرار الأمم المتحدة عام ١٩٤٨م، فإن "لكل إنسان الحق في حرية الفكر، ويشمل ذلك حريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره"، وفي الهند حرية الدين حق أساسي مكفول لكل مواطن بموجب المادة (25) من الدستور، ووفقًا لذلك فإن كل مواطن لديه الحق في اعتناق وممارسة ونشر دينه بشكل سلمي، إلا إنه في الآونة الأخيرة؛ تراجعت الحريات الدينية "بشكل ملحوظ"، وفُرضت بعض القيود على الطوائف الدينية، التي نأمل أن تنتهي سريعًا حتى يسود الوئام الوطني. فلم يكن الاضطهاد الديني في الهند خاص بالمسلمين فحسب بل تعرض له المسيحيون كذلك، حيث ارتفعت حالات الاضطهاد من (147) حالة في عام 2014م إلى ما يقرب من (328) في عام 2019م، كما أفاد المنتدى المسيحي (UCF)-وهو منظمة تُعنى بحقوق الإنسان مقرها نيودلهي - أنه في النصف الأول من عام 2021م ارتفعت حوادث العنف إلى (154) حادثة في (17) ولاية، وتعزى الزيادة إلى ارتفاع مستوى أيديولوجية الهندوتفا وخطاب الكراهية المعادي للأقليات الدينية وخاصة في الولايات ذات الأغلبية الهندوسية برعاية الحزب اليميني بهاراتيا جاناتا، الذي يؤمن لأتباعه موافقة ضمنية لمهاجمة الطوائف الدينية وأماكن عبادتهم.

ومبدأ حرية العقيدة مبدأ إسلامي أصيل ثبت بنص القرآن الكريم في قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}؛ حيث جعل الإسلام قضية الإيمان أو عدمه مرتبطة بمشيئة الإنسان نفسه وقناعته الداخلية دون إكراه أو إجبار، كما أن المؤاخاة والوسطية والاعتدال من المبادئ التي تقرها الأديان جميعًا دون تفرقة، لكونها السبيل الوحيد إلى الاستقرار والسلام.

ويرى مرصد الأزهر أن ترسيخ مبدأ حرية الاعتقاد والتعددية الدينية، من شأنه أن يكون له دور فاعل وبارز في مكافحة التطرف؛ فقضايا التعايش السلمي وقبول الآخر، دائمًا ما تكون في مرمى نيران المتطرفين وهجومهم نظريًّا وتطبيقًا، حيث يساهم ذلك الترسيخ في محاولة تشكيل صورة موضوعية -قدر الممكن- عن "الآخر" المختلف المتنوع، في مواجهة ثنائية تميز"الأنا" وقبوله، ودونية الآخر ورفضه، التي تنشرها وترتكز عليها التنظيمات المتطرفة.


وحدة الرصد باللغة الأردية

طباعة

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.