إسبانيا تحتفل بسقوط الأندلس رغم دعاوى "لا للسقوط"

وحدة رصد اللغة الإسبانية

  • | السبت, 9 يناير, 2016
إسبانيا تحتفل بسقوط الأندلس رغم دعاوى "لا للسقوط"

في مدينة غرناطة، وبين البقايا الإسلامية للمدينة التي تحمل جدرانها "لا غالب إلا الله"، احتفل الإسبان منذ أيام، وبالتحديد في الثاني من شهر يناير بالذكرى رقم 524 لسقوط المدينة الإسلامية في يد الملكين الكاثوليكيين فريناندو وإيزابيلا.

كانت غرناطة الأندلسية مدينة مزهرة اشتهرت بحدائقها الغناء بالرمان، وهو سبب تسميتها، حيث إن كلمة granada الإسبانية التي اشتق منها اسم غرناطة تعني "الرمان". وغرناطة هي آخر معاقل المسلمين في الأندلس، حيث سقطت عام 1492م؛ بعد أن استمر حكم المسلمين لها نحو ثمانية قرون منذ فتحها في عام 711م، وهي فترة حمل فيها المسلمون إلى الأندلس -ومنها إلى أوروبا كلها- علوم الدنيا.

وكما هو معتاد في التاريخ منذ الأزل، عندما تسود الفتن الداخلية والانقسامات والضعف في أمة ما فإن هذا يعني هزيمتها الماحقة، وهو ما حدث في الفترة الأخيرة من حكم المسلمين للأندلس. فبينما اتحد ملوك أوروبا في حروبهم ضد مسلمي الأندلس، كان هؤلاء تائهين في انقسامهم إلى طوائف، لكل طائفة ملكها؛ وهو ما سهل على الأوروبيين مهمتهم في "استرداد" إسبانيا جزءا بعد جزء، من الشمال حتى أقصى الجنوب. مع سقوط ممالك الطوائف واحدة تلو الأخرى ظلت غرناطة صامدة لمدة قرنين من الزمان، حتى حاصرها الملكان الكاثوليكيان ما يقرب من ثمانية شهور عانى فيها أهلها أشد معاناة حتى اضطروا لأكل الخيول والقطط، لينتهى الأمر بأبي عبد الله الصغير إلى أن يعقد صلحا مع الملكين الكاثوليكيين يقتضي تسليمه للمدينة بشرط الحفاظ على أرواح المسلمين وعقيدتهم. وفي الثاني من شهر يناير عام 1492 سلم أبو عبد الله مفاتيح المدينة إلى فرناندو وإيزابيلا الذَين لم يلبثا في نقض العهد وإقامة محاكم تفتيش لاقى آخر من كان من المسلمين في الأندلس بسببها صنوف العذاب من قتل وإحراق وإخراج من الديار. وعلى تلَّة لا تزال تعرف للآن في إسبانيا باسم "زفرة العربي" وقف أبو عبد الله يبكي ملكه الذي ضيعه، وقالت له أمه عائشة الحرة جملتها المشهورة:" فلتبك الآن كالنساء ملكا لم تحافظ عليه كالرجال".

كان هذا الاحتفال يتم داخل الكنيسة حتى عام 1873، تاريخ أول جمهورية في إسبانيا، عندما خرج الاحتفال من أسوار الكنيسة إلى الشوارع وإلى دار بلدية غرناطة. وقد استمر الاحتفال في إسبانيا بلا خلاف عليه حتى بداية التسيعنيات من القرن الماضي، عندما انطلقت الأصوات الداعية إلى منعه لكونه احتفالا بنقطة سوداء في تاريخ إسبانيا عندما أخرج ملكاها الشعب من أرضه وقتلا من أصر على ديانته.

يبدأ الاحتفال عادة بصلاة في الكنيسة يرأسها الأسقف الذي يضع بعدها إكليلا من الغار على مكان الاحتفاظ برفات الملكين الكاثوليكيين في الكنيسة الملكية، ثم تخرج الجموع بعدها في مسيرة حتى تصل إلى مبنى بلدية غرناطة، حيث يقف أصغر مستشاريها سنا في شرفة المبنى مرتديا القبعة التقليدية المشهورة ويحمل الراية التي رُفعت في غرناطة بعد سقوطها ويلوح بها على ألحان أغنيات الاحتفال التقليدية التي يعزفها المشاركون في الأسفل. ومنذ أعوام قليلة تم إدخال شخصية مسلمة تشارك في الاحتفال بدعوى أنها تمثل الاندماج  والتسامح المجتمعي في هذا الاحتفال.[1]

أما في احتفال هذا العام، والذي جرى –كما ذكرنا- في الثاني من الشهر الجاري فقد نزلت المعارضة إلى الشارع لعمل فعاليات مضادة لفعاليات الاحتفال التي تجريها بلدية المدينة ومعها ممثلون عن الحزب الحاكم، بالإضافة إلى الصراع الذي نشأ على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، حيث أصبح هاشتاج "لا للسقوط" واحدا من الأكثر انتشارا  ذلك اليوم.

