في الوقت الذي تحتاج فيه المرأة إلى المشاركة في التنمية من أجل نهضة بلادها إبّان القرن الحادي والعشرين، أطل عليها تنظيم "داعش" بوجهه القبيح البغيض؛ ليعود بها إلى الوراء أزمنةً عديدة وعهودًا مديدة، عبرَ سلسلةٍ من المقالات الموجَّهة إليها بشكلٍ خاصٍّ؛ أمًّا كانت أو زوجةً، بنتًا كانت أو أختًا، مقالات في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب، لا يتوانى التنظيم عن إصدارها في كل عددٍ من أعداد مجلاته مدعومة ومزودة بآياتٍ قرآنية انتزعوها من سياقها وأحاديثَ نبويّةٍ شريفة يُخطئون فهمها، وضرْب أمثلةٍ في غير موضعها بأمهات المؤمنين ــ رضي الله عنهن ــ من أجل التدليل على آرائهم الباطلة. ويبدو أن التنظيم كان يدرك قرب انهيار كِيانه المزعوم؛ فحاول تحميل المرأةِ مسئوليّةَ هذا الأمر عبرَ مقالٍ له بعنوان: (كوني رِدْءًا)، فأخذ يُحمّلها مسئولية إخفاق المجاهدين -على حد زعمهم- في الحروب الكاذبة التي يخوضها، ويحذرها من الإرجاف ـــ نشر الأخبار الكاذبة المثيرة للفتن والاضطراب ـــ الذي سيُرهب المجاهدين في ميدان القتال، ويُضعف من عزيمتهم، وأنه يجب على المرأة المسلمة إذا سمعتْ أيَّ شيءٍ من الشائعات الكاذبة لمثيري الفتنة بشأنِ قوّةِ وقدرةِ العدو، واستعدادات القتال التي أُعدّت لمحاربة التنظيم، وما جمعوه من أسلحةٍ وذخيرة؛ أن تؤمن بأنه لن يصيبها ولن يصيب عائلتَها ولا أيَّ إنسانٍ آخَرَ غير الذي قَدّره الله لهم، وأن الشيطان يُخيف أولياءه ولا يُخيف المؤمنين، وأن عناية الله ستدرك المجاهدين مهما بلغت قوة الأعداء، وعلى المرأة أن تضع نُصْبَ عينيها الآياتِ التي تتحدث عن النبي ﷺ والصحابة إبّانَ الفترة التي احتشد فيها المشركون ضد المسلمين:
”الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ*فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ“، (آل عمران: 173-175).
وفي مقالٍ آخَرَ تحت عنوان: (رحلتنا إلى الله) يخاطب التنظيم المرأة مُذكّرًا إياها بأن الرحلة ما دامت إلى الله فلابد فيها من التضحية بالغالي والنفيس. ويُعدّ المقال امتدادًا لنهج التنظيم تُجاهَ المرأة ورؤيته للدور الذي يجب أن تلعبه المرأة والمتمثّل غالبًا في طاعة وليّ الأمر طاعةً عمياءَ، وتحجيم دورها والخوف من نشْرها لما يزعزع ركائزَ التنظيم ويَهُزّ أركانَه؛ فأخَذ المقال يعظ النساء بالبقاء في بيتوهن، وجعْل همّهنّ الأول شحْذ هِمَم الرجال للجهاد والثبات في ساحة المعركة، حيث الرجل في التنظيم يجاهد في سبيل الله، وليس كمن يعمل بالتجارة في ديار الكفر -على حد تعبيرهم-.
ومقال (رحلتنا إلى الله) هو آخِرُ المقالات الموجَّهة بشكلٍ خاصٍّ إلى المرأة من قِبَل هذا التنظيم، ويخاطب النساء فيه قائلًا: ”هناك الكثيرات يخرجن من بيوتهن مرّاتٍ عدّة، دون أن تكون لهن حاجة سوى اللَّهْث وراء الدنيا، في حين أن الله سبحانه وتعالى يأمرهن بالبقاء في بيوتهن“، قال تعالى: ”وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى“(الأحزاب:33). لكن لا ضَيْرَ مِن أن تُشارك المرأة في القتال، حيث إن مشاركتها لزوجها المجاهد في القتال من وظائفها الأساسية، وإن لم تخرج لتُقاتلَ فلْتجلسْ في البيت تصوم نهارَها، وتقوم ليلَها، تدعو لزوجها بالنصر على ائتلافات الكفار -على حد زعمهم- فضلًا عن أنه من الواجب عليها أن تُشارك زوجاتِ المجاهدين اللاتي توفّيَ عنهن أزواجُهن في تربية أبنائهن، وأن تَقبل بالتعدّد كسُنّةٍ لها فوائدُها العظيمة على الأُمّة الإسلامية؛ كي لا تعودَ زوجاتُ المجاهدين إلى ديارهن مرّةً أخرى ويَتركن "الدولة".
سَعت المقالتان إلى تشويه نظرة الإسلام للمرأة، وإظهار الإسلام على أنه إسلامُ رجالٍ وللمرأة البيوتُ ثم القبور، اختزل تنظيم "داعش" دورَ المرأة مِن كونها نصفَ المجتمع، بل المجتمع برُمّته، في: الجلوس بالبيت وعدم الخروج منه إلّا للقتال، أو إقناع زوجةٍ تُوفي عنها زوجها بعدم العودة إلى ديار الكفر -على حد زعمهم-. أراد التنظيم حبس المرأة بداخلها، و أن رحلتها إلى الله تستوجب منها البقاء بالمنزل، ونسي أنّ هناك مجالًا رحبًا لنشاط المرأة تستطيع من خلاله أن تملأ الأجواء خيرًا ورحمةً وإحسانًا، فيُمكنها أن تبذل مجهودًا مشكورًا يعود على أُمّتها بما لا يَقلّ عما يأتيه الرجال من طيّبِ أثرٍ، أمامها من ميادين الخير أعمالٌ مثل: التمريض، وإسعاف الفقيرات من بنات جنسها بالعلاج والدواء والطعام والكساء، والعمل الخيري، والعناية بتربية اليتيمات، وتَعَهُّد أمهاتهن بالرعاية والتوجيه، ومحاربة الجهل في بنات جنسها، وإشاعة الثقافة الصحية بين النساء عامّةً، وتوفير العدد الوافي بالحاجة بحيث يَسددن عَوَز النساء في علاج الأمراض الخاصّة بهن، وإن كان لا بُدّ، فعلى المرأة المساهمةُ في التصدي لما يَتفشّى في المجتمع من امتهانِ المرأة وإشقائِها؛ عن طريق البِغاء والخمور وغيرها من المفاسد.
أمّا عن جهاد النساء؛ فقد شرَع الرسول الكريم -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- الاستعانة بالنساء في الجهاد، وأثابهن عليه من الغنائم، ودرَج خلفاؤه من بعده على سنته؛ حتى إذا انقضى عهد الراشدين شَكّ البعض في هذه الاستعانة، فكتب نَجْدَةُ بنُ عامرٍ الحَروريّ إلى ابن عبّاسٍ يسأله: (هل كان رسول الله ﷺ يغزو بالنساء وهل كان يَضرب لهن؟)، فكتب إليه ابن عباس -رضي الله عنه-: (كتبتَ إليّ تسألُنى: هل كان رسول الله يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن فيُداوينَ الجرحى، ويُحْذَيْنَ من الغنيمة)؛ وعليه يتضح استحباب خروج النساء ليُشاركن الرجالَ شرفَ الجهاد في حال الفتح والهجوم، حين يكون الجهاد فرضَ كفايةٍ على الرجال أنفسِهم، أمّا إذا انعكس الأمر وهاجم العدو بلاد المسلمين؛ أصبح التكليف والوجوب درجةً واحدة على الرجال والنساء والصبيان، والأحرار والعبيد، ولا يَستأذن أحدٌ أحدًا في تأدية هذا الواجب، وعليه؛ فإنه وفي كلتا الحالتين ليست المرأةُ مضطرةً للخروج للقتال؛ لأن القتال المزعوم لهذا التنظيم ليس سوى عبثٍ ووهمٍ مِن نَسْج خياله، للإفساد في الأرض وتخريب البلاد، واستغلال النساء والأطفال، وتشويه صورة الإسلام، وليس جهادًا في سبيل الله كما يَدّعي.
ختامًا؛ فالحديثُ عن مصير الإنسانية وتقدمها دون ذِكرِ المرأة ودورها، وسعيها لتحقيق "الحداثة" أمرٌ من الصعوبة بمكان. فحضور المرأة في المجتمع الإسلامي موجود منذ اللحظات الأولى؛ حيث مارست الريادة في الإسلام: فكانت السيدة خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها) أول من آمن بالرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، والسيدة سمية بنت خياط (رضي الله عنها) أول شهيدةٍ في الإسلام، والسيدة رقية بنت محمد (عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم) أول من هاجرت إلى الله تعالى إلى الحبشة مع زوجها عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، وغيرهن من نماذجَ مُشرّفةٍ اشتغلت بالعلم تَعلُّمًا وتعليمًا، وبذلت أموالها في سبيل تنمية مجتمعها؛ حيث رَوَتْ كريمةُ بنت محمد بن حاتم صحيحَ البخاري عن الكُشْميهَنيّ، وكانت روايتُها من أصحّ رواياتِ "البخاري"، ونُسخت كتبها ورحل إليها العلماء، وكان لها مجلسٌ بمكةَ يجتمع فيه الطلبة والأفاضل من رجال العلم. وكانت فاطمةُ الفقيهة بنت علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي، من الفقيهات العالمات بعلم الفقه والحديث، حيث أَخذت العلم عن جملةٍ من الفقهاء وأخذ عنها الكثيرون، وكانت لها حلْقةٌ للتدريس، وألّفت العديد من المؤلفات في الفقه والحديث، وانتشرت مؤلفاتها بين العلماء، وكانت معاصرةً للملك العادل نور الدين الشهيد، وكثيرًا ما استشارها في بعض أموره وأخذ عنها بعض المسائل الفقهية، أمّا فاطمةُ بنت جمال الدين سليمان الشيخ الإمام المُقرئ المُحدّث، فكانت من النساء العالمات المحدثات الصادقات في الرواية، وأَخذت الحديث عن والدها وأجلاء عصرها، وأخذ عنها الحديث جملةٌ وافرةٌ منهم "الصفدي"، وكانت ذات ثروةٍ وافرة أنفقت منها على أعمال خيرٍ وبِرٍّ ومدارس وتَكايا وبيمارستانات، ووَقفتْ على هذه المؤسسات الخيرية أوقافًا، ورَتّبَت للعاملين فيها رواتبَ، حتى باهت بأفعالها الخيرية أعاظمَ رجالِ ونساءِ عصرِها.
إنّ تقاليد المسلمين في معاملة النساء ليست على هذا النحو الذي يَدّعيه "داعش"، ولعل هذا النهج مِن قِبَل هذا التنظيم زاد من هجوم الغرب على الإسلام، وجعلهم في حالةِ رفْضٍ للتراث الدينيّ؛ ظنًّا منهم أنه سببٌ في جهل المرأة وإنكار حقوقها واستعبادها.
وحدة رصد اللغة التركية