التسامح الديني في البرنامج الإذاعي "القرآن مُفَسَّرًا"

  • | الأربعاء, 7 مارس, 2018
التسامح الديني في البرنامج الإذاعي "القرآن مُفَسَّرًا"

     تَبُثّ إذاعة ألمانيا يوم الجمعة من كل أسبوع، برنامجًا إذاعيًّا عن القرآن الكريم بعنوان: "القرآن مُفَسَّرًا" أو: "القرآن يقول"، وفي هذا البرنامج تتمّ استضافة أحد الأساتذة الألمان أو غيرهم ممن يختص بالدراسات القرآنية – وهم غير مسلمين غالبًا – لتفسير إحدى الآيات القرآنية.

 وقد أُذيع من هذا البرنامج حتى الآنَ أكثرُ من ثلاثين حلقة.

 وهنا نتساءل: لماذا تستعين الإذاعة الألمانية بأساتذةٍ غيرِ مسلمين لتفسير القرآن الكريم؟ وما هو الفهم الذي يمكن أن يُقدّمه مفسّرٌ غيرُ مسلمٍ للنص القرآني؟ وعلى الرغم من هذا التساؤل، إلا أننا نذهب إلى أن أغلب الحلقات تتناول تفسير الآيات بشكلٍ موضوعي؛ وهو ما سنتناوله لاحقًا في سلسلةِ مقالاتٍ تعليقًا على هذه الحلقات الإذاعية، لبيان الآيات التي يتناولونها بالتفسير، ولماذا يختار أحدُهم آيةً دون غيرها؟ وهل يضعها في سياقها أم ينزعها منه؟

وقد صادَف في بعض الحلقات وجود بعض الأساتذة ممن يعوزهم الإنصافُ في تناول بعض الموضوعات الإسلامية، ويذهبون بفهمهم المختلف إلى تقديم صورةٍ مشوهة عن الإسلام، وغالبًا يذهب هؤلاء إلى آياتٍ ظاهرُها العنف أو الدعوة إلى القتال؛ ليُظهروا الدينَ الإسلامي في صورة الدين العنيف الذي يدعو إلى سفك الدماء وعدم تَقَبُّل الآخَر، وهم بمنهجهم الانتقائي هذا يغضّون النظرَ عن الآيات الأخرى التي تدعو إلى السلام والتسامح وقَبول الآخَر.

 ومؤخرًا استضاف هذا البرنامجُ الإذاعي الأستاذَ الألماني "أوتو ياسترو" (Otto Jastrow)، أستاذَ الدراسات الاستشراقية واللغة العربية المتفرغ بجامعة إيرلانجن، وقد قام فيه بتفسير قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين) من سورة "الكافرون"، وظلّ يهاجم الإسلام طَوال هذه الحلقة؛ فهو يرى أن (الإسلام لا يعرف التسامح الديني)، وقال: إن المسلمين يستخدمون هذه الآية استدلالًا على تسامح الإسلام، ولكن في الحقيقة لا يعرف الإسلامُ ما يُسَمَّى بالتسامح الديني، فكان المقصود بالآية من وجهة نظره: هو الحرية الدينية للنبي وللمسلمين فقط، ولكن بعد أن هاجر النبي – صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وفرض سلطته عليها، بدأ بإكراه مَن في نطاق سلطته على الدخول في الإسلام بطرقٍ مختلفة.

 وبعدها نُسخ قوله تعالى: "لكم دينكم ولي دين"، بالآية الخامسة من سورة التوبة: (فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، ثم يُعَرِّج الكاتب على تطبيق تنظيم داعش الإرهابي للجزية على غير المسلمين في سوريا والعراق؛ مستدلًّا بهذا على أن الإسلام لا يعترف بالأديان الأخرى.

وظلّ الأستاذ "أوتو ياسترو" يحاول في عرْضه أن ينفيَ صفةَ التسامح عن الإسلام، مُتَناسيًا عدّةَ حقائق، من المُفترَض ألّا تخفى على مَن في تخصُّصه، وعلى درجته العلمية والوظيفية.

فمن الحقائق التي تَناساها المؤلف: أن هذه الآيةَ مختلَفٌ في سبب نزولها بالأساس، كما أن هناك تفاسيرَ عدّة لهذه الآية الكريمة، ذكَر منها المؤلف ما يَخدُم هدفَه فقط، وتَناسى أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان مضطهَدًا في هذه الفترة، وغيرَ قادرٍ على الدعوة لدينه بحرية.

 ومن الأسباب التي ذكرها الطبري والتُّسْتَري وغيرهما من المفسرين في نزول هذه الآية: أن المشركين عرضوا على النبي أن يعبد أصنامهم سنةً وأن يعبدوا الله سنة، وفي روايةٍ أنهم قالوا: "هلمّ يا محمدُ؛ فلنعبدْ ما تعبدُ، ولتعبدْ ما نعبدُ، فإن كان الذي جئتَ به خيرًا ممّا بأيدينا كنّا قد شاركناكَ فيه، وإن كان الذي بأيدينا خيرًا كنتَ قد شاركتَنا فيه"، فأنزل الله -سبحانه وتعالى- سورة "الكافرون"؛ ليُبيّنَ لهم أن هذا الأمرَ لا يصحّ ولا يكون، فكيف يستقيم أن يَعبد النبيُّ صنمًا لا يَسمع ولا يعقل ولا يملك من الأمر شيئًا؟ وكيف تستقيم دعوتُهم للنبي؛ وهو يدعوهم إلى عبادة إلهٍ واحدٍ قادرٍ عالمٍ بكل شيء؟

 وفي الحقيقة، لا يستخدم المتخصّصون وعلماء الدين من المسلمين هذه الآيةَ في الاستدلال على التسامح الديني، ولكن كان موضعها ومناسبتها التفريق بين الحق والباطل، وبيان ثبات النبي -صلى الله عليه وسلم- على دينه الذي يعلم أنه الحق من ربه، وبيان خطأ مَن يضطهدونه ويمنعونه من الدعوة، وكأنه يقول لهم: إذا كنتم لا تؤمنون بصحّةِ وحقيقة ما تعبدون وتَسألون، إن كان ما تعبدون خيرًا، فأنا مؤمنٌ بما أعبد وما أدعو إليه، ولا أشك في بطلان ما أنتم عليه.

أمّا قوله: إن النبي أرغم مَن في سلطته في المدينة ومَن حولها على الدخول في الإسلام، فهو ادّعاءٌ متهافت لا يقوم عليه دليل، ولا يستطيع إثباتَه؛ فالتاريخ يُبَيّن لنا أن النبي قام بعمل وثيقة المدينة بين المسلمين واليهود وغيرهم من سكان المدينة، وترَك لليهود حريتهم الدينية، بل نَصّت الوثيقة على الدفاع المشترَك عن المدينة وعن اليهود عند الهجوم عليهم من الخارج.

 وفي صُلْح الحديبية؛ نَصّ أحد بنود هذا الصلح: على أنّ مَن أراد مِن قبائل العرب الدخولَ في حِلْف المسلمين فليدخلْ، ومَن أراد الدخولَ في حِلْف قريش فليدخلْ، وقد دخلتْ بالفعل العديدُ من القبائل في حِلْف قريش.

 وظلّ السلام قائمًا إلى أن نقضت قريش وحلفاؤها الهدنة القائمة وهاجموا مَن دخل في حِلْف النبي، وحتى حينها وبعد أن جهّز النبي جيشًا عظيمًا يُمثّل قوّةً ضاربة في حينها، رفَض أن يدخل مكّةَ مُحارِبًا، بل دخلها في سلام، وعفا عن أهلها جميعًا، فلم يقتل أو يعاقب منهم أحدًا.