بينما نزل حوالي ألفي شخص للاحتفال بالذكرى بالرغم من سوء الأحوال الجوية، نزلت مجموعات من المعارضين مثل  المؤسسة الأوروعربية، ومجلس إقليم أندلوثيا الذي أعلن دعمه لمنصة "غرناطة المفتوحة" للتنديد بهذا الاحتفال. وبدءا من الساعة الحادية عشرة وقف الفريقان في مواجهة لم تؤدِ إلى أي حوادث، لكنها وصلت إلى حد تبادل الشتائم حتى وقت انتهاء الاحتفال في الثانية ظهرا. وقد رفع المعارضون لافتات مناهضة للاحتفال مثل "لا للاحتفال" و "2 يناير، عندما قضت قشتالة على غرناطة" "لا للاحتفال لا للفاشية"؛ كما وصفت منصة "غرناطة مفتوحة" بأنه يدعو إلى الفوضى ولا يتماشى مع ديمقراطية القرن الحادي والعشرين ويكسر التعايش الديمقراطي بين الشعوب.[2]

جدير بالذكر أن الثاني من يناير هو اليوم القومي لغرناطة، وقد طالب المعارضون في مظاهراتهم  باستبداله بيوم 26 من مايو، وهو يوم إعدام ماريانا بينيدا المحكوم عليها بالإعدام في غرناطة بسبب رفعها شعارات تدعو للحرية. كما ردد المعارضون أشعار الشاعر والأديب جارثيا لوركا الذي كان أيضا يرفض الاحتفال بهذا اليوم، على خلفية من بعض المقطوعات الموسيقية وعرض فيلم رسوم متحركة يحكي سقوط المدينة.[3]

كما شهد موقع التواصل الاجتماعي تويتر صراعا حادا بين مؤيدي ومعارضي الاحتفال، فبينما غرد بعض المؤيدين "أنه لولا السقوط لظل الإسلام حاكما علينا" و "يجب أن تتخلص إسبانيا من المسلمين الآن كما تخلصنا منهم حينها"، غرد كثير من المعارضين بأنهم "لا يؤيدون الاحتفال بإبادة الشعوب وبالفاشية".[4]

ومن أشهر التغريدات التي أثارت جدلا حول هذا الاحتفال على موقع تويتر تغريدة لحزب بوديموس اليساري المعتدل المعارض وصف فيها الاحتفال بأنه "إبادة ضد الأندلسيين ويجب أن تجرم هذه الاحتفالات الفاشية ويجب أن تقدم الاعتذارات"[5]. وقد لاقت هذه التغريدة رفضا وسخرية لاذعة من مؤيدي الاحتفال، الذين  سخروا من اعتراض الإسبان على أمر لم يعترض عليه المسلمون في المدينة بدليل المشاركة الرمزية للشخصية المسلمة التي أضيفت مؤخرا إلى الاحتفال، وهي ذريعة لا نعتبرها صحيحة حيث صرّحت الجماعة الإسلامية بإسبانيا على لسان سيدي كريم كارلوس أن إضافة هذه الشخصية الرمزية التي تشعره بالاختناق "مزحة ثقيلة" وطالب بوقفها في الحال، وقارن بين سقوط غرناطة واحتلال فلسطين.[6]

 

أما على الصعيد الرسمي، فقد ذكرنا مشاركة ممثلين عن الحزب الحاكم في الاحتفال، وقد وصف أسقف غرناطة خابيير مارتينيث هذا الاحتفال بأنه يدل على "إنسانية" الملكة إيزابيلا التي "أنهت حربا بطريقة رائعة وأجلست المنتصر والمهزوم على طاولة واحدة"[7]؛  كما صرح مستشار الثقافة في بلدية عاصمة غرناطة،الذي حمل الراية هذا العام، بأنه فخور بحمله الراية وتلويحه بها وأن هذا "تقليد جميل". وكذلك وصف تورّيس أورتادو حاكم غرناظة الاحتفال بأنه حدث تاريخي يعزز المودة بين الغرناطيين الذين ساروا في مسيرة الاحتفال حتى نهايتها. أما المتحدث الرسمي باسم الحكومة الإقليمية خوسيه تورينتي فقد قال إن الاحتفال "يؤكد الاعتزاز بتقاليدنا المستمرة منذ خمسة قرون ونحن نؤمن بهذه التقاليد كمحفز ثقافي وتاريخي فريد للمدينة". كما طالب كل من "وفد غرناطة" و"مؤسسة غرناطة تاريخيا وثقافيا" بتسجيل هذا اليوم وإدراجه كتراث غير مادي لليونسكو وقدمت المؤسسة طلبا بذلك لمجلس الشيوخ.[8]

لا شك أن سقوط غرناطة في نهايات القرن الخامس عشر هو حدث موجع للمسلمين، إلا أن هذا السقوط لم يكن وليد اللحظة، بل كان مرتبطاً بالضعف التدريجي لدولة المسلمين. أما قضية الاحتفال فهي مسألة أشبه ما تكون بصراع حضاري مقيد بهذه الأحداث التاريخية، لاسيما وأن الإسبان يعتقدون أن معركة استرداد الأندلس بقدر ما استغرقت من زمن تستحق الاحتفال. وإننا لنرى أن هذا التاريخ لا يجب أن يخلد كيوم احتفال في إسبانيا وإنما نظنه عارا على دولة أوروبية تردد شعارات التعايش والتسامح، ثم تحتفل بيوم أُخرج فيه أشخاص إسبان من منازلهم وأجبروا على ترك دينهم. فبعد ثمانية قرون من دخول الإسلام لإسبانيا لم يكن السكان المسلمون عربا وإنما كانوا مسلمين إسبان، من آباء وأجداد إسبان. أما إن كان احتفالهم بانتهاء حكم المسلمين في مثل هذا اليوم الذي جعلوه يوما قوميا لمدينتهم الجميلة، فإننا نقول لهم إن هذه المدينة ما كانت لتصل إلى هذا القدر من الجمال والعظمة لولا المسلمين الذين طوروا في الأندلس فنون العمارة والبناء والزراعة والفلك التي يفخر الإسبان بنقلها إلى أوروبا والعالم، ولهذا فإنهم إذ يحتفلون بإخراج المسلمين فإنهم ما يحيون إلا ذكرى إخراج إسبان قد ساهموا في الحضارة التي لا تزال إسبانيا تنعم بها حتى الآن، وإن هذا ليذكرنا برائعة نزار قباني "غرناطة" التي وقف فيها على آثار المسلمين في غرناطة، ثم بدأ يحكي قصة الإسبانية ذات الملامح العربية التي قابلته في مدينة الحمراء، فسألها:

هل أنت إسبانية؟ ساءلتها

قالت: وفي غرناطة ميلادي

 ثم أخذت تفتخر بزهو جدودها في المدينة وزركشات قصر الحمراء الرائعة، وتقول:

قالت هنا "الحمراء" زهو جدودنا

 

فاقرأ على جدرانها أمجادي

عندئذ تعجب الشاعر العربي من الفتاة التي نسبت هذا المجد إلى أجدادها، فأثارت في خلده حزنَين، أو جرحين:

أمجادها؟ ومسحت جرحا نازفا

ومسحت جرحا ثانيا بفؤادي

يا ليت وارثتي الجميلة أدركت

أن الذين عنَتهمُ أجدادي

عانقت فيها عندما ودعتها

رجلا يسمى "طارق بن زياد"

وحدة رصد اللغة الإسبانية

 

 

[1]المستشار الثقافي يلوح بالعلم  في احتفال سقوط غرناطة ( أوروبا بريس 1/1/2016)http://www.europapress.es/andalucia/noticia-granada-concejal-cultura-tremola-manana-pendon-celebracion-toma-granada-20090101162302.html

 

[2]غرناطة تحتفل بالملكين الكاثوليكيين بين انتقادات برهاب الأجانب والفوضوية ( لا بانجوارديا 2/1/2016)

http://www.lavanguardia.com/vida/20160102/301151618676/granada-toma.html

 

[3]غرناطة تحتفل بالملكين الكاثوليكيين بين الانتقادات ( الباييس 2/1/2016)

http://politica.elpais.com/politica/2016/01/02/actualidad/1451730320_363776.html

 

[4]من الأعلام وحتى التغريدات المناهضة للمسلمين، سقوط غرناطة في يد الملكين الكاثوليكيين على تويتر ( إل دياريو. إس 2/1/2016)

http://www.eldiario.es/rastreador/Noalatoma-Granada-celebra-polemica-Twitter_6_469363063.html

 

[5]بوديموس يريد أن تعتذر إسبانيا للمسلمين عن سقوط غرناطة ( نيجوثيوس 4/1/2016)

http://www.negocios.com/noticias/quiere-espana-pida-perdon-islam-toma-granada-04012016-1024

 

[6]انظر (1)

[7]استرداد الأندلس كان حدثا "رائعا" بحسب الكنيسة ( إل موندو 1/1/2016)

http://www.elmundo.es/andalucia/2016/01/02/5687f4d422601d63268b45b7.html

 

[8]المجلس والوفد يتواجهان بسبب الاحتفال بالسقوط ( إل باييس 1/1/2016)

http://ccaa.elpais.com/ccaa/2013/01/01/andalucia/1357067066_302415.html

 

طباعة
كلمات دالة: