مُفارَقاتٌ طالبانية

  • | الإثنين, 17 سبتمبر, 2018
مُفارَقاتٌ طالبانية

     دائمًا ما تخرج علينا جماعات "القتل باسم الدين"، بكل ما هو غير مُتَوَقَّع  وغير مألوف _ بمعناه السلبي _ وبكل ما لا يتطابق مع الفطرة السليمة والعقل القويم، أو حتى مع المنطق و أَيْسَر معاني الإنسانية، وبين فترةٍ وأخرى تخرج علينا تلك الجماعات ببعض الأفكار أو الممارسات التي تثير الدهشة والحَيْرَة، والتي تجعل المتابِعَ لما يحدث يتوقّف عن الاندهاش، ويصبح لسان حاله: "إن كل ما قد يُقدِمون على فعله بات متوَقَّعًا".

بَطَلُ طُرْفَة الأسابيع والأشهر السابقة _ إن جاز التعبير _ جماعة طالبان أفغانستان.. التي لا تختلف كثيرًا عن شقيقاتها في منهجها الدموي، الساعي لسفك دماء كل من يخالفها في الفكر والعقيدة والقناعة، وحتى الشكل.

 طالبان الموجودة في دولة أفغانستان، والتي كانت أحد أبرز أسباب دمارِ جزءٍ لا يُستهان به من تلك البلاد العامرة بالحضارة والطبيعة الخَلّابة.

قَبِلَت طالبان تنفيذ هدنةٍ مؤقتة خلال عيد الفطر المبارك في يونيو الماضي (2018)، وأعلنوا أنهم في "صيام" عن قتل المدنيين والعسكريين الأفغان -على وجه الخصوص- طَوال أيام عيد الفطر المبارك، على أن تَستأنف مهمتها الدموية وهجماتِها الإرهابية ضد الأبرياء وعلى رأسهم رجال الشرطة والجيش، بعد انتهاء عيد الفطر مباشرة؛ وهو بالفعل ما قد حدث.

يمكن توصيف هذه الهدنة بـ"المفارقة"، والتي بَدا أنها تحمل شِقًّا دينيًّا وإنسانيًّا تتستّر طالبان خلفهما، وتحاول من خلالهما أن تُصَدِّر صورةً غيرَ حقيقية، سعتْ من خلالها إلى تأكيد أنها جماعةٌ تُراعي حرمة الدماء، ولا تقتل لمجرد القتل؛ بل إنها موجودةٌ لمحاربة أعداء الله، ممن هم في عَون الطواغيت _حسب زعمهم_ ورغم ذلك فهي تملك من الرحمة ما يجعلها تَكُفُّ حربها ضد خصومها؛ احتفالًا بأعياد المسلمين.

 الطريفُ: أن طالبان التي قبلت الهدنة طَوال أيام عيد الفطر المبارك؛ رفضت تمديدها لأيّامٍ بعده، والأكثر طُرْفَةً؛ أنها رفضتْ هدنةً مُماثِلَةً خلال أيام عيد الأضحى المبارك!

هنا تَتَجَلّى المفارقة بكل معانيها؛ فالحركة -أو الجماعة- التي تَدَّعِي أنها تسعى لتطبيق شرع الله، وأن كل الدماء التي تسفكها دون وجهِ حَقٍّ لابُدَّ منها؛ لأنها الطريق المؤدّي إلى الجنة، تَضرِب بكل القيَم الإسلامية عُرْضَ الحائط، وتُظهِر بما لا يَدَعُ مجالًا للشك مدى تناقضها واستغلالها للدين، ولعبها على وتر العاطفة الدينية، ومحاولة إيهام الآخرين بأنها الجماعةُ الأكثرُ إنسانيّةً؛ والدليل: أنها رفضتْ وجودَ هدنةٍ لكَفّ الأذى عن الآخرين خلال أيام عيد الأضحى المبارك، رغم أن أيامه تأتي في "شهر ذي الحجة"، أحد الأشهر الحُرُم؛ الأشهر التي حَرَّمَ فيها اللهُ القتال، وغُلِّظَتْ فيها دِيَةُ القتل.

هذا التناقض ليس بغريبٍ على جماعاتٍ اعتادت المتاجرة باسم الدين، غير أن خطورته الحقيقية تكمن في مدى انخداع بعض من شبابنا ممن لا يملك ثقافةً ووعيًا دينيًّا كافيًا، يؤهِّلانه لكشف زيف طالبان وأخواتها، كما أنه بمثابة نقطة الضعف لدى كثيرٍ ممن لا يُحَبِّذُ الحديثَ في السياسة، أو لا يعرف عنها الكثير، خاصّةً وأن هؤلاء لا يعلمون –غالبًا- أن السبب وراء هذا الرفض "سياسيٌّ بَحْتٌ"؛ فطالبان قبلت الهدنة في عيد الفطر ولم تقبلها في عيد الأضحى، بسبب تَزايُد حِدَّة ضرباتها الموَجَّهة للدولة الأفغانية، وسيطرة بعض عناصرها على عددٍ من المناطق الحيوية في بعض الولايات الأفغانية، وعلى رأسها: ولاية "غزني"، التي لا تبعد كثيرًا عن العاصمة الأفغانية "كابول"، وتَمَكُّن تلك الحركة خلال الأسابيع الماضية من شَنّ هجماتٍ متتالية على قوات الأمن الأفغاني؛ لدرجة أنها نجحت -للأسف الشديد- وحَسَبَ الأنباء التي تَرِدُ من أفغانستان، في إلحاق خسائرَ ليست بالقليلة ضد القوات الحكومية، وضد السكان المحليين، وتَسبّبت في فرارهم خارج حدود قراهم ومدنهم؛ للنجاة بأرواحهم.

 هذا فضلًا عن تَزايُد الوجود الداعشيّ يومًا بعد يومٍ في أفغانستان، ووقوع اشتباكاتٍ عنيفة بين عناصر داعش وعناصر طالبان، في بعض المناطق التي تشهد وجودًا طالبانيًّا كثيفًا منذ فترة؛ وهذا في حَدّ ذاته سببٌ رئيسٌ في رفض الحركةِ قَبولَ هذه الهدنة؛ خوفًا على مناطق نفوذها وسيطرتها ضد التوغُّل الداعشي.

إن طالبان رغم أنها قد أثبتت مرارًا أنها، وغيرها من الجماعات الدموية، لا تُمَثِّل الدينَ؛ فإن موقفها الأخير يكفي لكي يكون سببًا في انقِشاع الغَيْمَة عن أَعْيُن الكثير من المنخدعين بمثل تلك الجماعات، خاصّةً وأن النصوص الدينية واضحةٌ وصريحةٌ في هذا الأمر؛ قال تعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ  شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36]، وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [سورة البقرة: 217]؛ فالآياتُ القرآنية تُقَرِّرُ رؤيةَ الإسلام لحكم القتال في الأشهر الحرم؛ وهو التحريم.

 وبالعودة إلى التراث العربي؛ نجد أن العرب قبل الإسلام كانوا يُحَرِّمون القتالَ في هذه الأشهر ويُعَظِّمونها ويُقَدِّسونها، لكنهم إذا أرادوا المغانم والمكاسب من الحروب تَلاعبوا في ترتيب الشهور وتحايلوا؛ ليتمكّنوا من القتل والسرقة في الأشهر الحرم، فلمّا جاء الإسلام أنزل الله في كتابه الكريم ما يؤكّد حُرْمَة وقُدسيّة هذه الأشهر؛ فلا يجوز فيها القتال إلا أن يكون دفاعًا أو رَدًّا على هجومٍ لابُدَّ من رَدِّه.

وممّا لا شَكَّ فيه: أن ما تقترفه أيدي طالبان لا يُعَدُّ دفاعًا ولا ردًّا لعُدْوان؛ بل هو العُدْوانُ ذاتُهُ، والتمتُّع بالسَّير على أَشْلاء ودماء الأبرياء؛ لتحقيق أهدافٍ ومصالحَ وأجنداتٍ خاصّة، هدفُها استغلالُ الدين من أجل تشويهه.

وحدة رصد اللغة الأردية

 

طباعة