كيف نقضي على الإرهاب في سيناء؟

  • | الخميس, 21 سبتمبر, 2017
كيف نقضي على الإرهاب في سيناء؟

     لا شك أن سؤالًا يدور ويجول بخاطر كلِّ متابعٍ لما يدور بأرض الفيروز حتى لَكَأنه يهمس مُتمتِمًا: متى وكيف نقضي على هذا الإرهاب الغاشم الذي يَضرب بيدٍ من الحقد والجهل فيُزهق دماءً زكيّة وأرواحًا نقيّة لم تَقترف إثمًا ولم ترتكب ذنبًا إلّا  أنها تُرابط دفاعًا عن الأرض والعِرْض مُلبّيةً نداءَ الواجب ومُضحّية بكلٍّ غالٍ ونفيسٍ؛ من أجل تطهير تللك البقعة المقدسة من رجس الإرهاب الدمويّ ومن هؤلاء المجرمين الذين لا يَرْقُبون في مؤمنٍ إلًّا ولا ذِمّة؟!
ولا يرضى أيُّ عاقلٍ فضلًا عن رجالٍ وَهَبوا أنفسَهم فداءً للدفاع عن قداسة الأوطان وسلامة البنيان أن تظل قطعةٌ من أرضِ مصرَ يسود فيها قانون الغاب، فمن يَقتصّ لأبناء مصرَ من أولئك الجبابرة الفَجَرة الذين استقوَوْا بالسلاح والمال والعتاد، حتى تَوَهّموا أنهم دولة فوق الدولة وأنهم أهلُ الحق فراحوا يفرضون باطلهم على الناس ويقتلون مخالفهم بحجة الكفر والفسق، أو بأيِّ تهمةٍ أخرى تبيح لهم سفْك الدماء التي اعتادوا على إراقتها واعتقدوا ظلمًا وزورًا أنهم يتقربون لله بسفكها!
ولا يمكن أن يتخيل كلُّ ذي لُبٍّ مدى الذل والانكسار والقهر والخذلان حين تسير في تلك البقعة فاقدًا شعورَ الأمان والإحساس بالسلام؛ ففي أيِّ لحظةٍ قد تَقَعُ في أيدي هؤلاء القُساة الذين لا يعرفون الرحمة ولا يفهمون العدل، وحينئذٍ لا تملك قوّةٌ في هذا المكان سواء أكانت قبيلةً أم عائلةً أم أفرادًا مهما بلغتْ قوتُهم أو زادت مكانتهم دفْعَ ظلمٍ أو رَدَّ حقٍّ لمُستضعَفٍ تمّ الغدرُ به علي يد هؤلاء، هذا هو الشعور الذي يراود أيَّ قاطنٍ جديدٍ بأرض سيناء؛ حين يعلم أن لتلك القطعة من أرض مصرَ قوانينَ غيرَ القوانين وأعرافًا غيرَ الأعراف وبشرًا غيرَ البشر وكأنه في مكانٍ لا يعرف عنه شيئًا، فكم سمعنا عن تجارةٍ بالبشر وبالسلاح، وكم سمعنا عن أوكارٍ للمجرمين وأربابِ السوابق، وكم سمعنا عن مزارعَ ومصانعَ للمخدرات، كلّ هذا في أرض الفيروز التي سالت عليها دماءٌ زكيّةٌ أَبَتْ أن يظلّ منها شبرٌ واحدٌ تحت الاستعمار أيَّا كان.
 هذا هو حال تلك الواحة المقدسة التي أصابها المرض والوباء والإرهاب بعد حرب الاسترداد، وبدأ هذا الوضع يتفاقم يومًا بعد يومٍ إلى أن قررت الدولة خوض المعركة المؤجَّلة وتطهير تلك البقعة من هذه العصابات التي تتخذ الدينَ رداءً، أو تتخذ تلك المساحاتِ الشاسعةَ والمناطقَ الجبليّةَ ملجأً ومخبأً يلجأُ إليه كلُّ مجرمٍ أو قاتل.
ولم تكن الدولة لِتقبلَ أن يظلَّ فيها شبرٌ واحدٌ لا يخضع لسيطرتها مهدِّدًا لأمنها واستقرار أبنائها؛ ومن هنا كانت حتميّة المواجهة التي بدأت بصدقٍ عام 2013، ولكن السؤال الذي يَطرحُ نفسَه هو: كيف نقضي على الإرهاب في سيناء؟
