اندماج المسلمين في المجتمع الإسباني: نماذج مضيئة

  • | الأربعاء, 18 يناير, 2017
اندماج المسلمين في المجتمع الإسباني: نماذج مضيئة

مما لا شك فيه أن الإسلام ليس دينًا غريبًا على أوروبا؛ بل إنه يمثل إرثًا تاريخيًا لا يزال واضح الأثر في إسبانيا وصقلية وجنوب فرنسا وغيرها، وكذلك في بلدان أوروبا الشرقية التي تضم نسبة عالية من المسلمين من السكان الأصليين، وفي الوقت الحاضر يحمل معظم المسلمين الموجودين في أوروبا جنسية البلدان التي يقطنون بها، حتى أجيالهم الجديدة؛ فالإسلام دين أصيل في هذه المناطق ويشكل جزءًا من حضارة هذه البلدان وثقافتها وهذا أمر لا مراء فيه.
وتُعد قضية اندماج المسلمين في أوروبا إحدى أهم القضايا المطروحة في الوقت الحالي، وتُثار حولها الكثير من التساؤلات والجدل، ويمكننا أن نُرجع ذلك لسببين: الأول هو النظرة الأوروبية التي تربط الإسلام بالإرهاب، خاصة بعد العمليات الإرهابية الأخيرة المتلاحقة في بعض البلدان الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا وبلجيكا؛ الأمر الذي يؤثر سلبًا على حياة المسلمين في أوروبا بما في ذلك إسبانيا، والأمر الثاني يتمثل في أزمة اللاجئين الذين فرّوا من مناطق النزاع في سوريا والعراق.
وفي حقيقة الأمر فإن الاندماج لا يتعارض مطلقًا مع الحرية الدينية، حيث إن الدستور الإسباني قد كفل حق ممارسة الحرية الدينية في المادة رقم 1/16 والتي نصت على "ضمان الحرية الفكرية والدينية وممارسة الشعائر الدينية للأفراد والجماعات دون تقييد" واقرت المادة أيضًا أن "المعتقدات الدينية لا تمثل سببًا في عدم المساواة أو التمييز لفئة معينة على حساب فئة أخرى أمام القانون". ووفقًا للدراسة الأخيرة الخاصة بتعداد المسلمين في إسبانيا، والتي أعدها "اتحاد الجمعيات الإسلامية في إسبانيا" فإن المسلمين يمثلون حوالي 4% بما يقرب من مليوني نسمة من إجمالي عدد السكان؛ فالمسلمون يشكلون جزءًا من المجتمع الإسباني ويندمجون معه على اختلاف معتقداته وأطيافه وأعراقه؛ وهذا بفضل تحدثهم الإسبانية ومشاركتهم الإسبان في القضايا العامة، والتي تشغل بال الجميع باعتبارهم جزءاً أصيلاً من المجتمع الإسباني.    
وفيما يخص المجالات الحيوية، فيلعب المسلمون دورًا مهمًا في مختلف قطاعات العمل العامة منها والخاصة، ويؤدون دورهم باحترافية شديدة ويشغلون مناصبَ عليا في هذه القطاعات، وفي المجال الاقتصادي يسيطر المسلمون بقدر غير قليل على صناعة المنتجات "الحلال" في الأماكن العامة، وفي المجال التعليمي يشارك المسلمون في تدريس الإسلام في المراكز العامة وفي المدارس أيضًا بمراحلها التعليمية المختلفة. وعلى نفس المنوال يشغل المسلمون جزءًا لا يُستهان به في المجال السياسي؛ وذلك من خلال تأسيسيهم أول حزب مسلم في إسبانيا عام 2009 تحت اسم "حزب النهضة والاتحاد بإسبانيا".    

Image
 

"حزب النهضة والاتحاد بإسبانيا" أول حزب مسلم في إسبانيا


ومن هذا المنطلق يجدر بنا أن نشير إلى بعض النماذج المضيئة للمسلمين في إسبانيا؛ بهدف إبراز قدرتهم على الاندماج في المجتمع الإسباني، ومن بين هذه النماذج نذكر "هاجر قاسمي"، وهي فتاة مسلمة من أصول مغربية تقيم في مدينة "مرسية" وتبلغ من العمر 18 عامًا، والتي حصلت على إحدى "الجوائز الوطنية للشباب" لعام 2015؛ وذلك لإسهاماتها في الحوار الثقافي بين الشرائح والأطياف المجتمعية المختلفة في إسبانيا، وقد تسلمت الجائزة من "سُريّا سانشيز دى سانتا ماريا" القائمة بأعمال نائب رئيس الوزراء الإسباني.     

Image

"هاجر قاسمي" صاحبة الجائزة الوطنية للشباب في إسبانيا


وكنموذج آخر، نجد "رياج ططري" الأمين العام للمفوضية الإسلامية ورئيس "اتحاد الجمعيات الإسلامية في إسبانيا" وعضو اللجنة الدائمة للدفاع عن الحرية الدينية بوزارة العدل الإسبانية، فله العديد من الأنشطة الاجتماعية والدينية مختلفة. وفي الأصل فإن "ططري" هو طبيب من أصل سوري يحمل الجنسية الإسبانية وهو المتحدث باسم المسلمين في إسبانيا ويتحمل مسئولية المطالبة بحقوقهم العامة والدينية أمام الحكومة الإسبانية، كما أنه يعمل على تعزيز الفكر الوسطي ويشجع على الحوار بين الأديان والثقافات المختلفة.
وفي المجال الرياضي، أثرى المسلمون الحقل الرياضي الإسباني بالعديد من اللاعبين الذين قدّموا نموذجًا مشرفًا على المستويين الاحترافي والأخلاقي، ونذكر من بينهم لاعب كرة القدم المالي-الفرنسي "فردريك كانوتيه" والذي لعب في نادي "إشبيلية" الإسباني من عام 2005 حتى عام 2012 وحصد مع الفريق 6 بطولات، ومثّل "كانوتيه" خلال فترة وجوده في إسبانيا نموذجًا للمسلم الملتزم بقيم الإسلام في أخلاقه، كما كانت له مشاركات في أنشطة رياضية واجتماعية ودينية.   
وكنموذج مشرف آخر، نبرز "منصور إسكوديرو"، وهو طبيب نفسي وناشط إسلامي إسباني، ساهم بنصيب كبير في إدماج المسلمين في النسيج السياسي والديني والمجتمعي في إسبانيا. وقد أسس "إسكوديرو" أول جمعية إسلامية إسبانية عام 1980 تحولت بعد ذلك إلى "الاتحادات الإسبانية للكيانات الدينية الإسلامية". وفي عام 1989 كرّس جهوده لتنظيم وجود المسلمين في إسبانيا وجعله في شكل مؤسسي عن طريق إنشاء "المفوضية الإسلامية في إسبانيا" والتي ترأسها حتى عام 2006.    
وكما ذكرنا آنفًا، فإن هذه النماذج من شأنها إبراز مدى فاعلية وجود المسلمين في المجتمع الإسباني وتأثيرهم الملحوظ في تكوينه وإسهاماتهم في المجالات كافة؛ وهذا بالطبع يؤكد على قدرة المسلمين على الاندماج عكس ما يُروَج في الوسائل الإعلامية الغربية المختلفة. كما أن هذه النماذج تمثل أهمية كبرى في دحض الافتراءات التي تزعم أن المسلمين غير قادرين على الاندماج مع الأوروبيين بسبب الاختلاف الديني والثقافي. وتجدر الإشارة إلى أن غالبية المسلمين في إسبانيا يقدمون نموذجًا جيدًا للمسلم الحقيقي المطبق لتعاليم الإسلام في حياته اليومية، ولا ننكر أنه في الوجهة المقابلة توجد نسبة من المسلمين تشذ عن هذه القاعدة إلا أنها نسبة ضئيلة لا تمثل غالبية المسلمين ولا القيم الحقيقية للإسلام.  
ويكرّس مرصد الأزهر باللغات الأجنبية جهدًا كبيرًا للقضاء على الصورة الخاطئة التي تربط بين الإرهاب والمسلمين، كما يعمل على تصحيح المفاهيم المغلوطة التي تنشرها الجماعات والحركات المتطرفة باسم الإسلام، وفي هذا الصدد بالتحديد يقوم المرصد بحملات توعوية من بينها حملة تصحيح المفاهيم الأخيرة التي انطلقت تحت عنوان "يدّعون ونصحح"، حيث احتوت على ثلاثين رسالة للتعريف بصحيح الجهاد في الإسلام وتم نشرها بثمانِ لغات أجنبية. كما يقوم المرصد بتسليط الضوء على النماذج الإسلامية المؤثرة في مجتمعاتها المختلفة واسهاماتها الدينية والاجتماعية والتي يُهمّش دورها وذكرها في كثير من وسائل الإعلام المتعددة. ومن خلال الرؤية التاريخية للإسلام في إسبانيا يمكننا أن نؤكد على أن المسلمين قد تركوا بها إرثًا مجددًا ومتطورًا في المجالات العلمية والمعمارية والاجتماعية والدينية وكذلك الإنسانية، وهذا الإرث يلقى على عاتق المسلمين المعاصرين الموجودين في إسبانيا مسئوليًة كبيرًة في تقديم الصورة الحقيقية للإسلام وأن تتجسد تعاليمه في سلوكياتهم ومعاملاتهم المختلفة.


وحدة رصد اللغة الإسبانية

 

 

طباعة