التاريخ ليس مجرد سرد لأحداث الماضي ووقائعه بل هو علم جليل له عدة فوائد مهمة من أهمها تقوية اعتزاز الإنسان بأمته وماضيها وبطولاتها والاستفادة من أخطائها وأخذ العبر والدروس من هزائمها وإخفاقاتها، ومِن ثَمّ يُعتبر التاريخ مصدر إلهام للإنسان في إبداعه يدفعه دائمًا للاقتداء بقادة بلاده التاريخيين الذين حققوا لها انتصارات رائعة وسطروا في تاريخها صفحات بيضاء ناصعة لا تشوبها شائبة. وقراءة التاريخ تشحذ الهمم وتبعث الروح وتخلق التنافس في حب الخير والقيام به لصالح البلاد والعباد. ومما يؤسف له أن تنظيم "داعش" الإرهابي قد فطن لأهمية التاريخ وأحداثه في شحذ الهمم وتحفيز من يقرأ فيه على العمل والخيال والإبداع وبناء الطموح والرغبة الجامحة في الرقي وتحقيق الأهداف، وخصوصًا عند الشباب حديثي العهد بالدراسة الذين درسوا تاريخ أمتهم ولا يزال عالقًا في أذهانهم وتأثروا بأبطاله وما جرى على مسرحه من أحداث تجذب الشباب الطموح محبي الزعامة والتميز، والحريص على أن يكون واحدًا من النخبة ومن أصحاب الرأي في بلاده. فأَعَدّ لهم تنظيم "داعش" خطابًا إعلاميًّا كاذبًا في ظاهره الرحمة وفي باطنه العذاب، يغازل فيه رغباتهم، ويُقوّي طموحهم، ويُحمّسهم ويُشعرهم بأن أحلامهم في الزعامة والبطولة متوقفة على انضمامهم إلى "تنظيم الدولة" على حد زعمهم.
ومن خلال عملنا في رصد وتحليل ما يبثه تنظيم "داعش" من منشورات باللغة التركية، لاحظنا ما يدل على أن هذا التنظيم يعرف جيدًا طبيعة الشعب التركي، ونزعته القومية التي تجعله دائم الاعتزاز بتاريخه ودولته التاريخية القديمة، مثله في ذلك مثل معظم شعوب العالم؛ لذلك يلعب التنظيم على هذا الوتر الحساس، ويُحمّس الشباب مستدعيًا لهم مواقفَ من تراثهم التاريخي والديني الذي يحبونه، والذي يشكل جزءًا أساسيًّا من ثقافتهم، فيؤولها التنظيم وَفقًا لفهمه المغلوط، كما يقوم بمزج المادة التي اقتبسها من التاريخ التركي بالمادة التي اقتبسها من التراث الديني؛ ليُخرجَ في خُبثٍ واضحٍ مادّةً ممزوجة بالرمزية تنال إعجاب أكبر عدد ممكن من الشباب التركي على مختلِف اتجاهاتهم وميولهم. ففي إحدى مقالات هذا التنظيم يبدأ الكاتب بتذكير الأتراك بأن الله سبحانه وتعالى قد منّ عليهم بنعمة الإسلام، وجعلهم ركنًا من أركان الخلافة الإسلامية إبّانَ عهد العباسيين، الذين رَفع الترك تحت رايتهم لواء التوحيد والجهاد، ثم دخل الطمع في قلوب بعضهم (الأتراك) بعد ذلك، فمنهم من حرص على الدنيا، ومنهم من غاص في الباطل، ومنهم من خان، ومنهم من عبَد القبور، ومنهم من أصدر قوانينَ تخالف القوانين والأحكام الإلهية.
وكاتب المقال بهذا الكلام يشير إلى حقبة دخول الأتراك في الجيش العباسي إبان حكم الخليفة العباسي السابع "المأمون بن هارون الرشيد"، الذي كان عصره يمثل نَواة الاعتماد على الأتراك في الجيش الإسلامي. وعندما مات الخليفة "المأمون"، كان عدد الجنود الأتراك في الجيش العباسي يُقدّر بحوالي ثلاثة آلاف مقاتل، واعتمد عليهم الخليفة العباسي الثامن "المعتصم بالله"، وازدادت أعدادهم في عصره زيادةً كبيرة حتى ضاقت بهم مدينة "بغداد"؛ فبنى لهم "المعتصم بالله" مدينة "سامراء" لتكون مقرًّا لإقامتهم. ولقد كان اعتماد "المعتصم بالله" على الأتراك اعتمادًا كبيرًا للغاية؛ وذلك بسبب ظروف سياسية أجبرته على الاعتماد عليهم، ولا يتسع المَقام لذكرها الآن.
أما قول الكاتب "ثم دخل الطمع في قلوب بعضهم"، فيشير به إلى الطمع الذي دخل قلوب قادة الجيش الأتراك في مراحل ضعف الدولة العباسية، هذا الطمع جعلهم يستولون على مقدرات الدولة، وصاحَب هذا الطمعَ ازديادُ نفوذهم وصلاحياتهم، حيث أصبحوا هم أولي الأمر في الدولة، وأصحاب الكلمة الأولى والأخيرة فيها، بل أصبحوا أصحاب القول الفصْل في تعيين الخلفاء وعزلهم، وحوّلوا الدولة العباسية إلى دولةٍ عسكرية هم حكّامُها الأساسيون باعتبارهم يمثلون الجيش، ومعهم دخلت قاعدة كانت غريبة على الدولة حينها وهى قاعدة "من يَملك ولا يَحكم"، والتي كانت تنطبق على الخلفاء في الفترات الأخيرة من عمر الدولة؛ وذلك بسبب ضعف الدولة وسيطرة الترك عليها. فالشاهد هنا هو الاستدعاء الخبيث لموقف تاريخي ليُثبتوا من خلاله وجهة نظرهم في أن الأتراك كانوا خدّامًا للخلافة الإسلامية وحُماةً لها، وهم بذلك يشجعون الأتراك على الذهاب إلى دولتهم التي يطلقون عليها دولةَ خلافةٍ، مُذكّرين إياهم بدور الأتراك القدماء في خدمة الخلافة العباسية والخليفة "المعتصم بالله"، ومحذرين إياهم من الطمع الذي أيضًا أصاب الأتراك في نهاية الدولة العباسية، وكانت نتيجته سقوط الدولة وانغماس الأتراك في المعاصي والذنوب وعبادة القبور وأعمال الشرك ــ على حد قولهم -. وهم بذلك يُساوون بين خليفة المسلمين العظيم "المعتصم بالله" وبين خليفتهم "أبي بكر البغدادي"، مُتناسين الفرق بين الاثنين، وهو فرقٌ عظيم وكبير كالفرق بين السماء والأرض، فالخليفة "المعتصم" كان مُبايَعًا من المسلمين أو الغالبية العظمى منهم، وكان مقاتلًا يقاتل في سبيل الله بشرف ووجهًا لوجه ضد جيوشٍ نظاميّةٍ تحمل سلاحًا مثلَ سلاحِه، بل وأفضل، وعتادًا مثل عتاده وأفضل، وعددًا مثل أعداد جيشه وأكثر، لم نقرأ في تاريخه أنه قَتل أو أَمر بقتْل شخصٍ أعزلَ، أو قتَل طفلًا أو امرأة، أو حرَق أو ذبَح أو مَثّل بجثث الموتى مثل ما يفعل "داعش" وخليفته المزعوم، رغم أن ذلك كان من السهل على الخليفة المعتصم وغيره من الخلفاء وجنودهم أن يفعلوه، فلم يكن لديهم حينها منظمات حقوقية أو وسائل إعلام وتواصُل اجتماعي تفضح ما يرتكبونه، لكن كان لديهم ما لا يوجد عند مقاتلي "داعش" وخليفته المزعوم، كانت لديهم ضمائر إنسانية وإسلامية تحمل سيوفًا تضربهم إذا همّوا بمخالفتها.