  وأمّا ادعاؤه أن الآية منسوخة بآية سورة التوبة؛ فهو يقوم على منهجيّةٍ انتقائيّةٍ مرفوضة، فقد قام الأستاذ بانتقاء ما يَخدُم هدفه مع ترْك غيره من الأمور الواضحة؛ فعلماءُ المسلمين لهم أقوالٌ كثيرة في النسخ، ومن أشهر التعاريف: أنه "رفْعُ حُكْمٍ شرعيٍّ بدليلٍ شرعيٍّ مُتَراخٍ عنه"، فالنسخ -كما يقول التعريف، وكما يُبَيِّن المتخصصون- يكون في الأحكام فقط، وليس في الأخبار، والآية الكريمة لا تحتوي على حُكْمٍ وإنما خبَر؛ كما بَيّنَ ذلك ابنُ القَيِّم في كتابه: "بدائع الفوائد".

صحيحٌ؛ أنّ مِن المفسّرين مَن قال بنسخ الآية الكريمة، لكن هناك كثيرون أيضًا قالوا بعدم نسخها، كما أنّ آية التوبة التي يتحدث عنها الكاتب والتي يُبَيِّن أنها تدعو إلى القتال والبدء بالاعتداء، فقد اقتطعها من سياقها؛ فالآيةُ مرتبطةٌ بما قبلها وما بعدها، ففي الآية التالية يقول سبحانه وتعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ) وأمّا استدلاله بما يفعله تنظيم داعش؛ فهو استدلالٌ لا أصْلَ له، ذلك أن المسلمين يعتبرونه تنظيمًا إرهابيًّا، ويعتبرون آراءه متطرّفةً، ولا يُلْزِمون أنفسَهم بمثل هذه الآراء.

وفي سياق التسامح يستدل المسلمون بكثيرٍ من الآيات، لم يذكرها الأستاذ في برنامجه الإذاعي، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصْر؛ قولَه تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ففي هذه الآية الكريمة يُبَيِّن المَوْلى -عَزّ وجَلّ- طريقةَ تعامُل المسلمين مع غيرهم، الذين لم يبدءوا المسلمين بالقتال ولم يعتدوا عليهم ولم يخرجوهم من ديارهم؛ فبَيَّنَ أن الإسلام لم يَنْهَ عن التعامل مع هؤلاء، بل بَيّنَ أنّ المعاملة يجب أن تقوم على البِرّ والقِسْط والإنصاف، وهذه الآية مَدَنيّة؛ أي: نزلتْ بعد هجرةِ الرسول وذهابِه إلى المدينة.

 وبعد أن كان في مَنَعَةٍ من أذى قريش، وهم القومُ أنفسُهم الذين أَنزل فيهم المَولى -عزّ وجلّ- قولَه: (لكم دينُكم ولي دين) فلا حُجّةَ للكاتب أن يقول: إنه كان يهادنهم لأنه كان فيهم، وعن تفسير هذه الآية يقول الطبري: وأَولى الأقوال أنّ المَعنِيّ بقوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) هو جميع أصناف المِلَل والأديان أنْ تَبَرّوهم وتُقسِطوا إليهم، وأنّ الله -عزّ وجلّ- عمّ بقوله: (الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم) جميعَ مَن كان ذلك في صفته، وبَيّنَ أن المعاملة معهم بالقسط والإنصاف صفةٌ يُحِبُّها المَوْلى -عزّ وجلّ- في عباده.

هذا هو التسامح القرآني الذي يعرفه المسلمون والذي يدعو إليه القرآن الكريم، والذي أبرزه المفسرون المسلمون على مدى التاريخ؛ ولهذا فإنّا نوَجِّه الدعوةَ إلى الأستاذ أنْ يَطّلع على هذه الآراء، ويُبرِزَ اختلافَ المفسرين في تفسير مثل هذه الآيات؛ حتى يَعرِضَ على مستمعيه الصورةَ كاملةً غيرَ منقوصةٍ أو مِن وِجهةِ نظَرٍ واحدة، كما نرجوه أن يكونَ أكثرَ موضوعيّةً، وهو ما قام به كثيرٌ من الأساتذة في هذا البرنامج أيضًا، وهو ما سنعرضه في مقالاتٍ لاحقة، إن شاء الله تعالى.

وحدة رصد اللغة الألمانية

طباعة