الحجاب في فرنسا بين العلمانية والعنصرية

  • | الأحد, 30 أغسطس, 2015
الحجاب في فرنسا بين العلمانية والعنصرية

لا تزال قضية الحجاب تمثل إحدى القضايا الرئيسية التي تشغل الرأي العام في فرنسا ذلك أن هناك مسلمون فرنسيون يتمتعون بكافة حقوق المواطنة الفرنسية، لكنهم يواجهون بعض التحديات التي يعتبرون أنها تمثل مساسا بهويتهم العقدية أو الدينية.الحفاظ على الهوية. ويأتي الحجاب بالطبع في مقدمة هذه التحديات. فهناك شريحة كبيرة من المعارضين للأديان والمعتقدات من منظمات اليمين المتطرف وبعض منظمات حقوق المرأة، وبعض ناخبي اليسار ينظمون مظاهرات وفعاليات دورية لرفض الحجاب بدعوى الحفاظ على مبدأ العلمانية. يأتي هذا في الوقت الذي يلحظ فيه انخفاض لنسبة قبول التعددية على الصعيد الإيديولوجي لدى اليمين و اليسار على حد سواء وفقًا للتقرير الصادر من اللجنة الاستشارية الوطنية لحقوق الإنسان بفرنسا عام 2014.
ثمة أسئلة تطرح نفسها في هذا الصدد : هل يتعارض الحجاب في فرنسا مع مبدأ العلمانية بمفهومه الفرنسي ؟هل المطالبات بمنع الحجاب نابعة من الحرص على احترام قيم الدولة ومبادئها، أم أن لها أبعادًا أخرى غير معلنة ؟هل فرض عدم ارتداء الحجاب على النساء اللائي اخترنه بملء إرادتهن أمرا يصب في صالح الدفاع عن حقوق المرأة ؟
في الواقع، تظل لفظة "علمانية" – بالفرنسية Laïcité – من الألفاظ التي تشهد جدلاً واسعًا في تحديد مفاهيمها، لاسيما أنها لم تُذكر نصًا ولو لمرة واحدة في القانون الصادر فى 1905 والخاص بفصل الدين عن الدولة في فرنسا. وهي من المبادئ "المقدسة" في فرنسا التي شهدت عصر تنوير انتهى بثورة قضت سلطان الكنيسة والملكية، وبدأ عصر بناء الجمهورية.
لذا فالعلمانية تحمل في فرنسا طابعًا خاصًا، وهي تعنى – في الواقع الفرنسي  –حياد الدولة إزاء الأديان، أي أن الدولة لا دين لها،كما أنها كذلك لا تفرض دينا ما،بل تترك للمواطنين حرية اختيار عقائدهم الدينية ،بما في ذلك حرية عدم تبني أي اعتقاد. ومع ذلك، فإن رافضي الحجاب يستغلون ظاهر مبدأ العلمانية لتبرير موقفهم تجاه هذه القضية، متجاهلين تمامًا حرية ممارسة الدين الذي يكفلها نفس هذا المبدأ، ويسلطون الضوء على نظرية صراع الحضارات، وهوية الدولة، وعادة ما يكون وراء ذلك أبعادا عنصرية أخرى.
وفى هذا الصدد، نجد فيلسوفا فرنسيا وعالم اجتماع وهو ديفيد سيمارد، في مقال له المجلة الفرنسية الشهيرة  Le Nouvel Observateurتحت عنوان"الإسلام والعلمانية يؤكد على أن حظر الحجاب باسم حقوق المرأة نوع من الاستبداد". وأن رفض الإسلام مرتبط بالعنصرية حتى ولو أخفاها أصحاب تلك الدعوات تحت ستار العلمانية. الأمر الذي تؤكده كريستين دلفي، الأخصائية الاجتماعية، والناشطة في مجال حقوق المرأة حينما قالت أن العديد من الناشطات في حقوق الإنسان بفرنسا يستخدمن العلمانية لإخفاء عنصريتهن، كما أنهن لا يعتبرن النساء المسلمات هناك كفرنسيات "حقيقيات".
يبدو جليًا إذن أن هناك استغلال لمبدأ العلمانية كحجة لتبرير ذلك النوع من "العنصرية الخفية" إزاء الإسلام، فالحجاب جزء من الممارسات الدينية، الذي يكفل حريتها مبدأ العلمانية نفسه، ولا يمكن استثناء الإسلام من هذه القاعدة، لاسيما أن الحرية مبدأ سيادي فى الجمهورية الفرنسية، تمامًا كالمساواة، وحرية ممارسة الأديان مكفولة لجميع المواطنين من أصحاب الديانات الأخرى وحتى الملحدين. وعليه، فإن منع النساء من ارتداء الحجاب يعد انتهاكًا صارخًا لمبدأ العلمانية، لأنه يمثل منعًا لممارسة دينية، في حين أن العلمانية تضمن حرية ممارسة الأديان. إن اختلاف إدراك مفهوم العلمانية في الداخل الفرنسي، ربما يكون متعمدًا لأنه بوضوحه ستسقط كثير من الادعاءات والأقنعة، وقد يكون في صالح أوساط كثيرة تتمتع بمميزات سياسية واجتماعية كبيرة العمل على إبقاء المفهوم الحقيقي لهذا المبدأ غامضًا، مع الاستمرار في تكرار اسمه وتسويقه كمبدأ جمهوري يمثل إحدى أبرز القيم في فرنسا.
ومن المفارقات العجيبة أن تقوم بعض المنظمات التي يفترض أنها مخولة بالدفاع عن حقوق المرأة، بممارسة نوع من الاستبداد على المرأة، بحرمانها حقها في ممارسة دينها الذي يكفله لها القانون، فماذا نسمي حرمان امرأة من ارتداء حجابها إذا كانت قد اختارته بملء إرادتها ؟ كيف يكون إيقاع الظلم على المرأة دفاعا عن حقوقها؟ ربما نتفهم رفض تلك المنظمات إجبار الفتيات على ارتداء الحجاب، ولكن كيف يفهم رفضها أن ترتدي المرأة أى شكل من أشكال الحجاب، سواء كان ذلك باختيار المرأة أو بعدم اختيارها ؟ وإن لم تكن هذه صورة من صور العنصرية، فماذا تكون ؟
إن الوقوف على المفهوم الحقيقي للعلمانية في فرنسا يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك استغلال هذا المبدأ كستار للعنصرية التي تمارس ضد الإسلام والمسلمين هناك، لاسيما أن هذا المبدأ يكفل حرية ممارسة الأديان، وأن الحرية قيمة جمهورية عليا في فرنسا.

 

طباعة