قبل أيام أعلنت حكومة الحرب الصهيونية (بعد قرابة خمسة أشهر من بداية الحرب على قطاع غزة) رفضها التام فكرة إقامة دولة فلسطينية، رغم المحاولات والضغوط الدولية والإقليمية. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أعلنت كذلك رفض المناشدات الداعية إلى وقف إطلاق النار والتراجع عن فكرة اجتياح رفح.
وبالتوازي مع عمليات الإبادة التي يتعرض لها قطاع غزة، لا تتورع مؤسسات الكيان عن التطاول على كل من يدعوا إلى وقف إطلاق النار؛ فمثلاً: تكررت الانتقادات لوكيل الأمين العام للأمم المتحدة "مارتن غريفيث" -المسئول عن تنسيق العمليات الإنسانية- بعد إعلانه أن حماس "حركة سياسية" وليست "منظمة إرهابية"؛ فقد غرد وزير خارجية الاحتلال قائلاً: "عار عليك"، ووصف حماس بـ "المنظمة النازية"، واتهم غريفيث بأنه "إرهابي". كذلك أعلنت سفارة الاحتلال في الفاتيكان احتجاجها بعد أن وصف وزير خارجية الفاتيكان، الكاردينال بيترو بارولين، الحرب الصهيونية على الفلسطينيين في غزة "بالمذبحة"، وأن العمل العسكري في القطاع غير متناسب.
ووصفت السفارة الصهيونية تعليقات الكاردينال بارولين "بالمؤسفة"، معتبرة أنه لم يأخذ بعين الاعتبار ما أسمته "بالوقائع ذات الصلة في الحكم على شرعية الأعمال الإسرائيلية". وكان الكاردينال بارولين تساءل بشأن ادعاء الكيان "الدفاع عن النفس" من خلال "ارتكاب مذبحة" بحق الفلسطينيين في غزة، وقال: "إن إسرائيل تذرعت بحق الدفاع عن النفس لتبرير أن عمليتها العسكرية في غزة متناسبة، ولكن ذلك لا يكون بقتل ٣٠ ألف شخص!".
تكلفة التأخير ثمنها حياة المرضى
دائمًا ما تصدر منظمة الصحة العالمية تقاريرَ أملًا منها في تحقيق الحفاظ على حياة المرضى على أدنى تقدير، مستشهدة بأن هجوم قوات الاحتلال على المستشفيات والخدمات الطبية الفلسطينية في قطاع غزة جزء من حملتها الشاملة لإجبار الفلسطينيين على الخروج من القطاع. رافضة مزاعم الاحتلال بأن جثث الأسرى كانت محتجزة داخل أي من المستشفيات وآخرها مستشفى ناصر الذي فشل الاحتلال في أن يقدم أدلة حدوث ذلك فيه حتى الآن. وقال رئيس منظمة الصحة العالمية: "إن مستشفى ناصر في غزة لم يعد يعمل بعد حصار دام أسبوعًا أعقبه غارات إسرائيلية مستمرة، بعد منع فريق منظمة الصحة العالمية من دخول المستشفى لتقييم حالة المرضى والاحتياجات الطبية الحرجة. إن تكلفة التأخير ستدفعها حياة المرضى، ويجب تسهيل الوصول إلى المرضى والمستشفيات".
الاحتلال يفضل القتل على السلام
في تصريح مواكب للتصريحات الصادرة عن حكومة حرب الاحتلال، قال وزير خارجيتها: "إن حتى احتمال تطبيع العلاقات مع الدول العربية أو توسيع اتفاقيات السلام هو مرفوض تمامًا إذا كان سيؤدي إلى قيام دولة فلسطينية. إذا كان الثمن هو دولة فلسطينية فأنا أتخلى عن اتفاقيات السلام. فلن تقوم دولة فلسطينية بعد فترة."
يأتي هذا التصريح عن فلسطين ككل، لا غزة وحدها، حيث تتصاعد وتيرة تعدي المستوطنين اليهود على الفلسطينيين في شتى الأنحاء، إذ تتمثل أحدث الوقائع في هجوم مستوطنين على قرية “ترمسعيا”، شمال رام الله، وإحراقهم عددًا من سيارات الفلسطينيين، أو في تعديات سلطات الاحتلال التي أجبرت فلسطينيًّا على هدم منزله في حي سلوان بالقدس.
من ليس يهوديًّا فهو نازي أو متطرف!
لطالما كانت مواقف الاحتلال من الأمم المتحدة رافضةً لتنفيذ أية قرارات أممية، فقد ظهر جليًّا اتهام الاحتلال للأمم المتحدة قائلًا:اً إن "موقف الأمم المتحدة من دعم حماس قد كُشِف عنه أخيرًا على الهواء مباشرة"، متهمًا الأمم المتحدة بـ "التغاضي عن الإرهاب"، بل و"الترويج لحماس" و"إلقاء اللوم على الضحايا"، وأنها "فقدت كل ذرة أخيرة من مصداقيتها."
هذه النتيجة طبيعية لما يحدث على أرض الواقع في الأراضي المحتلة لما رآه ويراه العالم أجمع ويغض الطرف عنه، مانحًا الاحتلال الوقت للإبادة الجماعية لشعب أعزل، تلك الإبادة التي تعددت وسائلها من قتل الأطفال والنساء بدم بارد، وتجويعٍ، وتعطيشٍ، وعزلٍ، وقتلٍ، وانتهاكٍ لحقوق الشيوخ والنساء، هذا بخلاف منع إيصال المواد الغذائية والطبية والوقود إلى المستشفيات التي تُدك بمن فيها من مرضى، وفي النهاية جعلها ثكنات عسكرية وحربية لقوات الاحتلال.
ولكي يكون المرء مسلمًا أو مسيحيًّا سالمًا في الأراضي المحتلة لابد وأن يكون استمرار وجوده متوافقًا مع المصالح الجيوستراتيجية الصهيونية والغربية، فلم يبال الاحتلال بقواته العسكرية أو مستوطنيه من التهجم على كل من -وما- ليس بيهودي.
فمنذ بداية الحرب على غزة أراد الاحتلال أن ينضم إليه المسيحيون من أبناء الشعب الفلسطيني في عملية الإبادة لإخوانهم المسلمين، لكن جاءهم الرد الذي توقعوه من كون فلسطين أرض السلام والأنبياء، وهي وطن للمسيحيين والمسلمين على حد سواء، وليست مطمعًا لأحدهما على الآخر، وكانت حرب غزة دليلًا على غرور هذا المحتل الغاشم الذي بدأ في عقاب المسيحين مثلما عاقب المسلمين.
ففي ٢٠ من أكتوبر ٢٠٢٣، أثار قصف الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في غزة الحزن في الشرق الأوسطو إذ أسفر عن مقتل ١٧ شخصًا، وتلي هذه الحادثة في ١٩ من أكتوبر ٢٠٢٣ قصف جيش الاحتلال كنيسة القديس برفيريوس للروم الأرثوذكس في مدينة غزة، وهي أقدم كنيسة في غزة بنيت في القرن الثاني عشر. وكان ٥٠٠ فلسطيني، من جميع الأديان، يحتمون بالكنيسة؛ فقُتل ما لا يقل عن ١٨ شخصًا في الهجوم، وبعد أسبوعين قصف الكيان المحتل غزة مدمرًا المركز الثقافي الأرثوذوكسي.
وفي ديسمبر ٢٠٢٣، فرض جيش الاحتلال حصارًا على كنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية في مدينة غزة، وكان بها نحو ٦٥٠ فلسطينيًّا يلتمسون اللجوء، ولم يكتف جيش الاحتلال بالحصار للكنيسة، بل أطلق القناصة الصهاينة النار على أم وابنتها كانتا تحتميان في الكنيسة ما أسفر عن مقتلهما. هذا بالإضافة لقصف قوات الاحتلال الكنيسة المعمدانية في غزة وإلحاق الأضرار بها، ومن بعدها مجلس كنائس الشرق الأدنى، ودير الإرساليات الخيرية، فضلًا عن المستشفى الأنجليكاني الذي يديره في غزة – حيث قُتل ما يقرب من ٥٠٠ فلسطيني.
وتشير الاحصائيات إلى قتل ٣٪ من نحو ١٠٠٠ مسيحي فلسطيني يعيشون في غزة على مدى أربعة أشهر من القصف، مع إصابة كثير من الجرحى وتشريدهم، ما دفع قادة المجتمع المحلي إلى إثارة المخاوف بشأن احتمال محو المجتمع المسيحي الفلسطيني بأكمله في غزة رغم أنهم يتوسلون للحصول على الدعم من مسيحيي العالم.
يرى المسيحيون، كما يرى المسلمون، في فلسطين أن الحرب الحالية على غزة هي استمرار لتاريخ طويل من الهجمات والقضاء على أي مجتمع فلسطيني ليس يهوديًّا سواء في غزة أو القدس أو الضفة الغربية. وبالفعل، نجح الاحتلال في تقليص أعداد المسيحين والمسلمين في مناطق عدة من فلسطين المحتلة مستخدمًا أساليب متعددة، منها الفصل العنصري والحصار في فلسطين، وقد سهله الترحيب الأكبر الذي قدمه عدد من الدول الغربية للمهاجرين الفلسطينيين -خاصة المسيحين- حتى يصبح صراع الاحتلال صراعًا دينيًّا لتتمكن من تصويره على أنها دولة يهودية محاصرة وسط عدد كبير من السكان المسلمين في الشرق الأوسط.
لقد أثبتت حرب غزة للمحتل أن المسيحيين في فلسطين لم يخافوا من آلة البطش والتقتيل والتحريق لدى جيش الاحتلال، بل تحدثوا للعالم، وكانت كلمتهم وخطبهم باسم فلسطين وشعب فلسطين ككل وعلانية، سواء أكانوا قساوسة أم منظمات مسيحية تدين الصمت الغربي "المسيحي" وتطلب مساندة كل ما هو فلسطيني بقطع النظر عن النوع أو العرق. لم يكن ولن يكون في فلسطين ما تمناه جيش الاحتلال من "وجود مسلم جيد" و"مسلم سيء" أو "مسيحي جيد" و"مسيحي سيء" حسب تصنيف الاحتلال ليكون مفيدًا له.
إن التمييز الرئيس بين الفلسطينيين لا يكمن في أية خصائص ثقافية أو دينية داخلية، بل في ما يتعلق بموقفهم تجاه الاحتلال وطبيعته القاتلة، وأن الأحكام الجيدة والسيئة تشير فقط إلى الهويات السياسية التي تفقد في الحروب، وليس إلى الهويات الثقافية أو الدينية. لقد أكدت الحرب على غزة أن العالم لا ينظر إلى شعوب العالم -خصوصًا في الشرق الأوسط- على قدم المساواة، فنحن لسنا بشرًا في عيونهم. وفي أعقاب انهيار أحدث الجهود المبذولة للتوصل إلى صفقة تبادل الأسرى مع حماس، وخطة الكيان المعلنة لمهاجمة رفح، وتصريحات وزير خارجيته، فهل لا يلوح في الأفق نهاية للحرب على غزة كما يزعمون؟ وهل لدماء غير اليهود والغربيين قيمة في عيون الزاعقين بحقوق الإنسان والدفاع عنها؟ الإجابة أظهر من أن تخفى؛ ومع ذلك سيطالعها العالم أجمع عيانًا في الأيام المقبلة...
وحدة الرصد باللغة اليونانية