الفن ودوره في بناء الوعي ومواجهة التطرف

  • | الأحد, 17 يوليه, 2022
الفن ودوره في بناء الوعي ومواجهة التطرف

     للفن دور مهم ورسالة هادفة ترتقي بالإنسان، وتهذب الوجدان، وتوسع الأفاق البشرية. وهو وسيلة فاعلة لتعزيز التجربة الإنسانية، وصقل الخبرات، وتعزيز القيم البناءة، والتي من شأنها العمل على وحدة المجتمع وترابطه وتقوية أواصر الصلة بين أفراده. والفن وسيلة فعالة للتعبير عن مكامن النفس وما يعتمل في الوجدان، فكل عمل فني يتناول موضوعًا بعينه يحمل بين طياته أبعادًا دلالية متعددة وطاقات تعبيرية جبارة تسترعي انتباه المتلقي وتشحذ تفكيره وتذكي همته.
كما يضطلع الفن أيضًا بدور نقدي مهم؛ إذ يقوم بتسليط الضوء على العديد من السلبيات في المجتمع ويتناولها بالتحليل والتفنيد، كونه وسيلة تعبيرية ملامسة للواقع المعاش بكل ما فيه؛ ومن هنا نرى أن الفن يمكن أن يقوم بدور مهم في بناء الوعي ومكافحة التطرف، وتقوية مناعة المجتمع ضد التنظيمات المتطرفة. وهذا ما سنحاول التركيز عليه في هذا التقرير على النحو الآتي:
أولًا: الفن وبناء الوعى المجتمعي
تبرز أهمية الفن في بناء مجتمع مثالي مترابط، من خلال دوره في بث مشاعر الاعتزاز لدى الأفراد فيما يتعلّق بتاريخهم وثرائهم الثقافي وهويتهم، حيث يعد الفن وسيلة مهمة من وسائل التثقيف بتاريخ الأمم والشعوب والتعريف بنتاجات الحضارات المختلفة. إضافة إلى دوره الفاعل في حشد شرائح كافة المجتمع حول القضايا المجتمعية والقومية، من خلال الطرح الذي تقدمه الأعمال الفنية ذات الأبعاد الاجتماعية والثقافية، والتي تسهم بدورها في بناء وتشكيل الوعي لدى أفراد المجتمع.
كذلك يمكن أن يؤدي الفن وخصوصًا الدراما دورًا مُهِمًّا في القضايا الداخلية في المجتمع مثل: قضية الحفاظ على المال العام، وتعريف الناسِ بحُرْمة التعدّي عليه، وقضايا الحفاظ على الكهرباء والمياه والمواد التموينية المدعمة، وغيرها من الخِدمات التي تبذل الدولة جهودًا مُضنية من أجل إيصالها إلى المستحقين، وأيضًا: مشاكل النظافة والحفاظ على جمال الشوارع والطرقات، والأخلاقيات العامة في المواصلات مثل: الحفاظ على المَقاعِد والنَّوافذ والأبواب، والقيام لكبار السِّنّ وأصحاب الحالات الخاصّة.
وكذلك يمكن أن يكون للدراما معالجات في القضايا الكبرى مثل: ترسيخ قيم المواطنة والأخوة الوطنية، وتَقَبُّل الآخَر وإحياء ذكرى الأبطال التاريخيين الذين ينبغي على الشباب معرفةُ سيرهم والاقتداء بهم، والحديث عما حقّقوه من أجل وطنهم وما قدموه من تضحياتٍ من أجل حريته، ووصوله إلى ما هو عليه من أمنٍ واستقرار. فلا شَكَّ أن تجسيد هذه القِيَم في أعمالٍ درامية ومسرحية سيساعد على غرْس الانتماء لدى أفراد المجتمع، وسيُعَزِّز حُبَّهم لأوطانهم، الأمر الذي سيجعلهم يحافظون عليها بكل ما أوتوا من قوة.
وفي هذا الصدد أكد فضيلة الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر في مقال بعنوان: "دور الفن بين الإبداع والرسالة"، نشرته صحيفة صوت الأزهر بتاريخ 19 أبريل 2020م، على أن الأزهر يُشجِّع ويساند، بل ويدعم الفنَّ الهادف الذي يحمل رسالةً يريد من خلالها الارتقاء بالمجتمع، وتغيير الواقع السيئ إلى واقعٍ أفضل، موضحًا أن الفن إذا فَقَد رسالته يصبح فنًّا مبتذلًا وضارًّا ومدمِّرًا. كما بين فضيلته في المقال سالف الذكر أن الفن قديمًا كانت له رسالة، وأن المشاهد كان يخرج في نهاية العمل الدرامي بدرس يستفيد منه في حياته، وأن هذه الأمور فُقِدت الآن، مشيرًا إلى أن هذا ليس تعميمًا على جميع الأعمال الفنية في وقتنا الحاضر؛ وأن هناك أعمالًا قيِّمة تجمع بين الإبداع والرسالة، لكن الأعمال السلبية هي الأكثر تأثيرًا على الشباب.
كما طالب فضيلته بضرورة أن يعود الفنُّ لرسالته الهادفة، موضحًا أن ذلك يَنْبُعُ من إدراك أهميَّة هذه الرِّسالة، ومدى تأثيرها في المجتمع، مُذكرًا أن بعض الأعمال الفنية يمكن أن تكون رسالةُ قويَّةً تَعْرِض للشباب جزءًا من تاريخهم وحاضرهم، وتُقدِّم لهم نماذج القدوة الصَّالحة من أبطال هذا الوطن ورموزه الحقيقيين، وشهدائه الذين ضحوا من أجله.
كما حذر فضيلته من بعض الأعمال الفنية التي تعرض نماذج فاسدة في إطارٍ من العنف اللَّفْظي والبدنيِّ المقِيت، مؤكدًا على رفضه الأعمال التي تُفْسِدُ الأخلاق، ودعمه لكلِّ عملٍ فنيٍّ هادفٍ، وصاحبِ رسالة، ويُسْهِم في رفع وَعْي الشباب بقضايا وطنهم ومجتمعهم، داعيًا كل صُنَّاع الدراما إلى أن يحذوا هذا الحَذْو، وأن يستثمروا نجاح الأعمال الجادَّة التي أثبتت أن الجمهور يُقْبِل على الفن الهادف ويتأثَّر به حال توافره، متمنيًا أن يكون هناك المزيد من الأعمال التي تُنمِّي الوعي، وتُعزِّز القيم الاجتماعية، وتتحدَّث عن الأخلاق والسلوك، وتتناول الواقع الاجتماعي وجوانبه الإيجابية.
ثانيًا: دور الفنون في مكافحة التطرف
لا شك أن مكافحة التطرف ليست أمنية فقط بل ينبغي حشد جميع الوسائل التي من شأنها دحض مقومات هذا التطرف وتقويض دعائمه وتجفيف منابعه. ويأتي في طليعة هذه الوسائل التي يمكن أن تكافح الفكر الهدام "الفن الهادف" لما له من دور مهم في هذا الصدد.
ويشير الكاتب الدكتور "محمد بشاري" في مقال له بعنوان: "الفن في مواجهة الإرهاب" نُشر في يوليو 2018م، إلى أن الفن قادر على مناهضة الإرهاب إذا ما تم توفير المؤسسات الثقافية الكفيلة باحتضان الفن وتشجيعه وتحقيق المصالحة بينه وبين المجتمع.
كما ذكرت الدكتورة "إيمان رجب" في مقال لها بعنوان: "مكافحة التطرف من خلال الفن والأدب" نشر في فبراير ٢٠١٨م أن إتاحة الفن والموسيقى لأكبر عدد من الناس في أي مجتمع هي مدخل مهم لتحصينهم في مواجهة الأفكار المتطرفة من ناحية، وفي مكافحة تلك الأفكار من ناحية أخرى، على أساس أن الفن والأدب هما نوافذ توفر ما يعزز قيم التسامح وقبول الاختلاف، التي هي قيم على النقيض تمامًا لما تدعو إليه التنظيمات المتطرفة.
ومن خلال رصدنا ومتابعاتنا لأنشطة التنظيمات المتطرفة نؤكد أن هذه التنظيمات قد استغلت الفن في الترويج لفكرها الهدام واستقطاب الشباب. وقد أثبت بعض الباحثين في شؤون لتنظيمات المتطرفة أن 75% من الشباب الذين كانوا يذهبون إلى سوريا والعراق في المدة من 2014م حتى 2017م؛ لينضموا إلى التنظيمات الإرهابية، كانوا ينضمون إلى داعش الإرهابي، مقابل 25% كانوا ينضمون إلى التنظيمات الإرهابية الأخرى. وأرجعوا السبب في ذلك إلى قوة المحتوى الإعلامي لداعش الإرهابي مقارنة بالتنظيمات الأخرى، وهو المحتوى ذو الطابع الفني، حيث ينشر التنظيم "الفيديوهات"، التي في أغلبها تأخذ شكل الأفلام التسجيلية، والأُنشودات الغنائية ذات الإخراج عالي المستوى، مستخدمًا خطابًا إعلاميًّا وفنيًّا مختلطًا بين المظلومية والتحريض واليوتوبيا والخطاب التوحشي الانتصاري، يصورون فيه أنفسهم كذبًا وتدليسًا بأنهم ضحايا؛ الأمر الذي جعل بعض من حُرموا الثقافة الدينية يتعاطف معهم ويلتمس العذر لهم، و"الذئاب المنفردة" خيرُ دليلٍ على ذلك، فهم أشخاص لا تربطهم بالتنظيمات الإرهابية علاقة تنظيمية، ومع ذلك نفذوا أعمالًا إجرامية في مجتمعات كان من الصعب وصول داعش الإرهابي إليها.
ومن هنا ينبغي أن تكون هناك رواية فنية مضادة لرواية التنظيمات المتطرفة؛ عن طريق أعمال فنية هادفة ترسخ لقيمة الإنسان باعتباره أفضل مخلوقات الله، يحرم إرهابه وتخويفه والاعتداء عليه.
ثالثًا: الفن ركيزة أساسية لمواجهة التطرف في مصر
لقد عنيت مصر بتطوير القطاعات الثقافية؛ لما لها من فعالية تسهم في خلق مجتمع واع وبنَّاء، ومن ثم أسست مراكز حاضنة للإبداع خلقت منها صناعة ثقافية تعنى بالفن والأنشطة الفنية، وحولت فيها الثقافة إلى عنصر رئيس للتواصل بين الأفراد، وكانت الفنون على رأس تلك الأولويات.
وبينما كانت التنظيمات المتطرفة تسعى إلى اختراق نسيج المجتمع المصري في فترات زمنية مختلفة، اضطلع الفن ورواده بدور مهم للخروج من ذلك النفق المظلم، فقدمت العديد من الأعمال الفنية بهدف طرح فكر تنويري، يواجه آفتي التطرف والعنف، ويناهض خطابات الكراهية والتمييز، ويسعى إلى نشر ثقافة التسامح والمواطنة بين أفراد المجتمع.
وكان من بين تلك الأعمال الدرامية مسلسل "الاختيار" ومسلسل "العائدون" ... وغيرهما. ولقد سعت مثل تلك الأعمال إلى إحداث نقلة نوعية في مكافحة الإرهاب والتطرف، من خلال تسليطها الضوء على مؤامرات ودسائس معتنقي الفكر الهدام، وبعض آليات أصحاب هذا الفكر في استقطاب الشباب وتحريضهم على أوطانهم. كما قدمت هذه المسلسلات بعض المعالجات الفكرية لبعض القضايا التي تحاول التنظيمات المتطرفة نشرها وفقًا لتفسيراتها المغلوطة لكتاب الله وسنة نبيه. كما قدم مسلسل الاختيار بصورة خاصة بعض الجوانب الحياتية لضباط الجيش والشرطة وجهازي الأمن الوطني والمخابرات العامة، وألقت الضوء على حجم التضحيات التي يضطلعون بها في سبيل حماية الوطن والزود عنه، وفي ذلك رسالة قوية لباقي أفراد المجتمع للتآزر فيما بينهم لرفعة وإعلاء كلمة الوطن.
رابعًا: مستخلص ونتائج
- يحمل الفن الهادف رسالةً يسعى من خلالها إلى الارتقاء بالمجتمع، والعمل على وحدته وترابطه وتقوية الأواصر بين أفراده.
- يمكن أن تكون الأعمال الفنية الهادفة من أهم أدوات محاربة الفكر المتطرف، وتستطيع أن تشكل حائط صد لمواجهة العنف والتطرف والكراهية والتمييز.
- الفن ركيزة أساسية لمواجهة التطرف في مصر، من خلال الطرح الذي تقدمه الأعمال الفنية وما من شأنه نشر فكر تنويري في مواجهة آفة التطرف والعنف.
خامسًا: توصيات
- دعوة صناع الدراما إلى توظيف أعمالهم الفنية في مساندة المجتمع للخروج من أزماته، ومواجهة التحديات والصعاب التي تواجهه، وحشد جميع الطاقات الإبداعية وبثها على هيئة أعمال تقف خلف المشروعات النهضوية والتنموية.
- عدم النظر للأعمال الفنية نظرة سطحية، بل ينبغي إمعان النظر في جوهرها باعتبارها وسيلة تربوية تسهم في تثقيف المجتمع وبناء وعيه.
- تسليط الضوء على أهمية الفنون ونشر الوعي بضرورة التكامل بينها وبين وسائل أخرى في مواجهة العنف والتطرف وخطاب الكراهية.
- تحفيز صناع الدراما على تقديم المزيد من الأعمال الهادفة التي تهدف إلى مواجهة التطرف وزيادة الوعي.

وحدة رصد اللغة التركية

طباعة

رجاء الدخول أو التسجيل لإضافة تعليق.