بعد أن سكنت الرياح شيئًا ما، وخفتت الآهات، وانتهت ذروة الأزمة، ورجع كلٌّ إلى موقعه، نقف مع ما حدث نظْرةَ المتفحِّص في ردود الأفعال؛ فبها نتعرف على الفكر ونكشف عمّا هو مستترٌ وراء الكلام المعسول، والمظهر المهندم؛ إذ إن ردود الأفعال وقت الحدث العظيم تخرج بلا تَصَنُّع ولا نفاق ولا تَجَمُّل.
ضرَب "إعصار إيرما" ولاية "فلوريدا" الأمريكية، بقوةٍ غيرِ مسبوقةٍ، بعد أن مَرّ بجُزُر الكاريبي، وخلف دمارًا وخرابًا، قال عنه الرئيس الأمريكي "ترامب"، في تدوينته بموقع التدوينات القصيرة "تويتر"، بتاريخ 12 سبتمبر :إنه "أكبرُ بكثير، على الأقل في مواقعَ معيّنةٍ، ممّا كان يعتقد أيُّ شخصٍ، ولكن الناس مذهلة؛ تعمل بجِدّ".
لم يقتصر الإعصار على ضرب المناطق الواقعة في طريقة، بل امتد تأثيره حتى ضربَنا نحن المسلمين أيضًا، رغم بُعْد المسافات وخروج منطقتنا جغرافيًّا عن محيط الإعصار، فآثار الرياح علينا واضحة؛ فمنا من كانت رياح الأخبار معه هادئة وذَكّرَتْهُ بأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- كان أجودَ من الريح المُرسَلة، وأنه كان دائمًا نصيرًا للضعفاء والمحتاجين والمتضررين، فهَبَّ مُنقذًا مُساعدًا تملأ قلبَه الرحمةُ، ومَدّ يدَه لعَوْن المتضررين؛ ومنا مَن كانت الرياح معه عاتية شديدة فأزاحته عن طريقه المستقيم، وأخذ يستكثر اللعناتِ والعذابَ على "القوم الظالمين"؛ منا مَن قَدَّم المساعداتِ وأوصل الطائراتِ، وكاد يذهب بنفسه نُصرةً للمتضررين "غير المسلمين"، ومنا مَن شَمِتَ ومَدّ الأيديَ داعيًا على "الكفار الفَجَرَة"، الذين استحقوا عقاب الله على ما يفعلونه في الإسلام والمسلمين.
تلك الشماتة التي تَجَسّدت في رَدّ فِعْل بعضنا تُجاهَ الكارثة الإنسانية، والتي لا يمكن أن تَخْطأها عينٌ على صفحات التواصل الاجتماعي، ولا يمكن أن نَمُرّ عليها مرورَ الكرام، فإن هذا التصرف يُشَكِّل بلا شك بَذرةَ عداءٍ، قد تصل بصاحبها إلى صفوف "أنصار داعش"، الذين مُلئت قلوبُهم بالغل والحقد ضد الإنسانية، فعاثوا في الأرض فسادًا، وقتلوا الناس بغير حق، وهم بهذا بعيدون كل البعد عن تعاليم ديننا الحنيف.
وحَريٌّ بمن يفترض أن هذا الإعصار عذاب من الله على هؤلاء الناس، أن يفسر لنا الرخاء والرغد والنعيم الذي تعيشه تلك الشعوب في الظروف الطبيعية، بل ونحلم نحن بالعيش في مثله، ويحلم بعض شبابنا بالهجرة إليه، بل كيف يمكنه أن يجد تفسيرًا لما حلّ ببعض البلاد الإسلامية؛ كإندونسيا من كوارثَ مماثلةٍ في الأعوام السابقة.
ذلك العقل الذي يفسر تلك الظواهر على أنها غضب من الله يشوه بقصد أو بغير قصد صورة الإله في عقول المخاطبين، إذ كيف يُتصوّر أن يكون الله هو الرحمن الرحيم ثم يرسل عذابًا بصورة إعصار يخلف قتلى ومصابين وأضرارًا كثيرة؛ فيُحدّد للفعل الإلهي مقصدًا لم يحدده الله، فيضع ذلك الفعل الإلهي تحت قوله "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس"، ويرفض أن يضعها تحت قول الله "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق"، وقوله "فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا" مع الفارق في المخاطَب. إن الله لو أراد إهلاك غير المسلم لفعل، بل لو أراد إهلاك المسلمين أنفسَهم لفعل؛ لكن رحمته -سبحانه وتعالى- سبقتْ غضبه، ولو كان هذا الإعصار من غضبه لم يُبقِ على ظهرها شيئًا، ولهذا فهو أقرب إلى أن يكون تذكيرًا للناس بعظمته وقدرته؛ لعلهم يهتدون إليه، حيث يعجزون عن مجابهة الإعصار بكل ما أوتوا من تكنولوجيا وإمكانيات؛ وليُقِرَّ الإنسانُ في نهاية المطاف أنه مهما زاد علمه؛ فلن يبلغ قدر علمه -سبحانه وتعالى- ومهما زاد في الإمكانات المادية؛ فلن يستطيع إيقاف قَدَر الله.
أُقَلِّبُ الصفحاتِ، وأجدُ مقالًا بـ "اليوم السابع" يربط بشكلٍ تعسفيٍّ بين مُسَمّى الإعصار "إرما" ومسمى مكان قوم عاد، إذ قال الله "إرم ذات العماد"، ثم حكى قصه هؤلاء القوم المستكبرين الذين لم يُخلق مثلُهم، وأشار إلى أن الله أهلكهم بريحٍ صَرْصَرٍ عاتية، وفي النهاية؛ تكلم عن سرعة الرياح المتوقعة للإعصار بحسب الدراسات الاستباقيّة المُعَدّة. كل هذا؛ يجعلنا نفكر كيف يستعد العالم لتفادي الكوارث، بينما يفسر بعضنا الكوارث بغير سلطان وغير علم، ويربط ربطًا مُتعسّفًا بين قَصص القرآن التي سيقت للاعتبار وبين "إعصار إرما".
ومما يُحزن ويؤرّق؛ أن تنتصرَ الشماتة وتنهزم الرحمة في قلوب البعض من أتباع دين الرحمة، فبينما نجد النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي وصفه ربه بأنه "رحمة للعالمين"، يُطلب منه الدعاء على المشركين فيرفض قائلًا: "إني لم أُبعث لَعّانًا، وإنما بُعثتُ رحمة" وكان ذلك في وقت المنازلة والحرب، ونجد صحابته سائرين على نهجه، فهذا أبو بكر يأمر الجند بالتعامل بالرحمة حتى في وقت الحروب، فلا يسمح بقتل العجائز ولا النساء ولا الأطفال، ولا يسمح بقطع الأشجار ولا بالتخريب، أما البعض منا الآنَ فعلى النقيض من ذلك؛ فيفرح لكارثةٍ أَلَمّت بآلافٍ من البشر، بل ويدعو الله أن يزيدهم من العذاب الدنيوي، كل هذا لاعتقاده أن هؤلاء أعداءٌ لله ولرسوله وللمؤمنين، ولا يُفَرِّقُ بين غير المسلم المحارب الذي يستحق العداء والصد والدفع وربما الشماتة بما وقع له من مصائبَ، وبين غيرِ المسلم غيرِ المحارب الذي وصّانا الله به؛ فقال "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" (سورة الممتحنة، آية 8)، وهذا الخلط –للأسف- نَهْجُ "الداعشيين"، الذين يخلطون الأوراق؛ ليَصيرَ الكره والعداء هو أساس التعامل، ويصير العنف من بعد ذلك حلًّا سريعًا ناجزًا.
أفمن القسط أن نَشْمَتَ فيمن يعاني آلامًا وجراحاتٍ، ويعاني من دمارٍ وتخريب؟ إننا لا نريد أن نخلق لأنفسنا العداوات، ولا نريد أن نصد عن سبيل الله بتصرفاتٍ غيرِ محسوبة وبأخلاقٍ مذمومة، إننا بأخلاقنا الحسنة وتَصَرُّفاتنا التي تعكس رحمة ديننا أصدقُ وأنجحُ وسيلةٍ للتعريف بديننا. فأَقْسِطوا يرحمنا ويرحمكم الله!
وحدة رصد اللغة الألمانية