حكم الاسترقاق في الإسلام

  • | الثلاثاء, 16 فبراير, 2016
حكم الاسترقاق في الإسلام

جاء الإسلام  في القرن السابع  الميلادي, والرق منتشر في العالم , متفشٍ في دنيا الناس , فتعامل الإسلام معه كواقع مفروض ؛ ولكنه مرفوض  , وقد كانت  مصادر الرق ومنابعه كثيرة عند ظهور الإسلام منها :الحروب , المدين إذا عجز عن سداد الدَّيْنِ، يكون
رقيقًا ، السطو والخطف ، الفقر والحاجة,
 بينما طرق التحرر ووسائله تكاد تكون معدومة, بل إن المصادر التاريخية تخبرنا بأن الرِّق كان أمرًا سائدًا عند الأمم السابقة, فقد كان منتشرًا عند قدماء المصريين, والبابليين , والبراهمة , والفرس , والروم , والعرب , وأقرته اليهودية , والنصرانية , واعترف به فلاسفة اليونان , وفقهاء القانون الروماني , حتى صار الرِّق من شئون العمران, وضروريات الحياة الاجتماعية.

    فلما جاء الإسلام جفَّف منابعه القديمة كلها فيما عدا منبعًا واحدًا لم يكن في وسعه أن يجففه منفردًّا،وهو الأسر في الحرب , وذلك من قبيل المعاملة بالمثل في الحروب تطبيقًا؛ لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (البقرة : 194) ؛وذلك  لأن أعداء الإسلام كانوا يعاملون أسرى المسلمين باعتبارهم أسرى حرب فيسترقون رجالهم , ويسبون
 نساءهم, فليس من حسن السياسة أن تشجع عدوك عليك بإطلاق أسراه، بينما أهلك وعشيرتك وأتباع دينك يقعون في الأسر تحت أيديهم يسومونهم العذاب , فالمعاملة بالمثل هنا هي أعدل قانون يُستخدم في الحرب .

ورغم أن مبدأ المعاملة بالمثل هو من البديهيات القانونية التي تتفق عليها كل المعاهدات الدولية والقوانين الإقليمية، إلا أن الإسلام العظيم جاء بما هو أكرم وأنبل , إذ أوجب أولاً معاملة الأسرى بالحسنى- تماما كالضيوف- طوال فترة الأسر،وذلك بإيثار
المسلمين للأسارى على أنفسهم على نحو غير مسبوق في العالم كله قال – تعالى - :
}
 وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا {  (الإنسان : 8).

 ثم أعطى إمام المسلمين خيارين لم يذكر سواهما في القرآن الكريم هما المَنُّ أو الفداء . قال تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] إما أن نطلق سراحه بدون مقابل، وإما أن نطلق سراحه في مقابل فدية معينة نأخذها منه، وقد تكون هذه الفدية مالا،
 أو عملا، أو غير ذلك مما فيه منفعة للمسلمين, وهذا أرقى ما وصلت إليه البشرية الآن .

بل إن الناظر في الإسلام نظرة تأمل وتدبر يجده جاء بالعتق , ولم يأت بالرق,  فليس في الإسلام أمرٌ باسترقاق الناس ، بل على العكس هناك أوامر  بتحرير الرقاب , وعتق العبيد , فلا يوجد نص من كتاب أو سنة  يأمر بالاسترقاق لا في حرب ولا في سلم, بينما تحفل آيات القرآن الكريم , وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم-  بالعشرات من النصوص الداعية إلى العتق والتحرير. فقد فتح الإسلام أبواب التحرير، وبيَّن سبل الخلاص، واتخذ وسائل شتى لإنقاذ هؤلاء من الرق بتوسيع أبواب الحرية من خلال النقاط  :

النقطة الأولي : العتق الإلزامي :

والمقصود بالعتق الإلزامي هو : أن يُلْزَم المكلف شرعًا بتحرير المملوك تكفيرًا عن مخالفة دينية أو مدنية ارتكبها  ومن صورها الآتي :

  1. جعل الإسلام العتق كفارة للقتل الخطأ قال – تعالى - :  } وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ {
     (النساء : 92)
  2. العتق كفارة للحنث في اليمين قال – تعالى - : }فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ{
    (المائدة : 89 )
  3. العتق كفارة في حالة الظهار قال – تعالى - : } وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا{ (المجادلة : 3).
  4. العتق كفارة الإفطار عمدًا في نهار رمضان بجماع , فعليه ما على المظاهر , ففي الصحيح عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً أَفْطَرَ في رَمَضَانَ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا" رواه مسلم .
  5. جعل الإسلام العتق يَلْزمُ باللفظ , ولو مزاحًا  كما نص الفقهاء ؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم :" من لعب بطلاق أو عتاق , فهو كما قال" رواه النسائي .
  6. من نذر أن يحرر رقبة وجب عليه الوفاء بالنذر متى تحقق له مقصوده ؛
    لقوله – تعالى- "
    } وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ{  (الحج : 29).

النقطة الثانية : العتق التطوعي :

معناه :أن يتطوع المُكلف المالك للعبد  مختارًا , فيعلن تخليه عن حقه في ملكية العبد دون مقابل , ويرد إليه حريته تقربًا إلى الله , وطمعًا في مرضاته .  ومن صورها الآتي:

  1. التقرب إلى الله بعتق الرقاب قال - تعالى  - : } فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ  { (البلد: 11-12-13) .  وجاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال: " عتق النسمة، وفك الرقبة ".فقال: يا رسول الله: أو ليسا واحدا؟ قال: " لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها " رواه أحمد. فهو طريق إلى رحمة الله وجنته يقول الله سبحانه
  2. أمر بمكاتبة العبد على قدر من المال إن أتى به يصبح حرًا قال – تعالى {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} (النور: 33) وهذه المكاتبة على سبيل الندب عند الجمهور .
    وذهب بعض العلماء إلى وجوبها .
  3. عتق المملوك كجزاء عن الإساءة الشخصية إليه ففي الصحيح عن ابن عمر – رضي الله عنهما - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ:" مَنْ ضَرَبَ غُلَامًا لَهُ حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ أَوْ لَطَمَهُ فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ" رواه مسلم. هذا باتفاق العلماء على سبيل الندب , قال القاضي عياض – رحمه الله - بعد ذكر هذا الحديث ما نصه :" أجمعوا على أن الإعتاق غير واجب، وإنما هو مندوب " .  فبينما كانت الشرائع القديمة تعاقب من يرتكب جرمًا معينا بالاستعباد نجد الإسلام يعاقبه بالتحرير .

 

النقطة الثالثة : تخصيص سهم من حصيلة الزكاة لتحرير العبيد

جعل الإسلام من مصارف الزكاة شراء الأرقاء وعتقهم قال – تعالى -  :
} إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ { (التوبة : 60)

 وبهذه الخطوات الحثيثة , والتدرج الراقي الواعي يتبصر كل عاقل كيف مضى الإسلام قُدما في طريق منع الرق , وإنهاء العبودية معتمدًا على حكمة التدرج في معالجة
 القضايا , شأنه شأن الكثير من التشريعات  . وعندما وصل العالم إلى مرحلة متقدمة استنكر فيها نظام الرق، وطالب بإلغائه, وذلك  من خلال  مؤتمر(فيينا عام 1815)  والتي أقرت – أولا - في الدول الأوربية منع الاتجار بالبشر ، إلى أن تم الاتفاق في مؤتمر (جنيف  ) في 7-1956م على تحريم وتجريم  تجارة العبيد والرِّق,  لم يستنكر ذلك أحد من المسلمين، بل بادروا بتطبيق إعلان إلغاء الرق والعبودية، مع أنهم ثلث سكان العالم،لأن المسلمين يعلمون أن دينهم يدعو إلى تحرير الإنسان واحترام آدميته –وقد سبقت الإشارة إلى ذلك من خلال النصوص السابقة .

