"اغتنم خمسًا قبل خمس"

  • | الأحد, 12 نوفمبر, 2017
"اغتنم خمسًا قبل خمس"

      قَالَ رَسُولُ اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ : "اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ"، خلق الله الإنسان خليفة له في الأرض يعبد الله لا يشرك به شيئًا، يتعايش مع جميع مخلوقات الله بسلام مستمرًا في إصلاح نفسه وتزكيتها كي يكون صالحًا في نفسه ومصلحًا مع غيره، جاعلاً إعماره للأرض في الدنيا سبيلاً لنجاته في الآخرة، مؤمنًا أن أعماله جميعًا مردها إلى الله؛ لذا وصى نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم- باغتنام كل ما أوتي الإنسان من قدرات وبذلها في تحقيق هذه الثلاث: عبادة الله، وتزكية النفس، وعمارة الأرض، يغتنم شبابه بما فيه من همة وعزيمة وطاقة، ويغتنم صحته بما فيها من قوة وتحمل وجلد، ويغتنم غناه وقدرته على البذل والعطاء مما أتاه الله من خيرات، ويغتنم فراغه وهو الوقت الذي تضاهيه كنوز الدنيا، ويغتنم حياته التي هي أصل الوجود، وهي نفخة من روح الله كي تكون جميعها لله وتحيا على مراد الله، فكل حركاتها وسكناتها وأصل وجودها من الله وعلى مراد الله ومردها إلى الله بعد الموت.
فمفهوم الاغتنام هو أن يغتنم المرء كل حركاته وسكناته وعباداته ومعاملاته اليومية وعلمه وعمله وماله وولده، وكل ما أتاه الله من قدرات ورزق كي يكون كل هؤلاء سببًا لدخوله الجنة، ونيل رضا الله، وتحقيق مراد الله منه وهو الاستخلاف في الأرض، مفهوم الاستخلاف الذي شوهته الجماعات المتطرفة وجعلت منه وسيلة لتبرير الاعتداء والهدم وقتل النفس بغير الحق، وتسخير جميع الوسائل المتقدمة لخدمة جرائمهم، بدلاً من أن تكون تلك الوسائل سببًا لعمارة الأرض وتحقيق السلام والعدالة والرخاء للبشرية وجميع المخلوقات، ففي إحدى المقالات التي نشرتها داعش في إحدى دورياتها تناولت مفهوم اغتنام الوقت من منظورها "هي" مستخدمة أساليب الإقناع المزيفة، تستخدم أسلوب ما يسمى بـ "التعميم المتسرع" وهو أخذ نتيجة معينة وتعميمها على جميع الحالات تارة، فقد اعتبرت كل من كفاهم الله مؤونة العيش ويسعون وراء الرزق أنهم لاهون عن مراد الله وأضاعوا حياتهم في لهو ولعب، وما يسمى بـ "الاحتكام للسلطة" وهو الاستشهاد بسلطة عليا مثل النصوص المقدسة والتشريعات على أمر بعينه تارة أخرى، فيستشهدون بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية ويقومون بإخراجها عن سياقاتها للاستدلال على الفكرة التي يريدون توصيلها وهي الدعوة إلى اغتنام الوقت بالمشاركة في "الجهاد" المزعوم لديهم، وعلى الرغم من أن المقال بأكمله يدور حول فكرة اغتنام الوقت، إلا أنهم لم يستشهدوا على الإطلاق بالحديث النبوي الأساسي الذي يناقش هذا الأمر وهو حديث "اغتنم خمسًا قبل خمس..."، بل استشهدوا بآيات وأحاديث نبوية ليست لها علاقة بالفكرة الأساسية أو تشير إليها من بعيد وهو أسلوب يسمى بـ "تجاهل المطلوب" وهو تجاهل الشيء الذي يتوجب أن يبرهن عليه ويبرهن على شيء آخر، ولم تخلُ مقالتهم من الألفاظ المشحونة التي تحمل متضمنات انفعالية زائدة، فقد ناشدوا قراء مقالتهم قائلين: "فيا صاحب الغنى والفراغ، اللاهي بدنياه إنك من المحرومين"، هذا بالإضافة إلى أسلوب مناشدة العاطفة الذي اختتموا به مقالتهم يحثون به القراء إلى اغتنام الوقت بمعاونتهم على جرائمهم تحت مسمى "الجهاد" المزعوم، وإلا تفعل تكن من اللاهين العابثين في الدنيا!
نعم، هناك من ينشغل بالرزق عن الرزاق، وهناك من ليس له غاية في الدنيا سوى ذاته وإشباع متاعها ونسي الأصل من خلقه وهو أن يكون خليفة لله في الأرض يسعى لسلام ورخاء البشرية وإعمار الأرض، ولكن ليس كل من يجتهد ويسعى وراء رزقه هو لاهٍ بالدنيا عن الآخرة، إن الشخص العامل هو أفضل عند الله من العابد لأنه حقق غاية خلقه وهو الاستخلاف في الأرض بالعمل فيها وإعمارها؛ فقد ورد أنه مرَّ على النبي رجل فرأى الصحابةُ من قوته ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يُعفها فهو في سبيل الله". بل إن الله عز وجل خفف على عباده قيام الليل نظرًا لانشغالهم بالعمل في النهار، قال تعالى: ﴿وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله﴾، ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة"، ويقول أيضاً: رضي الله عنه: "إني لأرى الرجل فيعجبني فأقول أله حرفة فإن قالوا لا سقط من عيني"، فمفهوم الاغتنام هو أن يعيَ المرء ما خلق لأجله ويبذل في سبيل تحقيقه ما أوتي من قوة ومال ووقت، فالأصل في خلق الإنسان أن يكون خليفة لله في الأرض، يسعى للسلام لا للإرهاب، يعمل على رخاء البشرية وتقدمها لا تأخرها، يعمر على إعمار الكون لا هدمه، في سبيل كل هذا يغتنم الخمس قبل الخمس.

 وحدة رصد اللغة الأردية

 

طباعة