يرتبط المسجد الأقصى بوِجدان المسلمين ارتباطًا روحيًّا وثيقًا، زادت أواصره واستحكمت عُراه منذ حادثة الإسراء والمعراج، مرورًا بكونه القبلةَ الأولى التي توجَّه إليها النبي –صلى الله عليه وسلم– والمسلمون في صلاتهم ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا قبل أن يتم تحويل القبلة إلى الكعبة المشرفة.
وبنظرة إلى توقيت بناء المسجد الأقصى الضارب بجذوره في أعماق التاريخ، نجد حديث النبي –صلى الله عليه وسلم- لأبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- لما سأل النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله أيُّ مسجدٍ وُضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام»، قال: قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى»، قال: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنة، ثم أينما أدركت الصلاة بعدُ فصَلِّهْ، فإن الفضل فيه» [أخرجه البخاري].
وقد يُشكِل قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم- لما سئل : كم كان بينهما؟ فأجاب: «أربعون سنة»؛ لأن إبراهيم عليه السلام بنى المسجد الحرام وسليمان بنى بيت المقدس وبينهما أكثر من ألف سنة. والجواب عن هذا الإشكال: أن إبراهيم عليه السلام لم يكن أولَّ من بنى المسجد الحرام، ولم يكن سليمان عليه السلام أول من بنى المسجد الأقصى، والحديث لا يدل على أن سيدنا إبراهيم وسليمان لما بنيا المسجدين ابتدأ وضعهما لهما، وعليه فإن أول من بنى الكعبة هو أبونا آدم عليه السلام، ثم انتشر ولده في الأرض، فجائزٌ أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس، وأما إبراهيم وسليمان عليهما السلام فلم تَعْدُ مهمتهما حدَّ التجديد وإعادة البناء للمسجدين الشريفين؛ ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:127]، ومعلومٌ أن رفع القواعد لا يدل على إنشاء البناء، لكنه يدل على إعادة تجديده.
وأما الثاني: وهو كون سليمان عليه السلام أعاد بناء المسجد الأقصى دون إنشائه، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس، سأل الله ثلاثًا: حكمًا يُصادِف حُكمَه، وملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وألّا يأتيَ هذا المسجدَ أحدٌ لا يريد إلا الصلاة فيه إلّا خرج من ذنوبه كيومَ ولدته أمه» فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أما اثنتان فقد أُعطيهما، وأرجو أن يكون قد أُعطي الثالثة» [رواه النَّسائيّ].
وإذا كان إبراهيم هو الذي بنى المسجد الحرام فلا يمكن أن يكون سليمان هو أول من بنى الأقصى؛ لأن بين إبراهيم وسليمان قرون، ولا دليل في الحديث الشريف على أن سليمان عليه الصلاة والسلام هو أول من بنى المسجد الأقصى؛ وغاية ما فيه أنه لما بناه طلَب الله تعالى المسائل الثلاث؛ مما يدل على أنه بُني قبله ثم جدّده هو كما جدّد إبراهيمُ عليه السلام بناءَ البيت.
ويقع المسجد الأقصى في المدينة المباركة، مدينة بيت المقدس التي هي عاصمةٌ أبدية لدولة فلسطين العربية، تلك البقعة المباركة التي تحتل في قلوب العروبة والمسلمين مكانة عظيمة، حيث تهفو النفوس إلى ما فيها من مقدسات دينية وروحية، لها شأن عظيم عند الملايين لا سيما تلك الأمة المسلمة.
لقد جاء التنويه بمكانة بيت المقدس في الإسلام قرآنًا وسُنّة، وظهرت مكانة القدس في تَعَلُّق قلوب المسلمين بها، وحرصهم على مدار التاريخ أن ينقذوا بيت المقدس من كل يدٍ تعبث به، وتحاول أن تُخفيَ الحق الواضح الذي لا تشوبه شائبة.
وبمطالعة لصدر سورة الإسراء، نجد هذه اللمحة القرآنية التي تشير إلى المسجد الأقصى، على أنه من أهم المقدسات الإسلامية في مدينة بيت المقدس، وذلك في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1].
والمسجد الأقصى له صلةٌ وثيقة بحادثتين من الحوادث ذات الشأن في تاريخ الإسلام والمسلمين، وهما رحلتا الإسراء والمعراج، الأولى منهما رحلة أرضية كان المسجد الأقصى نهايتها، والثانية رحلة سماوية كان المسجد الأقصى بدايتها.
ولقد حظي هذا المسجد المبارك بعناية الله حيث جعل الله تبارك وتعالى البركة في أرجائه، تلوح في أرضه وسمائه؛ بركة دينية تتمثل في كونه أرض النبوات والشرائع والرسل ومُتَعَبَّد الأنبياء وقِبْلتهم، وبركة دنيوية تتمثل في طِيب الأرض وكثرة الأشجار والثمرات التي تنفع الناس.
وقد شاءت إرادة الله واقتضت حكمته أن يرتبط المسجد الأقصى ارتباطًا وثيقًا بتاريخ الإسلام وشعائره وأهم أحداثه ومقدساته، وفي رحلة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الأقصى مرَّ بالبقعة المباركة التي كلّم الله فيها موسى عليه السلام، وهي طور سيناء التي تضمّها أرض مصرَ الحبيبة، وصلّى فيها ركعتين، ومرَّ بالبقعة المباركة التي وُلد فيها عيسى -عليه السلام- وهي بيت لحم، وصلّى فيها ركعتين، ثم وصل إلى بيت المقدس واجتمع بالأنبياء وصلّى بهم جميعًا، ثم عُرج به إلى السماء فرأى من آيات ربه الكبرى ما شاء الله أن يرى.
ولما عاد النبي صلى الله عليه وسلم من هاتين الرحلتين إلى مكةَ المكرمة وأخبر الناس بالخبر؛ منهم من صدّق ومنهم من كذّب، غير أن صاحبه أبا بكر -رضي الله عنه- لم يتردّد لحظةً في تصديقه؛ وطلب أبو بكر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يَصِفَ لهم بيت المقدس؛ ليقيمَ عليهم الحُجَّة، لا سيما وفيهم مَن رآه، وأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يَصِفُ لهم بيتَ المقدس كما رآه، وأبو بكر يُصَدِّقه، ويقول: أشهد أنك رسول الله.