قراءة حول مقتل أبي بكر البغدادي

  • | الثلاثاء, 1 أغسطس, 2017
قراءة حول مقتل أبي بكر البغدادي

قالت وزارة الدفاع الروسية، في تصريح لها صدر في السادسَ عشرَ من يونيو الماضي: إن هناك احتمالًا أن يكون أبو بكر البغدادي قد مات في غارةٍ جوية روسية على مدينة "الرقة" في مايو الماضي. وفي الثالث والعشرين من يونيو، قال المتحدث باسم التحالف الدولي ضد "داعش" (رايان ديلون): إنه حتى الآنَ لا يوجد لدى الولايات المتحدة الأمريكية دليلٌ ملموس على صحة هذه المعلومة. وبعد أسبوعٍ، أكّد النائب البرلماني الروسي (ألكساي بوشقوف)، أن وفاة "البغدادي" شيءٌ مؤكد بنسبةِ مئةٍ في المئة. وفي الحاديَ عشرَ من يونيو، أكدت وكالة الأنباء الروسية (سبوتنيك)، نقلًا عن قناة (السومرية) العراقية؛ أن "داعش" أكد مقتل "البغدادي"، وأنهم يجهزون من سيخلفه. وقال "المرصد السوري لحقوق الإنسان"، استنادًا على مصادرَ له في "ديرالزور": إن "البغدادي" قد قُتل بالفعل. ثم أصدر التنظيم الإرهابي في العراق عقوبة الجلد خمسين جلدةً لمن يتحدث عن موت "البغدادي". وأَرجع خبراءُ عدمَ إقرار الولايات المتحدة بمقتل "البغدادي" إلى أنها لا تريد أن يُنسبَ مقتله إلى روسيا؛ لذلك فهي تُقلّل من قيمة مقتله، وتقول: إنه لن يؤثر في حربها على التنظيم. في الوقت ذاتِه نَشرت الصحافة الليبية أخبارًا عن تولي شخصٍ يُدعى: "جلال الدين التونسي" الخلافةَ بدلًا من "البغدادي". وفي السادسَ عشرَ من يوليو ذَكرتْ وكالة "رويترز" أنّ "البغدادي" حي بنسبة 99%، وأنه يعيش في مدينة "الرقة" السورية.
بَيْدَ أنّ المسئولين العراقيين لم يؤكدوا مدى صحة وفاة "البغدادي"، كذلك لم تُعلن أيٌّ من مصادر "داعش" الرسمية مقتل زعيمهم. ولقد قيل قبل ذلك كثيرًا بوفاة "البغدادي"، لكنها لم تكن أخبارًا حقيقية. لكن هذه المرة انتشر الخبر بسرعة، وهناك إصرارٌ على تأكيده. هذا اللَّغط أدّى إلى كثرة التحليلات التي ظَهرت لتُعقّب وتُحلّل أثر وفاة "البغدادي" على التنظيم.
تأثيرات تصفية القادة على حرب الإرهاب
هناك اتفاقٌ في أدبيّات العاملين في حقل الجماعات الإرهابية على أن تصفية قادة التنظيمات الإرهابية لها تأثيراتٌ مهمة على هذه الجماعات. لكن إيجابية هذه التأثيرات من سلبياتها محل خلاف بين هؤلاء المتفقين، حيث يوجد فريقٌ يقول: إن تصفية قائدِ أيِّ تنظيمٍ إرهابي له تأثيراتٌ إيجابية مهمة قد تصل إلى حلّ هذا التنظيم؛ لأن موت الزعيم سيؤدي إلى وقْف العمليات، وترْك الكثير من المليشيات للتنظيم، وخفْض الروح المعنوية لعناصره، وعدم الاستقرار، والضعف التنظيمي بصفةٍ عامّة، وهذا كلُّه قد ينتج عنه في النهاية حلّ التنظيم. وهناك فريقٌ آخَرُ يرى العكس تمامًا، ويؤكّد أنّ تصفية الزعيم وشعور التنظيم أنه قد قُتل في سبيل قضيتهم التي يدافعون عنها جميعًا قد يؤدّيان إلى تدفّق مليشياتٍ جديدة، والقيام بعملياتٍ أكثرَ؛ ردًّا على مقتل الزعيم والقائد المُلهم في وجهة نظرهم.
أما في حالة "داعش"؛ فإن تصفية "البغدادي" لن تُحدث انقلابًا حقيقيًّا في التنظيم ولن تترك تأثيرًا ملفتًا للنظر في ديناميكية الحرب عليه. ولكن لاشك أن التنظيم على المدى القصير سيواجه بعض التطورات السلبية، وخصوصًا القيام بعمليّاتٍ إرهابية؛ لأنه سيستغرق بعض الجهد والوقت في اختيار زعيمه الجديد، وهذا سيؤدي إلى تقليل العمليات الإرهابية التي سيقوم بها. كذلك يمكن أن يظهر تيّارٌ بين المليشيات يترك التنظيم بسبب عدم الانسجام مع الوضع الجديد وانخفاض الروح المعنوية. لكن من الصعب نظرًا للبنية التنظيمية التي يمتلكها "داعش" أن تستمر هذه الأمور طويلًا أو أن تتسبب في حل التنظيم كليّةً.