ولذلك فما يقع من بعض التنظيمات الخارجة على القانون والأعراف  من أسر النساء وأخذهن سبايا حرب, هو من قبيل العمل بما لم ينزله الله ,وهو  محرَّم شرعًا ,وسلوك مناقض للشريعة الإسلامية , ومما يزيد من جرمه وبشاعته ووقاحته أنهم يمارسون هذا السلوك الجاهلي باسم الإسلام , وتحت عباءة ما يزعمون من إعلان الخلافة الوهمية  , ولذلك يقال لهؤلاء ومن لفَّ لفَّهم, وما دار في فلكهم  ما قاله الإمام القرافي – من علماء المذهب المالكي - :} إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد – الأعراف  -مع  تَغْيِير ِتلك العوائد ، خلاف الإجماع وجهالة في الدين ، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد يَتَغَيَّرُ الحكم فيه عند تغيّر العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة.... وكذلك جميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد  {([1]) . وقد تغيرت الأعراف والعادات السياسية والدولية في أيامنا هذه في التعامل مع أسرى الحرب عمومًا , ومع الاسترقاق على وجه الخصوص , وفقًا لما أشرنا إليه من خلال المعاهدات([2]), والاتفاقيات الدولية المتفقة مع منهج الشريعة الإسلامية في حظر الاسترقاق ,ومن ذلك ما جاء في  قرار مؤتمر (جنيف) المنعقد  عام 1956م والقاضي بمنع مشروعية الرِّق ومحو آثاره والقضاء عليه , ومنع الاتجار بالبشر , فالعالم اليوم يعيش في واقع جديد مغاير للأزمنة
الماضية ,واقع  يُشَجِّع على تحرير الإنسان من العبودية , وإنهاء الاسترقاق , فالواقع التاريخي الذي أعطى  للمسلمين حق استرقاق أسرى العدو إنما كان من باب المعاملة بالمثل , وبعد أن وقَّع المسلمون على الاتفاقيات الدولية لمنع الرق ومحو آثاره , أصبح الوفاء بهذه المعاهدات واجبًا ملزمًا ما لم ينقضه الخصوم , قال – صلى الله عليه وسلم  :" مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحُلَّنَّ عَهْدًا، وَلَا يَشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ" رواه الترمذي .

وقد أكَّدت النصوص في الكتاب والسنة على وجوب الالتزام بالعهد , قال –
تعالى- :
} وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ{ (النحل :91) , وقوله : } وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا{ (الإسراء : 34) فالأصل أن الشريعة الإسلامية تحث على التعاون على كل بر وخير,ونهى عن التعاون أو التحالف على كل إثم أو عدوان قال – تعالى - :
} وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ{(المائدة : 2) ,ونهت الشريعة عن نقض العهد بعد توثيقه وتأكيده, واعتبرت نقض العهد خيانة لا يحبها الله قال – تعالى - :} إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ{
(الأنفال : 58) ومن أعظم صور التعاون ما يحقق أهم مقاصد الشريعة الإسلامية , وهو إنهاء الرق من خلال الاتفاقيات الدولية , وليس أدل على ذلك من حلف الفضول الإنساني الذي عقد في الجاهلية بحضوره  - صلى الله عليه وسلم لحماية الفضيلة , ورعاية الجار,  وإكرام الضيف, وعدم سفك الدماء, ونصرة المظلوم . حيث قال – صلى الله عليه وسلم" لقد دعيت إلى حلف في الجاهلية "حلف الفضول" لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت" فهذا الحديث  يبين بجلاء أنه إذا وجد المسلم سبيلا إلى إنشاء أو المشاركة في مؤسسات ذات هدف أخلاقي, أو مبدأ إنساني، أو قصد إصلاحي يجب أن يبادر المسلم إليه, وفقا لآية التعاون على البر والتقوى .

ومن ثَمَّ فالشريعة كان لها الفضل , وهي صاحبة السبق في تقرير حريات الإنسان المختلفة حيث لم يسبقها إلى ذلك أي تشريع سماوي , ولا وضعي , وقد تضمنت الشريعة حقوقًا وحريات لم تتضمنها قوانين , ولا دساتير الدول المتمدنة , ولا قرارات , ولا إعلانات المنظمات الدولية المختلفة .

 

 

 

([1])انظر : الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص218

([2] ) يقصد بالمعاهدات الدولية في اصطلاح القانونيين : "اتفاق دولتين أو أكثر لتنظيم علاقات بينهما " أو " وهي الاتفاق الذي يعقد بين دولتين أو أكثر لتنظيم علاقات قانونية أو دولية , وتحديد القواعد التي تخضع لها "  الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام .د/ على منصور . ص: 370.

طباعة
كلمات دالة: