(موقف الإسلام من تحديد الهوية الدينية للدولة والنص عليها في الدستور)

  • | الأحد, 10 يناير, 2016
(موقف الإسلام من تحديد الهوية الدينية للدولة والنص عليها في الدستور)

بسم الله الرحمن الرحيم

يجدر بنا قبل الشروع في بيان الموقف الصحيح في هذه القضية أن نقف على تحديد معاني المصطلحات التالية : الهوية ـ الدين ــ الدستور .

أولا الهوية : هذه الكلمة نسبة غير قياسية للفظ "هو هو" ، والهوية بالمعنى الفلسفي تعني حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره، فرداً كان أو جماعة .

ثانيا : الدين، ومعناه العام في عالم الناس:  ما يعتنقه الإنسان من أفكار ومعتقدات تحكم سلوكه ويخضع لها. أمّا الدين في المنظور الإسلامي فهو الشريعة والمنهج الذي يحكم جميع جوانب الحياة .

ثالثا : الدستور : وهو مجموعة القواعد العليا التي تُحكم بها الدّولة، فهو أشبه بالعقد الاجتماعي بين الحاكم والرّعية، تحدد فيه القواعد الكلية لنظام الدولة، مثل اسم الدولة الرسمي و ديانتها الرسمية، و نوع الحكم فيها ، و طريقة تشكيل الحكومة و البرلمان، و تحديد سلطات الدّولة و حقوق المواطنين و واجباتهم و ما إلى ذلك.

وبعد تقرير هذه المصطلحات ننتقل إلى حكم تحديد الهوية الدينية للدولة في دستورها :

إن طبيعة نظم الحكم التي فرضها التقدم الإنساني اقتضت أن يكون لكل دولة دستورا تحدد فيه هوية الدولة التي تميزها بين الدول، والأطر العامة لنظام الحكم الذي تتبناه هذه الدولة ، ولأن للدين دورا هاما في إعلان هوية الدولة. فإن قضية الدين في الإسلام ليست قضية هامشية في حياة الفرد أو المجتمع ، بل الدين في الإسلام يمثل المحور الرئيس الذي ترتكز عليه كل حياة الإنسان ، قال الله تعالى: ﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ [البقرة: 138] فالصبغة هي الهوية، والهوية عند المسلمين هي الإسلام، لأن الإسلام يصبغ الإنسان بصبغة خاصة في عقيدته وفكره ومشاعره وتصوراته وآماله وأهدافه وسلوكه وأعماله ، قال القرطبي في تفسيره للآية السابقة: (فسمى الدين صبغة استعارة ومجازاً حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب) تفسير القرطبي (2/ 144)، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} الأنعام:162 .

ولما كان الواقع تاريخيا وإحصائيا أن الإسلام في مصر هو الدين صاحب الأغلبية، فإنه استقر عنوانا لهوية الدولة منذ القدم، إلا أن بعض الناس يجادلون في هوية مصر الإسلامية‏,‏ ومن ثم يمتعضون من النص الدستوري‏:‏ دين الدولة هو الإسلام‏ ، وكثير من هؤلاء المعترضين يجهلون أن هذا النص ليس بدعة إسلامية وإنما هو أمر معروف  لدي العديد من الدول غير الإسلامية ذات الأغلبية المسيحية, وعلي سبيل المثال  :

1 ــ في المادة الثانية من دستور النرويج نص علي أن الانجيلية اللوثرية ستظل الدين الرسمي للدولة ويلتزم السكان المعتنقون لها بتنشئة أولادهم بموجبها.

2-  وفي إنجلترا أقر البرلمان مختلف النظم الأساسية التي تعد القانون الأعلى ، والمصدر النهائي للتشريع (أي الدستور القانوني), وجاء فيه: إن كنيسة انجلترا هي الكنيسة المعترف بها, وإن العاهل الانجليزي بحكم منصبه ــ هو الحاكم الأعلي لكنيسة انجلترا. وهو متطلب مقرر في قانون التسوية لعام 1701م, بأن ينضم كنسيا لمجتمع كنيسة إنجلترا وكجزء من مراسم التتويج يطالب العاهل بأن يؤدي القسم بالحفاظ علي التسوية المبرمة مع كنيسة إنجلترا, وأن يحفظها بدون خروقات, كما يحفظ العقيدة والشعائر والنظام وطرق إدارتها وحكمها, وذلك بموجب القانون الذي تم إقراره في إنجلترا. وذلك قبل التتويج بواسطة الاسقف الأعلي للكنيسة رئيس أساقفة كانتربري.

3 - وفي إسبانيا الكاثوليكية ــ ينص الدستور ــ في المادة 16 ــ على أنه على السلطات العامة أن تأخذ في الاعتبار المعتقدات الدينية للمجتمع الإسباني, والحفاظ علي علاقات التعاون المناسبة مع الكنيس.

4 - أما اليونان ــ الأرثوذكسية ــ فإن الدستور يفصل في ذلك كثيرا, وذلك عندما ينص ــ في المادة الثانية من القسم الثاني علي:

أ ــ أن الديانة السائدة في اليونان هي ديانة كنيسة المسيح الارثوذكسية الشرقية والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية, والتي تقرر. وتتخذ من يسوع المسيح رأسا لها, كما تتحد مع كل كنيسة تدين بنفس العقيدة بقدر التزامهم في المقابل ودون أي شك أو مماراة بالشرائع والتقاليد الرسولية والمجامع المقدسة, وهي كنيسة مستقلة يديرها المجمع المقدس للأساقفة العاملين والمجمع المقدس الدائم المنبثق عنه, والمشكل علي النحو المحدد في الإجراءات القانونية الملتزمة بالإعلان البطريركي الصادر في 29 يونيو سنة 1850م, والقانون الخاص بالمجلس الكنسي الصادر في سبتمبر سنة.1928

ب ــ ولا يعتبر النظام الكنسي الموجود في مناطق معينة من اليونان مناقضا للأحكام الواردة في الفقرة السابقة.

ج ــ ويجب الحفاظ علي نص الكتاب المقدس دون تحريف.. وتحظر الترجمة الرسمية للنص  وللآية إلى لغة أخري دون موافقة مسبقة من الكنيسة المستقلة لليونان.

لذلك فالنص على الهوية الدينية في الدستور المصري، أمر لا يدعو إلى القلق من بعض فئات المجتمع. فإن الإسلام قد حمى الأقليات الدينية حماية تامة قبل أن يعرف الناس القانون الدولي أو منظمات حقوق الإنسان ، وبدون رفع دعوى لمجلس الأمن أو محكمة الجنايات الدولية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما . صحيح البخاري (3/ 1155)

ولما وقعت جريمة سرقة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم واتهم فيها يهودي ظلما وعدوانا نزلت عشر آيات من القرآن الكريم لتبرئ ساحة اليهودي ، بل وتهدد المجتمع الذي تغيب فيه الحقيقة ويتهم فيه برئ حتى ولو كان كافرا قال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) } [النساء:من  105 ــ  إلى 114]

وهذا سجلّ قرآنيّ لا يتبدل، مما يؤكد أن الإسلام قد أنصف غير المسلمين على اختلاف مللهم، بل وامتدحهم بنص القرآن الكريم، قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } العنكبوت:46، وقال أيضا: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} المائدة: 82، وبهذا المنهج استقر في وعي المسلمين بمصر البر بغير المسلمين، إعمالا لنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، بل إن الإسلام لم يكتف بالنهي عن إيذاء غير المسلمين وإنما فتح الباب لتنمية العلاقات الاقتصادية والاجتماعية حيث أمر بالمودة وبذل المعروف فقال تعالى {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]

ثم تدعيما لتواصل الرحم بين المسلمين وأهل الكتاب، أحل الله عز وجل زواج المسلم بالكتابية لإنشاء علاقة مصاهرة توطد العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وغير المسلمين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الآية، المائدة:5.

وللحق فإن الواقع في مصر يشهد أن هناك من غير المسلمين من يلجأ لتحكيم الشريعة الإسلامية رفعا للخلاف وتأسيسا على النص الدستوري: أن الإسلام هو دين الدولة وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع.

فهذا النص يخدم غير المسلمين كما يخدم المسلمين، لذلك كان عنوان الهوية الإسلامية لمصر ثابتا لا ينازع.

أما استدعاء البعض لفترات الصراع في التاريخ بين المسلمين وغيرهم، فإن هذا الصراع كانت له ظروفه التاريخية وأحداثه إنما هي بنت بيئتها وسياقها التاريخي، والإسلام لا يُحكم عليه إلا من خلال نصوصه القائمة على السلم العام والوفاء بالعهود والأمان، عملا بنصوص القرآن الكريم، قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} البقرة:208، وقال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الأنفال:61.، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} النحل:91، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} الإسراء: 34.

 

طباعة
كلمات دالة: