لغيرنا حقوق علينا - الجزء الثاني

  • | السبت, 30 ديسمبر, 2017
لغيرنا حقوق علينا - الجزء الثاني

     من حقوق غير المسلمين أيضاً المعاملة بالُحسنى، فليس معنى الاختلاف العقدي الإساءة إلى المخالف ومعاملته بفظاظة، يقول الله "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ" (الممتحنة:8) إلى غير ذلك من النصوص القرآنية والنبوية التي تؤكد على هذا المعنى وتُرسّخه في نفوس المسلمين. وإن كان غير المسلم من ذوي رحم فقد أمر الله -سبحانه وتعالى- بصلته، حيث أوجب الإسلام حسن الصحبة للوالدين غير المسلمين، فلا يكون الاختلاف في العقيدة سبباً في قطع الصلة بهما وعدم الإحسان إليهما. قال الله "وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا" (لقمان: 15). وفيما رواه الشيخان، فلقد جاءت أسماء بنت الصديق إلى رسول تقول: يا رسول الله، قدمت عليّ أُمّي وهي راغبة، أفأَصِلُ أُمي؟ فأجابها النبي: صِلِي أُمَّك". 
وقد سلك أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم  دربه. ونحن نؤكد أننا نؤصل لهذه المعاني من خلال مصادر التشريع الإسلامي من الكتاب ومن السنة ‏النبوية المطهرة للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ومن سار على نهجه من أمته، وذلك لبيان التعاليم الصحيحة لهذا الدين. 
ومن الحقوق أيضاً حُسن الجوار، فإذا كان غير المسلم جاراً للمسلم فليحسن إليه ولا يؤذِه في جواره بل يتصدق عليه إن كان فقيرًا أو يُهدي إليه إن كان غنيًا، وينصح له فيما ينفعه؛ لأن للجار حق عظيم في الإسلام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه"، ولفظ الجار هنا عام، فلم يخصص جبريل الجار المسلم، بل الجار أياً كان دينه وجنسيته وعرقه ولونه. وتؤكد لنا الحياة حقيقة عمق هذه العلاقة، فإذا حلَّت بأحدنا محنة أو ألمت به مصيبة فإن أقرب من يكون إليه في مد يد العون والمساعدة هو الجار، وحينها لا يفكر الإنسان ما هي ديانته، بل تطغى الإنسانية حينئذٍ على غيرها من الاعتبارات.    
كما كفل الإسلام لغير المسلم حق التعامل معه بالبيع والشراء فقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه اشترى من عباد الأوثان، واشترى من اليهود، وقد توفي -عليه الصلاة والسلام- ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لأهله. فالتعايش مع غير المسلمين وتبادل المنافع معهم من المسائل المباحة في الإسلام. كما أن الحياة لا يمكن أن تستقيم إلا بالتعاون وتبادل المنافع بين الناس. وقد قال الله "وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (البقرة:195)، فالتعاون بين الناس كافة يرسخ مفهوم السلم الاجتماعي الحقيقي. 
إن الإسلام يراعي البُعد الإنساني في كل تشريعاته، فيقر ما كان موافقا منها للطبيعة البشرية السوية، ويَنهى عما يخالفها من أمور تفسد على الناس أمور حياتهم، ومن بين ما راعاه الإسلام وأكد عليه حرمة الدماء التي تحدثنا عنها، وعلاوة على ذلك فقد جاءت صفة التكريم التي اختص بها الله الجنس البشري كله، فقال "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" (الإسراء:70) فلم يخصص سبحانه شريحة معينة بهذه الأفضلية بل كرم البشر جميعًا بالعقل وحرية الاختيار. إن الإنسان مكرّم دون أية اعتبارات أخرى، وفي هذا نذكر ما رواه البخاري في صحيحه أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟". وهنا تتجلى مبادئ الإسلام في التعامل مع الجميع من منطلق الإنسانية باعتبارها قاسماً مشتركاً، هي الإنسانية التي ينبغي أن تتزين بمكارم الأخلاق في المعاملات، فالدين هو المعاملة. 
أما العدل مع غير المسلمين فتؤكده القاعدة الفقهية العامة التي تقول "لهم ما لنا وعليهم ما علينا". وأي شيئ يُقال بعد هذا المبدأ الإسلامي الذي يعكس لنا المساواة التي أقرها الإسلام بين البشر كافة؟! لقد أكد الإسلام مرارًا على العدل والمساواة مع غير المسلمين، وهنا نستدعي أول دستور وُضع في الإسلام متمثلاً في وثيقة المدينة التي أبرمها رسول الله  صلى الله عليه وسلم  مع غير المسلمين، وكان مفادها تنظيم جميع الحقوق الإنسانية وضمانها، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر والمساواة والعدل. وقد اعتبر الكثيرون هذه الوثيقة من أبرز مفاخر الحضارة الإسلامية، وموقفاً تاريخياً مجيداً للإسلام والمسلمين في المجال السياسي والاجتماعي والإنساني، وذلك لما حوته من بنود رائدة لم تكن منصفة للمسلمين على حساب غيرهم من أبناء المجتمع، بل أنصفت الإنسانية كلها.  
 إن حقوق غير المسلمين أصيلة في الإسلام، ولكن ربما غابت عن الكثيرين 
أو أُغفلت فانطبعت صورة ذهنية خاطئة عن الإسلام تشوهه وتنفر الناس من تعاليمه، ولا شك أن من ينتهج هذا الدرب لا يختلف كثيرًا عمن يصِمون الإسلام بالإرهاب والتطرف. ومبدأ المواطنة والمشاركة بين أبناء المجتمع الواحد مع تعدد فئاته وتنوع دياناته وثقافاته هو أمر مُسلم به، ‏بل هو طبيعة إنسانية، فلا يصح نبذ كل مختلف. وقد شهد التاريخ أن الأمم المنقسمة على نفسها لا تحقق تقدمًا ولا ازدهارًا، بل تظل في ذيل الأمم أبد الدهر. والإسلام هو دين السلام الذي لم يأتِ أبدا لتعميق الانقسامات بين أبناء المجتمع الواحد بل جاء لإسعاد البشرية وإشاعة العدل والرحمة.

طباعة
كلمات دالة: