مسيرة السلام بيروجا - أسيزي 2018

  • | الثلاثاء, 23 أكتوبر, 2018
مسيرة السلام بيروجا - أسيزي 2018

     السلام؛ الأمل الذي تهفو إليه قلوب بني البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأعمارهم، الحلم الذي يحلم به الآباء ويسعون إليه لا من أجل ذاتهم وحدهم، وإنما من أجل تلك الأجيال التي سوف تأتي من بعدهم. السلام الذي هو ضد العنف ويتمثل في كل مظاهر المحبة والخير والتسامح مع الجميع، بروح ملؤها التعايش والأمل في عالم أفضل ينأى بأبنائه عن الصراعات والحروب وأنهار الدماء، وينتقل بهم إلى أرض جديدة تزدهر فيها ورود بيضاء تفوح منها رائحة الشذىي ، وترفرف فوقها حمائم السلام، فتصفوا بذلك سرائرهم وتتجلى مظاهر إبداعهم التي هي هبة من الله الخالق؛ إذ أنه كلما كانت الروح تنعم بالأمان والطمأنينة كانت ثمار ذلك إبداعًا ورقيًّا وحفظًا لكرامة كل كائن تجري فيه حياة.

ولأهمية السلام بين الناس دعت الأديان السماوية إلى العمل على إرساء مبادئه بين الجميع على السواء، وباركت آياتها تلك الخطوات التي يخطوها دُعاة السلام، فيذكر (إنجيل متى 5: 9) "طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ" ويذكر القرآن الكريم قول الله تعالي "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" (يونس 25). وقول الله تعالى في أمر إلهى موجه إلى البشرية جمعاء "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا...". (البقرة 83).

إنه لمن غير المُجدي أن يكون لدينا في واقعنا المعاصر الكثير من الثروات والموارد والمعارف والمؤسسات أكثر بكثير من أي وقت مضى، ومع ذلك يسمح البعض يومًا بعد يوم بارتفاع مُعدلات انعدام المساواة والمعاناة والنزاعات والبطالة، وانعدام أمن ملايين البشر. ومن المفارقات أننا بنو الإنسان لا نجد المال لتأمين وظيفة للجميع، لكننا مستمرون في الإنفاق على تصنيع وشراء الأسلحة، وزيادة أعداد الجيوش وشن الحروب التي لا نهاية لها.

إن الإنجازات العديدة التي حققناها في العديد من المجالات في وقتنا الحاضر تفتح أمامنا آفاقًا شاسعة، والتي من شأنها أن تحسن ظروف حياة كل فرد، وأن تحل السلام في الأماكن التي لم يتحقق فيها بعد. ومع ذلك، فإننا نخاطر بأن نغرق في العديد من المشاكل التي تسببنا بها ولم نتمكن بعد من حلها: فمن حالة الفقر التي يعاني منها ملايين من البشر إلى التغير المناخي، ومن الحروب إلى الهجرة.

على الرغم من أن الفقر المُدقع الذي يعيشه العالم اليوم هو ثلث ما كان عليه في عام 1990، إلا أن ما يصل الى نحو 11% من سكان العالم لايزالون يعيشون تحت خط الفقر خلال العام الجاري 2018، بحسب ما كشف عنه مسؤولون دوليون، موضحين أن عددًا مِنْ الأشخاص لا يزالون يموتون حتى يومنا هذا بسبب أمراض يمكن شفاؤها أو منعها، وأن مِنْ الأطفال مَنْ لا يزالون غير قادرين على تلقي تعليم جيد، وأن العديد من النساء والفتيات لا يزلن مستبعدات أو مضطهدات، ضحايا للعنف والاستغلال.  

وفي بيان صدر حديثًا عن الأمم المتحدة والهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (Ipcc)، أوضح المسؤولون أن هناك حاجة لإجراء تغييرات عاجلة وغير مسبوقة للوصول إلى الهدف المنشود، وهو الحفاظ على درجة الحرارة بين 1.5 بدلاً من 2 درجة مئوية، وأن أمامنا 10 سنوات فقط للحد من ارتفاع درجة الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية. إذ أنه من المرجح أن ترتفع درجات حرارة الجو 1.5 درجة مئوية بين عامي 2030 و2052 في حال استمرت ظاهرة الاحتباس الحراري بوتيرتها الحالية، وإذا تقاعس العالم عن اتخاذ إجراءات سريعة وغير مسبوقة لوقف هذه الزيادة.

وقد شدد الخبراء على ضرورة أن يباشر العالم تحولات «سريعة وغير مسبوقة» إذا أراد حصر الاحترار بدرجة ونصف الدرجة المئوية، محذرين من المخاطر المتزايدة حال تجاوز هذا المستوى.

وعلى هامش قضية المهاجرين التي بات تُقلق العالم إن لم تكن تؤلمه، فقد أظهرت دراسة جديدة لمعهد الدراسات السياسة الدولية (ISPI) الإيطالي، أن مُعدل الوافيات في البحر المتوسط لم يكن مرتفعًا أبدًا بهذا الشكل؛ ففي سبتمبر من عام 2018 بلغت نسبة الموتى أو المفقودين 20٪ من مجموع أولئك الذين غادروا ليبيا. ووفقًا للباحث ماتيو فيلاMatteo Villa، الباحث بالمعهد ذاته، فإن 10٪ فقط من المهاجرين الذين غادروا ليبيا في سبتمبر الماضي تمكنوا من الوصول إلى أوروبا سالمين معافين، في حين تم اعتراض 70٪ منهم مِنْ قِبل زوارق الدوريات الليبية حيث تم اعادتهم صوب ليبيا. وتُحدِثُنا الأرقام منذ يناير 2014 وحتى اليوم عن 17 ألف قتيل أو مفقود في البحر الأبيض المتوسط، وعلى الرغم من حدوث انخفاض في العامين الماضيين في عدد المهاجرين الذين هبطوا في سواحل أوروبية مقارنة بالسنوات السابقة إلا أن معدل الوفيات قد ارتفع.

في خضم هذه الأحداث التي تتزايد وتيرتها بسرعة بالغة تتعرض بعض أهم الإنجازات البشرية المعاصرة لخطر انهيارها أو إبطالها تدريجيًّا مثل؛ عالمية حقوق الإنسان، والحق في الكرامة، ومبدأ المساواة والعدالة، والديمقراطية. ففي كل يوم، يتم إنكار هذه الحقوق والمبادئ، وفي ظل الإفلات التام من العقاب، ترتكب جرائم جسيمة، مرئية وغير مرئية أمام أنظار المجتمع الدولي بأطيافه كافة، وعليه استسلم الكثير من الناس إلى الخوف وعدم الأمن، وإلى عدم الثقة والتنازلات، عن طريق تبني مواقف جدية من العزلة واللامبالاة والخوف.

وعلى عكس ما يقوم به مروجو الكراهية، نحن نعلم أن الأشخاص هم من يصنعون التاريخ، وأن التغيير الذي نحلم به، والسلام الذي نرغب به لأنفسنا ولأحبائنا وللإنسانية جمعاء لا يعتمد فقط على القرارات العظيمة، ولكن أيضًا على جميع الإجراءات والفعاليات الصغيرة والصغيرة جدًّا، التي يتم تنفيذها يوميًّا من الجميع وفي أمكان كثيرة متنوعة.

 ولأهمية السلام الحثيثة في واقعنا المعاصر، إذ إنه الباعث على انتشار روح المحبة والتسامح والأخوة والتعارف بين جميع الأطياف والأعمار، أحْيَت مدينتا بيروجا وأسيزي الإيطاليتان في 7 أكتوبر من العام الجاري 2018 مسيرة من أجل السلام، وهو الحدث الذي تُجرى فعالياته كل عامين مع نهاية شهر سبتمبر وبداية شهر أكتوبر، حيث يقطع المشاركون في تلك المسيرة مسافة 24 كم تقريبًا، بدايةً من مدينة بيروجا ونهايةً بمدينة أسيزي. وقد نُظمت أول مسيرة سلام بين بيروجا وأسيزي في 24/09/1961، بمبادرة من الداعية للسلام ألدو كابيتيني (Aldo Capitini 1899-1968) بهدف التعبير عن محبته للسلام والأخوة بين الشعوب، وقد اسُتخدم حينها علم السلام لأول مرة، وهو رمز للمعارضة (اللا عنفية) السلمية لجميع ألوان الحروب. ووفقًا لكابيتيني "المسالمة واللا عنف لا يعنيان الجمود والتسليم السلبي للشرور القائمة، ولكنهما فاعلان وفي نضال بطريقتهما الخاصة".

Image


تحت شعار "الأخوة" وزخات المطر اجتمع ما يقرب من 100 ألف مشارك، من بينهم 10 آلاف طالب جاءوا من كل جزء في إيطاليا، ومئات من الجمعيات والإدارات المحلية، إضافة إلى متطوعين ومشاركين من جميع أنحاء العالم. كانت المسيرة ملونة بتعدد المشاركين فيها وبتعدد اللافتات المرفوعة، وسادت عليها روح الاحتفال والبهجة. وقد شارك في المسيرة سياسيون أبرزهم رئيس إقليم أومبريا، كاتيوشيا ماريني، والعديد من الجمعيات من بينها: جمعية طاولة السلام، جمعية التنسيق الوطنية للسلطات المحلية من أجل السلام وحقوق الإنسان، وقد شارك فيها أيضًا أبناء الجالية العربية الإسلامية رافعين شعار "معًا دون حواجز".

Image

وقد علت اللافتات المرفوعة كلمات وأبيات، تطالب بعالم يسوده السلام ويُرَحب باستقبال الآخرين، فعلى سبيل المثال حمل مجموعة من الشباب لافتةً مرسومًا عليها بوصلة وأربع نقاط رئيسة "الحرية والكرامة والمساواة والحقوق"، إضافة إلى العديد من رسائل التضامن مع ميمو لوكانو عمدة رياتشي في مقاطعة ريدجو كالابريا بإيطاليا، الذي وضع قيد الإقامة الجبرية بتهمة تسهيل الهجرة غير الشرعية على حد زعمهم.

وجاء البيان الختامي لهذا اليوم في شكل دعوة من المنظمين للترحيب بالآخر وبأن "لا نترك أحدًا بمفرده"، "نحن نقول كفى للفردية والتباري اللتين تمنعان من الاستجابة للاحتياجات الأساسية للناس، نحن نحرص على الجميع، دون تمييز، بدءً من الأكثر ضعفًا، نضع في مركز أمتنا، وفي مركز مجتمعنا، الناس، كل الناس، كرامتهم وحقوقهم الإنسانية الأساسية، نحن نبني حاجزًا أمام العنف المنتشر والعنصرية والتمييز والتنمر والكراهية، نؤكد ونعزز الواجب الإنساني لضمان كرامة واحترام كل شخص، ونؤكد من جديد على المبدأ العالمي للمساواة والعدالة، وواجبنا في حماية جميع المهددين بالعنف والحروب والاضطهاد والاستغلال والانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان في كل مكان!".

وكي نواجه المشاكل والتهديدات التي تقف عقبة أمامنا، يجب علينا تعزيز هذا التيار الإيجابي، وإخراجه في جميع الميادين وعلى جميع المستويات، وتوسيع نطاقه من خلال وضع التزامنا الشخصي في خدمة الآخرين والبشرية، كل حسب إمكانياتهم ومسؤولياتهم. علينا أن نُعلي من ثقافة السلام والتسامح بين الجميع، أن نبث في صغارنا روح الأمل والتحاب مع كل مكونات كوننا وعالمنا الذي نحيا فيه، نعم لكل حلم صغير يدعم المحبة والتسامح، نعم لكل نشاط مدرسي يعرفنا بالآخر ويقربنا منه. علينا ألَّا نكف أبدًا عن الأمل في العيش في سلام، أن نرفع الصلوات والدعوات إلى الله العلي القدير أن يعمنا بالسلام وأن يحينا ربنا بالسلام.

وحدة الرصد باللغة الإيطالية
 

 

طباعة