الموقف التاريخي الثاني الذي يستدعيه التنظيم دائمًا لتحفيز وتشجيع الشباب التركي على الانضمام إليهم هو "فتح استانبول". ففي إحدى مقالاتهم يقول الكاتب موجهًا حديثه للشعب التركي: "أيها الشعب التركي يجب عليكم قبل فوات الآوان أن تنتفضوا ضد الصليبيين، والملحدين، والطغاة الذين سيجعلونكم عبيدًا عند أهل الصليب. وقبل أن تفعلوا ذلك يجب عليكم أن تتوبوا عن الذنوب التي كانت نتيجتُها أنْ تَسَلّط هؤلاء الطواغيت الخونة عليكم. وأعرِضوا عن الديمقراطية والعَلمانية، والقوانين البشرية، وعبادة القبور. إذا فعلتم ذلك فستكون حربكم جهادًا في سبيل الله، وقتلاكم شهداء. وتعالَوا لنعتصم جميعًا بحبل الله المتين، ونفتح "استانبول" بأمرٍ من أمير المؤمنين، والذي هو من نسل سيد المرسلين". فالشاهد هنا هو استدعاء الكاتب للحدث التاريخي المتمثل في "فتح استانبول"، والمعروف بأنه هو الفتح الأهم والأشهر في التاريخ العثماني، والذي عند استدعائه يشعر الشباب التركي بالحماسة والفخر، لأنه يمثل نقطة تحول في تاريخ العالم كله وليس في التاريخ العثماني فحسب. وجملة "تعالَوا جميعًا لنعتصم بحبل الله المتين ونفتح استانبول بأمر من أمير المؤمنين"، تحمل رمزية تحتمل أكثر من معنى؛ أولها: يُحتمل أن الكاتب يريد أن يقول للشباب التركي: مَن أراد منكم أن يكون مثل السلطان "محمد الفاتح" فلينضم إلينا، وهو بهذا استدعى الموقف التاريخي إيمانًا منه بما قام به السلطان محمد الفاتح، ويكون المقصود بالفتح هنا الفتح المعنوي الذي يعيدون فيه المدينة إلى الالتزام الديني ومحو آثار العَلمانية والتغريب التي سيطرت عليها في عصر الجمهورية.
المعنى الثاني: أنهم لا يعترفون كليّةً بفتح السلطان محمد الفاتح للمدينة، ربما لأنه ليس من نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم يقصدون بالفتح هنا المعنى الحقيقي، أي: الحرب واسترداد استانبول من الكفرة والطواغيت ــ على حد زعمهم - وهذا هو الرأي الراجح؛ لأنهم دائمًا يُنادون الشباب التركي للهجرة من بلاده التي في القلب منها استانبول، والانضمام إلى "تنظيم الدولة" في سوريا أو في العراق. والهجرة كما هو معروف في التاريخ الإسلامي كانت من مكّةَ (التي كانت أرضَ كفرٍ قبل الفتح) إلى المدينة التي كانت أساسَ بناءِ الدولة، وبذلك تكون استانبول في وجهة نظرهم الآن أرضَ كفرٍ تجب الهجرة منها، وسيأتي يومٌ للعودة إليها وفتحها. كذلك يُقوّي هذا الرأيَ إطلاقُهم على إحدى مجلاتهم التي ينشرونها باللغة التركية فقط اسم "قسطنطينية"، وهو اسم "استابول" قبل الفتح العثماني لها، بل أطلقوا على العدد الأول من هذه المجلة اسم "فتح القسطنطينية"، وبذلك تكون استانبول - في وجهة نظرهم - لم تُفتح بعد. ويُقوّي هذا الرأيَ أيضًا قولُهم في إحدى القصائد الشعرية التركية التي يخاطبون فيها الشعب التركي:
يا استانبول!
ستُفتحين بلا شك،
وستَنحني رأسك أمام التكبير
وستنالين الحرية بالتأكيد،
حتى وإن ظللت قرنًا كاملًا تحت احتلال الطواغيت.
فهذا كله يدل على أن التنظيم ينظر إلى مدينة استانبول التركية على أنها أرض كفر يجب فتحها فتحًا حقيقيًّا عن طريق الحرب. وستقوم "وحدة رصد اللغة التركية" - إن شاء الله - بعمل تقرير أو كتابة مقال عن موقف "داعش" من "فتح استانبول"، لكننا سنكتفي هنا بالتركيز على استشهادهم واستدعائهم للحدث التاريخي المهم عند الأتراك، ومحاولة إثبات ما يَدّعونه مدعومًا بأدلّةٍ من التاريخ. لذلك يجب على كل من يحارب الفكر المتطرف أن يستعين بالتاريخ في نبذ العنف والتطرف والإرهاب؛ وذلك عن طريق إبراز رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسامُحه وحسن أخلاقه وشهادة أعدائه له قبل أصحابه بذلك، والسيرة النبوية العطرة مُفعَمة بالمواقف التي تثبت ذلك. وفي النهاية: لا يفوتنا أن نُذكّر شباب المسلمين بتوخّي الحذر من دعاية هذا التنظيم الضالة والمضللة والتي تستهدفهم في المقام الأول، حفظ الله شباب أُمّتنا من كل سوء.
وحدة رصد اللغة التركية