كما أن "داعش" تنظيمٌ فَقَد الكثير من قياداته العليا والتاريخية في هجماتٍ جوية، قام بها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، التي في إطار حربها على الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر قامت بتصفية الكثير من قادة تنظيم "القاعدة" وقادة حركة "طالبان" في العراق وأفغانستان، عن طريقِ هجماتٍ مكثفة وموجَّهة بطائراتٍ بدون طيار. ولقد استمرت هذه السياسةُ في عصر "أوباما" ضمن استراتيجيته في حرب "داعش"، ونجحت هذه الاستراتيجية في القضاء على كثيرٍ من قادة التنظيم. وهذه الاستراتيجيةُ التي لا يزال يوثق بها مِن قِبَل رجال المخابرات الأمريكية مرتبطةٌ عن قرب بإرسال قواتٍ أمريكية خاصّةٍ إلى مناطق الصراع، يتعاونون مع العناصر المحلية التي يزداد الاعتماد عليها تدريجيًّا.
ومن بين القادة التاريخين الذين فقَدهم تنظيم "داعش" منذ نشأته وحتى اليوم: "أبو محمد العدناني"، الذي وُصِفَ بأنه العقل الاستراتيجي للتنظيم، وكان مسئولًا عن العمليات الخارجية والأنشطة الإعلامية، كذلك "عمر الشيشاني"، وزير دفاع التنظيم، والذي حارب في الشيشان ضد روسيا، والذي كان سببًا في انضمام الكثير من المقاتلين الأجانب من دول الاتحاد السوفيتي السابق إلى التنظيم، كذلك أيضًا مِن بين مَن تمت تصفيتهم من قيادات التنظيم: "أبو مسلم التركماني"، مساعد "البغدادي" في العراق، و"أبو علاء الأنباري"، مساعد "البغدادي" في سوريا، و"سامي جاسم محمد الجُبيري"، المسئول عن منابع البترول في الأماكن التي يسيطر عليها التنظيم، و"حافظ سعيد خان"، أمير التنظيم في أفغانستان. فهذه أسماءٌ مهمة، ومن الناحية القتالية والعسكرية أفضلُ من "البغدادي" الذي ليس له خلفيّةٌ عسكرية معروفة؛ حيث يوجد منهم مَن كان ضابطًا في الجيش العراقي إبّان حكم "صدام حسين"؛ مثل: "الأنباري"، و"التركماني"، ومنهم مَن كانت له خلفيّةٌ قتالية مثل: "الشيشاني"، لذلك يمكننا القول: إن تصفية القادة لن تكون سببًا في انكسارٍ حقيقي لتنظيم "داعش" يقضي على تأثيره. فالتنظيم بطريقة أو بأخرى لديه القدرة على تعويض خسائره في قادته. كذلك هناك عاملان في طبيعة بنية التنظيم يشيران إلى أن تصفية "البغدادي" لن تخلق تأثيرًا صادمًا على التنظيم. أولُهما: أن "داعش" ليس تنظيمًا نُظم حول شخصيةٍ ملهمة تتمثل في "أبي بكر البغدادي"، بل على العكس تمامًا، فمن المعروف عن هذا التنظيم أنه بجانب وعيه ونشأته على الأيدلوجيه الإرهابية غيرِ المرتبطة بشخصيّةٍ مُلهِمةٍ، فإنه أيضًا أَخَذَ الدروس والعِبَر من الحركات الماركسية إبّان فترة الحرب الباردة. وليس في أدبيات المليشيات التي تتكون من قادةٍ عسكريين سابقين والذين يحاربون بهدفٍ واحد منذ عشرات السنين في أماكنَ مختلفةٍ، أن يُسلّموا أنفسَهم لشخصٍ أو أن يكون انتماؤهم للتنظيم بسبب شخصٍ ما. كذلك أيضًا فإن "داعش" -على حدّ زعمهم- يقاتل من أجلِ غاياتٍ إلهية، ويستغل الدعاية الدينية من أجل تحقيق غايته، ولا يقاتل من أجل قائدٍ يتمتع بـ "كاريزما" معينة. كما أن التنظيم يصف قتلاه بالشهداء ويمتدحهم بالشهادة والفدائية والتضحية؛ لذلك فسيكون حزنهم على موت قائدهم مجرّدَ حزنٍ على فراقه، وليس حزنًا يؤدّي بهم إلى حلّ التنظيم. ولعل تصريح التنظيم عندما تمّت تصفية "العدناني" يوضح عقلية التنظيم وتفكيره، حيث خرج تعليقُهم على مقتله، وهو أحد أهم قادتهم: "إننا نحب الموت أكثرَ من حبكم للحياة"؛ لذلك فإن موت الزعيم يُوصف مِن قِبَل التنظيم وصفًا إيجابيًّا، وستنال حياتُه عند أفراد التنظيم شكلًا أسطوريًّا وقصصيًّا. 
العاملُ الثاني: هو أن تنظيم "داعش" لم يكن في أيِّ وقتٍ من الأوقات تنظيمًا صاحبَ بنيةٍ تسلسلية متعددة الطوابق، يأتي الأمر فيه عبرَ تسلسلٍ قياديٍّ من الأعلى إلى الأدنى، إذا سقَط قائدٌ من السلسلة تتوقف الأمور، بل يوجد في التنظيم وحداتٌ قتاليّةٌ خاصة، منحَها قادة التنظيم استقلاليّةً في اتخاذ قراراتٍ تكتيكية دون الرجوع إلى القادة. وهذه تُعدّ "لا مركزية" و"مرونة تكتيكية"، سببُها الرئيس عدمُ وجود بنيةٍ تسلسلية للتنظيم، وهو الأمرُ الذي ساعد التنظيم كثيرًا في انتصاراته العسكرية قبل تكوين التحالف الدولي؛ لذلك فإن هذه "اللا مركزية" وهذه المرونة لا تجعل أفراد التنظيم متعلقين كليًّا بقائدهم الذي على رأس التنظيم، ومِن ثَمّ فإن تصفيتَه لن تكون مصوغًا حقيقيًّا يُنتظر منه حلّ تنظيم "داعش"، كما هو الحال في المنظمات الإرهابية التي لها بنيةٌ تسلسلية، أو المرتبطة بقائدٍ ارتباطًا روحيًّا راجعًا إلى شخصيته أو "الكاريزما" التي يتمتع بها.
إذًا؛ فالبنيةُ التنظيمية "اللا مركزية" لتنظيم "داعش" وثقافته التنظيمية ووجوده المؤسسي، يجعل من موت "البغدادي" مجرّدَ موتِ قائدٍ في إحدى العمليات؛ لأن "البغدادي" وإن كانت أهميته للتنظيم كامنةً في رمزيته الدينية كخليفةٍ لهم؛ إلّا أن "العدناني" كان واحدًا من أهم العقول التي تُسَيّر عجلة الحرب في التنظيم، وكان الشخصيّةَ الملهمة لتدفّق المقاتلين الأجانب على التنظيم، إضافةً إلى أنه كان المشجّعَ الأول على القيام بأعمالٍ إرهابية في تركيا والبلاد الغربية والأماكن البعيدة عن التنظيم، وكان هو الملهم لمَن يُسَمَّوْنَ: "الذئاب المنفردة"، ويُلاحظ أنه بعد قتل "العدناني"، نهايةَ أغسطس عام 2016م؛ نتيجةً لإحدى الغارات الأمريكية، لم يَستطع التنظيمُ أن ينجح في هجماته الإرهابية في باريس وبروكسل أو في مطار أتاتورك، والذي يُعتقد بأن "العدناني" هو مَن خطّط لها قبل موته؛ من أجل ذلك فإن "داعش" الذي استطاع تجاوُزَ مقتلِ قائدٍ مثل "العدناني"، من السهل جدًّا أن يَنسجم مع الظروف الجديدة، وأن يَعتبرَ مقتل "البغدادي" ما هو إلّا مقتل قائدٍ ميداني.
لكن لا شك أن تصفية "البغدادي" يمكن أن تُرى نجاحًا تكتيكيًّا يَرفع الروح المعنوية للدول التي تُحارب الإرهاب؛ إذ إنها تُوحي بتفوق أجهزة مخابراتهم على هذا التنظيم. والأهمُّ من ذلك: أنها تُحقّق انخفاضًا في العمليات الإرهابية التي يقوم بها التنظيم على المدى القصير، كما يمكن أن تتسبب في فقدان التنظيم بعضًا من مليشياته. وهذا كلُّه يُعدّ نجاحًا. لكن مِن هذا النجاح يجب ألّا ننتظرَ حدوثَ تراجُعٍ قويٍّ في إمكانيات "داعش" وقدراته العمليّاتيّة. بل على العكس يمكن أن يتحول "البغدادي" بعد قتله إلى رمزِ تأسيسِ "الدولة"، ويصبح الشخصيّةَ الملهمة التي لم يَستطعْ أن يقوم بها وهو على قيد الحياة، ليس للتنظيم فقط، وإنما للمُحبّين له، وللخلايا النائمة في الغرب وفي تركيا.

وحدة رصد اللغة التركية
 

طباعة