المسلمون في الأرجنتين - نموذجٌ للتعايُش والمواطنة والإسهام

  • | الخميس, 5 يناير, 2017
المسلمون في الأرجنتين -  نموذجٌ للتعايُش والمواطنة والإسهام

تعتبر الأرجنتين إحدى أبرز الدول التي يعيش بها مسلمون في قارة أمريكا اللاتينية، وتعتبر هذه الدولة نموذجًا للتعايش بين الديانات كافة، وأرضًا خصبة لحوار الثقافات، ومن هذا المنطلق يحرص مرصد الأزهر على تسليط الضوء على هذه الدولة، وذلك في إطار متابعته لأحوال الجاليات المسلمة في العالم، وقد بدأت أولى موجات هجرة العرب إلى الأرجنتين –ضمن موجة عامة للهجرة إلى الأمريكتين- بين عامي 1850 و 1860. جدير بالذكر أن نسبة المسلمين بين هؤلاء المهاجرين كانت قليلة لا تتعدى 30%، حيث كان غالبيتهم من المسيحيين الذين نزحوا إلى هناك هربًا من بعض الإجراءات التي قامت بها الإمبراطورية العثمانية مثل التجنيد الإجباري وغيره. وتعتبر الأرجنتين ثاني أكبر دول أمريكا اللاتينية من حيث عدد المسلمين بعد البرازيل، حيث يبلغ عدد المسلمين بها حوالي 700 ألف يتبع غالبيتهم المذهب السني، بالإضافة إلى عددٍ لا بأس به من الشيعة وكذلك من العلويين والدروز والأحمدية.

الجدير بالذكر أنه لا توجد هيئة موحدة للمسلمين في الأرجنتين، كما هو الحال في إسبانيا مثلاً، رغم بعض المحاولات التي قام بها مسلمون لتحقيق ذلك، وهو الأمر الذي يعود بالسلب على أوضاع المسلمين بشكلٍ عامٍ، ولا سيّما فيما يتعلق بعدد المساجد؛ حيث إن وجود هيئة دينية ذات صبغة رسمية يساعد في المطالبة بحقوق المسلمين وحل مشكلاتهم والتصدي لمحاولات التشويه والاعتداء عليهم؛ فعلى الرغم من وجود مركز "سيرا" –وهو المركز الذي كان مرصد الأزهر قد أعد دراسة مستفيضة عنه- إلا إن المركز وحده لا يمكنه القيام بكل هذه الأمور، خاصة وأنه قد أُسس في الأصل لمساعدة القادمين الجدد من المسلمين إلى الأرجنتين.

وقبل نهاية القرن العشرين، وتحديدًا حتى عام 1989، لم يكن للمسلمين أية أنشطة عامة يُعرفون بها في الأرجنتين، ولكن منذ عام 1994 بدأت وسائل الإعلام تركز على تواجد المسلمين وعلاقاتهم بالمجتمع، ولكن الجانب السيء الذي ظهر آنذاك كان تسليط الضوء على فروق ومسميات مثل السنة والشيعة، ثم بدأ الحديث في وسائل الإعلام عما سُمي بـ"الإرهاب الإسلامي" والخلط بين المفاهيم واتهام المسلمين بالتزمّت والتطرف. ومع مرور الوقت ساهم المسلمون في الأرجنتين في تحسين هذه الصورة بسبب اندماجهم في المجتمع كمواطنين صالحين.

  • التعايش السلمي

تتميز الأرجنتين بحالة من التعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود، وهو ما يمكن أن يعزى إلى استقائهم للمبادئ الإنسانية وجعلها القاعدة الأساسية في حوارهم المجتمعي بغض النظر عن الدين والعرق. وتمثل الأرجنتين نموذجًا جيدًا يُحتذى به في هذا المجال، حيث يُعقد في العاصمة الأرجنتينية "بوينس آيرس" بين الحين والآخر وبصفة مستمرة لقاءات للحوار بين ممثلين عن الديانات من المسلمين والمسيحيين واليهود، يُظهر الجميع من خلالها قدرًا كبيرًا من التسامح. وتسهم هذه الملتقيات في ترسيخ قيم التسامح والسلام بين الأرجنتينيين في معاملاتهم اليومية وفي مجالات العمل.