 إن النتائج التي حققها الجيش في الآونة الأخيرة من عمليات الاقتحام ومواجهة الإرهابيين والتي تَهدِف في الأساس إلى القضاء على الإرهاب من جذوره لها أثرٌ بيّنٌ لا يُنكره أحدٌ؛ حيث قَرَّرت القوات المسلحة أن تقتحمَ  "جبل الحلال" في سيناء، والذي كان يُعَدُّ من أكثرِ المناطقِ خطورةً في مصرَ؛ فقد كان مُستودَعًا للأسلحة والجماعات الإرهابية والتكفيرية والإجرامية المتطرفة، وبذلك فإن تطهير هذا الجبل يُعَدُّ تطهيرًا لنسبةٍ كبيرةٍ جدًّا من الخطر الذي كان يُهدّد استقرارَ مصرَ وأَمْنَها.
ولا شك أن القوات المسلحة والشرطة المصرية استطاعتا أن تقضيا على الكثير من العناصر التكفيرية التي توافدتْ على مصرَ وقُدّرت بالآلاف واتخذت من سيناء موطنًا لها فأصبحوا قوةً تُقارِع الدولةَ، حتى إنهم استعرضوا قوتهم بالسلاح أمام  أكمنة وثكنات الجيش في سيناء في تَحَدٍّ واضحٍ للدولة آنذاك، وقد لعبت الأسلحة الضخمة التي تمّ تهريبها عبر الصحراء عقب سقوط النظام الليبي والتي تمّ تخزينها في سيناء  الدورَ الأكبر في هذا الأمر، ولا تزال  القوات المسلحة تُحقِّق انتصاراتٍ جوهريّةً في هذا المجال، وممّا يُبرهِنُ على ذلك أن العملياتِ الإرهابيّةَ في سيناء خَفّتْ وتيرتها وضعفت قوتها كمًّا ونوعًا، وذلك أمرٌ بَدَهيٌّ في ظل فرْض قواتنا المسلحة القانونَ على هذه المنطقة.
ولكن بعد كل ذلك .. كيف يمكن أن نقضيَ على الإرهاب في سيناء؟
سينتهي الإرهاب في سيناء حين نتمكن من القضاء على "الحاضنة الفكرية، والجغرافية" في تلك البقعة، و"الحاضنةُ الفكرية" تعني: فقدان المناعة ضد مرض التطرف والإرهاب، والتي يَسهُلُ معها وقوع الأفراد ضحيّةً للتطرف والإجرام والتمرد والانحراف، وتَتمثّل عناصرُ تلك الحاضنة في الشعور بالانعزالية والتهميش وغياب العدل الاجتماعي وانخفاض مستوى التعليم وغياب الوازع الديني السوي وانتشار البِطالة التي يمكن أن تُستغل مِن قِبَل تلك الجماعات المتطرفة، والتي تعمل على استقطاب الشباب غير المُحَصَّن وتجنيدهم، إمّا عن طريق إغرائهم بالعَيْشِ الرَّغَد السعيد في الدنيا وبالجنة والحور العين في الآخرة.
 ولعل ما يؤكِّد تلك الفرضيّةَ الدراسةُ التي أَعلنت عنها الأممُ المتحدة، والصادرة حديثًا عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ونشرتها جريدة القدس العربي،  والتي  ذَكرت "أن الحرمان والتهميش... هي الأسباب الرئيسة التي تدفع بالشباب الأفارقة (حيث إن إفريقيا هي محل الدراسة) إلى وُلوج دروب التطرف والعنف والتمرد".
والدراسة المكونة من 128 صفحة -وهي الأولى من نوعها- تقوم على لقاءاتٍ مع 495 متطوّعًا ومُجَنَّدًا في منظماتٍ متطرفة مثل: "الشباب" و"بوكو حرام".
وقد أَلقت الدراسة الضوءَ حول ما إذا كان الدين يقوم بدورٍ في خلْق الدافع للتطرف أم لا. وعلى عكس ما يتردد، فقد أفادت البيانات بأن المنضمين للجماعات المتطرفة غالبًا ما يكون لديهم مستوى تعليمي ديني أو رسمي ضعيف، كما يكونون أقلَّ فهمًا لمعاني النصوص الدينية.
وعلى الرغم من أن نصف المشاركين في الدراسة قالوا: إن الدين هو سبب انضمامهم للجماعات المتطرفة، فإن 57 في المئة منهم أَقَرّوا بأن لديهم فهمًا قليلًا أو مُنعدمًا للنصوص الدينية أو أنهم لا يَقرءون تلك النصوص على الإطلاق.
وهنا تجدر الإشارة إلى ما يُكرّره الأزهر في كل مواقفه ووقفاته؛ من أن الدين لا يمكن أن يَصنعَ أو يُخرج إرهابيًّا، ولكن القراءة الخاطئة وعدم الدراسة وفهم النص بدون آليّاته، كلّ ذلك يؤدّي حَتْمًا إلى إرهابٍ أسودَ باسم الدين!
وتتفق الدراسة السابقة مع ما يقرره الأزهر الشريف؛ من أنّ فهْم المرء لدينه يمكن أن يُعزّز صموده أمام محاولات جذبه للتطرف، حيث يصبح الدين هنا هو الغطاء العازل والقلعة التي تحمي العقل والقلب من الكراهية والعنف. كذلك فإن الدراسة تفيد بأن تَلَقّي 6 سنوات من التعليم الديني يمكن أن يُقلّلَ احتمالاتِ الانضمام إلى جماعةٍ متطرفة بنسبة 32 في المئة.
 وأمّا بالنسبة لـ "الحاضنة الجغرافية" فهي المناطق الحدودية والنائية الواقعة على الأطراف والتي لها تضاريسُ خاصّةٌ من حيثُ الجبالُ والكهوف الوعرة والمغارات التي يحتمي فيها المتطرفون وتُعتبر ملاذًا للعناصر الإجرامية ومخزنًا للأسلحة والمخدرات، وتُعتبر محافظة شمال سيناء بالأخصّ مقصدًا جغرافيًّا للمتشددين والمتطرفين من كل أنحاء مصرَ؛ نظرًا لطبيعتها البدوية والقَبَليّة، ولعل التحدّيَ الأقوى والعائقَ الأصعبَ أمام أجهزة الدولة يكمن في احتواء شباب سيناء واستقطاب أهلها؛ للوقوف مع الدولة في وجه الإرهاب الأسود والقضاء على بؤَره في أرض سيناء الغالية، على الرغم من أجواء التوتر والاحتقان بسبب التضييقات الأمنية جَرّاءَ الحرب القائمة هناك، وهذا المقصد وإن كان صعبًا إلّا أنه يُمثّل السلاحَ الأقوى لإبادة تلك "الحاضنة الجغرافية".
 كما أن الحاجة العاجلة للتركيز على التنمية، بما في ذلك توفير الخدمات وتعزيز المؤسسات وخلْق فرص التمكين الاقتصادي تُعَدّ من الأسلحة التي تساهم في القضاء على الإرهاب في سيناء، ولعل هذا هو هدف الدولة الذي ظهَر أثرُه جَليًّا في الآونة الأخيرة، من خلال تصريح وزيرة الاستثمار لجريدة الوطن يوم الأحد الموافق 13-9-2017، حين أَعلنت أن تنمية سيناء هي أفضلُ طريقٍ للقضاء على الإرهاب، مشيرةً إلى أن برنامج تنمية سيناء اشتمل على نحو 12 اتفاقيّةَ تمويلِ مشروعاتٍ من الصندوق السعوديّ للتنمية، بخلاف اتفاقياتِ تمويلٍ أخرى مع باقي الصناديق العربية؛ مثل: الصندوق الكويتي، الذي يساهم في تنمية سيناء بنحو 900 مليون دولار، ويشمل إقامة 6 محطات تحلية لمياه البحر، وتوصيل خطوط الكهرباء والمحوّلات لعدد 26 تَجَمُّعًا بدويًّا.
وحين تصبح سيناء مصدرَ جذْبٍ للشباب؛ بسبب المساحات الشاسعة القابلة للزراعة وبسبب المشاريع الطموحة التي تقيمها الدولة، فينتشر فيها العمران والعلم والثقافة ويزول عنها الطابع القَبَليّ والبدويّ ويَندحِر الجهل والتعصب، فحينئذٍ ستصبح سيناء مقبرةَ التطرف والإرهاب، ونحن نَأمُل أن توضعَ هذه الاتفاقيّاتُ موضعَ التنفيذ في أقربِ وقتٍ، وأن يستفيدَ منها قطاعٌ كبيرٌ في شمال أرض الفيروز طالما حُرم منها  لحسابِ مناطقَ أخرى فيها، ونرجو أن تؤخذ هذه القرارات مأخذ الجدّ بعدما عانينا كثيرًا من بطء حركة التطوير في سيناء على مستوى التعليم والصحة واستصلاح الأراضي وما إلى ذلك من مجالاتٍ، تَسَبّبَ التراجعُ فيها في خلْقِ مساحةٍ خصبةٍ للمتطرفين.

وحدة رصد اللغة العربية

 

 

 

 

طباعة