من ناحية أخرى فإن القوانين الموجودة في الأرجنتين والخاصة بالأديان تضمن التعايش والحقوق لكل الطوائف والثقافات، ويعيش المسلمون في الأرجنتين مرحلة من الاندماج والتعايش مع ثقافات المجتمع وطوائفه ومعتقداته، كما تحرص المرأة المسلمة على ارتداء الحجاب والزي المناسب، وفي هذا السياق احتفل اتحاد النساء المسلمات بالأرجنتين ((UMMA باليوم العالمي للحجاب في العاصمة الأرجنتينية في فبراير الماضي، ويعكس هذا الاحتفال نضال المرأة المسلمة في سبيل الاحتفاظ بهويتها الدينية.

Image

فتيات مسلمات يتحاورن حول الحجاب في أحد البرامج في التليفزيون الأرجنتيني

  • نماذج إسلامية

وهناك نماذج كثيرة للمسلمين في المجتمع الأرجنتيني ممن لها إسهامات في خدمة الجالية الإسلامية، ومن أبرز هذه النماذج السيد عمر عبود، رئيس مركز حوار الأديان حاليًا ورئيس مركز سيرا سابقًا، والذي تربطه علاقات طيبة ببابا الفاتيكان، كما أن له إسهامات كثيرة في مجال حوار الأديان. ومن بين الشخصيات الإسلامية شخصية "أنيبال بشير بكير" نائب الرئيس الحالي لمركز سيرا، والذي يتمتع بظهور جيد في وسائل الإعلام الأرجنتينية، حيث يحاول بشكل مستمر توضيح الصورة الحقيقية للإسلام التي يجهلها الإعلام، والسيد "أنيبال فابيان" أمين رئيس المركز؛ وهما من أكثر الشخصيات نشاطًا فيما يتعلق بتمثيل المسلمين. ومن بين الشخصيات الإسلامية البارزة الشيخ محسن علي من مركز نشر الإسلام والشيخ عبد الله مدني الداعية الإسلامي وعضو الجمعية الأرجنتينية-الإسلامية، وهما من أبرز من يدعون إلى الحوار بين الأديان. وفي إطار الحوار بين الأديان تبرز "نانسي فالكون" المدير التنفيذي لمركز "ألبا" الدولي للحوار، والتي تعدّ من أهم نماذج حوار الأديان في الأرجنتين؛ وزوجها "أوجوستو كومفيتش" الذي ولد لأب يهودي وأم كاثوليكية، لكنه اعتنق الإسلام من خلال قراءاته.  

Image

على يسار الطاولة يظهر الشيخ عبد الله مدني والشيخ محسن علي في حوار إعلامي

ومن أهم النماذج الوطنية الإسلامية بالأرجنتين التكتل السياسي "مسلمون في المواجهة" والذي تأسس عام 2015 في الأرجنتين، ومن مبادئ هذا الحزب الدعوة إلى الحوار الوطني والثقافي والتفاهم بين الديانات والثقافات المختلفة، ويترأس هذا الحزب مارتين سعيد وهو محام مسلم يشارك باستمرار في الحوار الوطني السياسي. الجدير بالذكر أن هذا الحزب يضم شخصيات غير مسلمة لكن أغلبية أعضائه من المسلمين، وهو الأمر الذي يؤكد على روح التفاهم والمواطنة لخدم المجتمع والمشاركة الفاعلة في العملية السياسية داخل البلاد، ومن أبرز النماذج في هذا الحزب المحامي "مارتين أرياس دوبال" والمرشحة البرلمانية "سيسيليا ميرتشان".  

Image

صورة دعائية للتكتل السياسي "مسلمون في المواجهة"

  • تعامل الحكومة الأرجنتينية مع المسلمين

تتباين مواقف الحكومة والمسئولين في الأرجنتين في التعامل مع المسلمين، فعلى الرغم من حالة التعايش التي يتمتع بها المجتمع الأرجنتيني، إلا إن هناك بعض التجاوزات التي يقع فيها مسئولون من الحكومة، لكن السمة العامة هي احترام تعدد الثقافات. ففي لفتة طيبة من الجانب الأرجنتيني رحّبت المستشارة الأرجنتينية "سوزانا مالكورا" بعددٍ من المسلمين المدعوين لتناول الإفطار الجماعي لشهر رمضان الماضي بمقر الاستشارية بالعاصمة، وفي سياق متصل هنّأت الحكومة الأرجنتينية من خلال "الأمانة العامة للشؤون الدينية" المسلمين في الأرجنتين بذكرى المولد النبوي الشريف، ما يعكس تقدير واحترام وجود المسلمين واهتمام الدولة باحتفالاتهم، ويحيي مسلمو الأرجنتين ذكرى المولد النبوي الشريف كبقية مسلمي العالم من خلال مجموعة من الفعاليات والاحتفالات بالمساجد المختلفة بالبلاد. وعلى جانب آخر، أثارت تصريحات أحد المسؤولين داخل الحكومة الأرجنتينية يُدعى "لويس اسبيرانثا" العديد من الانتقادات، حيث كان قد كتب عبر موقع التواصل "فيسبوك" أنه يجب توجيه ضربات جوية إلى كل مكان به مسلمون، ثم تدارك الخطأ وخرج ليصرّح بأن كلماته قد أُسيء فهمها، وأنه كان يشير إلى الذين ينتمون إلى الجماعات الإرهابية ويرتكبون جرائم باسم الدين. وقد أرسلت الأمانة العامة لحقوق الإنسان والتعددية الثقافية بوزارة العدل الأرجنتينية ببرقية تضامن مع الجالية المسلمة إلى مركز سيرا أعربت فيها عن تضامن الحكومة معهم أمام كافة التصريحات العدائية التي تحض على العنف والكراهية.

Image

المستشارة الأرجنتينية تستقبل عددًا من المسلمين لتناول الإفطار خلال شهر رمضان

وكحال كل الجاليات المسلمة في العالم يواجه المسلمون في الأرجنتين بعض المشاكل التي تتعلق بتصريحات أو إجراءات تتخذها الحكومة ضد مصالح المسلمين. ومن المواقف السلبية للحكومة تعنتها في استخراج رخصة قيادة لفتاة مسلمة في مدينة "لا بلاتا" الأرجنتينية لأنها قدمت صورًا شخصية بالحجاب، وخاصمت الشابة موظفي البلدية أمام الهيئة القومية ضد التمييز وكراهية الأجانب، والتي رفعت الأمر إلى الأمانة العامة للمظالم بالعاصمة الأرجنتينية "بوينس آيرس". وفي النهاية تمكنت الفتاة من استصدار الرخصة بصورتها وهي محجبة، كما قامت مُضيفة مسلمة تُدعى "شاري ستانلي" بمقاضاة شركة الخطوط الجوية الأرجنتينية بسبب منعها من العمل بحجة رفضها تقديم المشروبات الكحولية للمسافرين، لذلك طالبت في دعواها باسترداد راتبها كاملاً وتعويضها عن الأضرار التي لحقت بها.

  • خاتمة

من خلال هذه النقاط يمكننا أن نؤكد أن البحث عن المثالية في المجتمعات متعددة الثقافات أمر مستحيل، لكن على أقل تقدير لا بُد أن تتحقق عملية الانسجام بشكل يرضي الجميع، وإن ظلت بعض حالات الإسلاموفوبيا تؤرق خاطر المجتمع الأرجنتيني خلال الفترة الأخيرة، لكن على أية حال يعتبر الوجود الإسلامي في الأرجنتين وجودًا مشرفًا بتعايشه وتميزه داخل هذا المجتمع، ويأمل مرصد الأزهر الشريف في أن تظل حالة السلام المجتمعي هي السائدة بين المسلمين وغيرهم في الأرجنتين ودول أمريكا اللاتينية.

وحدة الرصد باللغة الإسبانية

طباعة