حتى لا يستقطبوهم

"2" دَور الفن في مكافحة التطرف

  • | السبت, 3 نوفمبر, 2018
حتى لا يستقطبوهم

     أثبت العاملون والباحثون في مجال الجماعات المتطرفة أن 75% من الشباب الذين كانوا يذهبون إلى سوريا والعراق في الفترة من 2014 حتى 2017؛ لينضمّوا إلى التنظيمات الإرهابية، كانوا ينضمون إلى تنظيم داعش الإرهابي، مقابل 25% كانوا ينضمون إلى الجماعات الإرهابية الأخرى.
 والسبب الرئيسُ في ذلك؛ وَفقًا لهؤلاء الباحثين: هو قوّة الآلة الإعلامية لتنظيم داعش في تلك الفترة، مُقارَنةً بالتنظيمات الإرهابية الأخرى، حيث استطاع التنظيم من خلال خطابه الإعلامي الموَجَّه في المقام الأول إلى الشباب، من تحفيزهم واستقطابهم، مُخاطِبًا كلَّ فئةٍ شبابيّةٍ بما تحب، فأَغْرَوْا الشبابَ الطموح المُحِبَّ للزعامة والقيادة، وأقنعوهم كذبًا بأنهم بعد الانضمام إليهم سيشاركون في كتابة تاريخٍ جديد للعالم، وتغيير خريطته؛ فانخدعتْ طائفةٌ من الشباب وذهبت إليهم من أجل تحقيق هذا الهدف، كما خاطبوا الشبابَ المتدين بأنهم "داعش" يعيشون دينَ الإسلامِ في دولتهم المزعومة، ويُطَبِّقون الحدودَ، ولديهم خليفةٌ، وانخدعت بالفعل طائفةٌ أخرى وانضمت إليهم من أجل هذا الهدف، ثم قام التنظيم الإرهابي بصَهْر جميع هؤلاء في بَوتقةٍ واحدة، وغذوهم بالأفكار المتطرفة الدموية، التي تُكَفِّر الحكوماتِ، وتُفَسِّق العلماءَ، وتُحَرِّم العمليةَ الديمقراطية؛ من انتخاباتٍ واستفتاءات، وتدعو إلى قتْل كلِّ مَن يُشارِك فيها، وتدعو الشبابَ إلى الهجرةِ إلى ما كان يُسَمَّى بأرض الخلافة التي تُصان فيها الحُرُمات، ويُطَبَّق فيها شرعُ الله -على حَدّ قَولهم- وخدعوهم كذبًا بأنهم سيدخلون الجنة إذا ما فعلوا ما يطلبه التنظيم، وسيدخلون النار إذا لم يفعلوه.
فإذا كانت الآلة الإعلامية والفنون المرئية هى السبب الرئيسُ الذي يُمَيِّز جماعةً إرهابية عن أخرى في استقطاب الشباب وإقناعهم بفكرهم المتطرف، فإننا أيضًا يمكن أن نحاربهم بالآلة الإعلامية والفنون المرئية التي من خلالها سنقوم بتوعية الشباب ونقنعهم بالفكر المعتدل،  وممّا يؤسَف له: أنه في الوقت الذي يقوم فيه بعض الفنانين بأعمالٍ هابطة لا تَهدِف سوى تحقيق الربح، فإن الجماعات الإرهابية والمتطرفة قد فَطنت إلى أهمية الفن ودَوره، وخُصوصًا الفنونَ المرئية وقدرتها على التأثير والجذب، فقامت هذه الجماعات ببَثّ العديد من المَقاطِع المُصَوَّرة "الفيديوهات"، التي في أغلبها تأخذ شكل الأفلام التسجيلية، والأُنشودات الغنائية، مُستخدِمةً في ذلك أعلى التقنيات والتكنولوجيا الحديثة والإخراجَ عاليَ المستوى، الذي يجعل مَن يُشاهدها على الأقل يُعجَب بها، وقد يتطوّر الأمر ويتابعها إصدارًا وراءَ إصدار، بل بلغ قُبح هذه الجماعات وخبثها أنها تعترف بالجرائم التي ترتكبها في تسجيلاتٍ مرئية، تَسوق فيها الأسبابَ والذرائع التي دفعتها إلى ارتكاب هذه الجرائم بصورةٍ فنيةٍ وإخراجٍ مؤثّر، يُصَوِّرهم وكأنهم ضحايا ومظلومون؛ الأمر الذي يجعل البعضَ وخصوصًا مَن حُرِموا الثقافةَ الدينية يتعاطف معهم ويلتمس العذر لهم، ثم رُوَيْدًا رُوَيْدًا يتحوّل هذا التعاطفُ إلى كارثةٍ كبرى. و"الذئاب المنفردة" خيرُ دليلٍ على ذلك، فهم أشخاصٌ لا تربطهم بالتنظيمات الإرهابية أيُّ عَلاقةٍ تنظيمية من قريبٍ أو بعيد، ومع ذلك يقومون بتنفيذ أعمال إجرامية بالرغم من بساطتها وسهولة تنفيذها إلا أنها تثير الرعبَ في المجتمعات، مثل: حَوادث الطعن والدهس.
 والسبب الرئيسُ في تَحَوُّل هؤلاء الأفراد إلى "ذئابٍ منفردة" هو تَشَبُّعهم بالإصدارات المرئية لهذه الجماعات الخبيثة التي تقلب الحقَّ إلى باطلٍ، والباطلَ إلى حَقٍّ، ولقد رصدنا العديدَ من حالات الشباب الذين تأثّروا بما تَبُثّه الجماعاتُ الإرهابية من إصدارات فنية؛ فمنهم من وَقَفَ مع نفسه وعاد إلى رُشده مرّةً أخرى، ومنهم من أعرض عنها مَخافةَ أن يزداد تعلُّقه بها، ومنهم للأسف الشديد من انضم إلى التنظيمات الإرهابية بسبب هذه الإصدارات، بل العجيب أن أخَوين انجليزيين شاهدَا إصداراتٍ لتنظيم داعش، وتأثّر كلاهما بها تأثُّرًا شديدًا، وانضمّ أحدُهما إلى التنظيم في سوريا، ووَقَفَ الآخَرُ مع نفسه، واستطاع كَبْحَ جِماحها وأعرض عن مشاهدتها.
فإذا كانت هذه التنظيمات تستطيع أن تستغلَّ الفنَّ هذا الاستغلالَ وهي على باطل، فما بالك لو استغل فنانونا الفنَّ استغلالًا جَيّدًا في توعية المجتمعات ومحاربة الفكر المتطرف، وهم على حق؟ خصوصًا في عصرنا الحاليّ الذي قَلّتْ فيه القراءة، وكثرت فيه المشاهدة، فكما أن الخبر المرئيّ أكثرُ تأثيرًا من الخبر المكتوب، ويستهدفُ قاعدةً أكبرَ؛ فإن العمل الفنيّ المَرئيّ أكثرُ تأثيرًا من المقال أو الخطاب أو حتّى الكتاب، ويستطيع الوصولَ إلى عددٍ كبير من الناس لا يستطيع الكتابُ الوصول إليه؛ لذلك يجب على الفنانين أن يلعبوا دَورًا أكبرَ في محاربة التطرف ممّا يلعبونه الآنَ، وخصوصًا في الأعمال الدرامية التي تدخل البيوتَ وتشاهدها العائلات. فالدراما تستطيع أن تلعب دَورًا تَوعَويًّا كبيرًا في قضايا التطرف والإرهاب؛ إذا تمّ استغلالُها الاستغلالَ الأمثل، عن طريق كتابة نصوص درامية تَسمو بالإنسان، وتُهَذِّب الوِجدان، وتزيد وعي الشباب، وتغرس الوطنية والانتماء في قلوبهم، وتُعَمِّق ثقافة السلام والحوار وتَقَبُّل التعددية والاختلاف في إطارٍ من التسامح، وتَكبح جِماح العنفِ والإرهاب والتوَحُّش، وتُحارب الفكر المتطرف، ويُستشارُ في هذه النصوص الدرامية علماءُ نفْسٍ واجتماع، ومُتخصّصون في الجماعات المتطرفة؛ لأن المؤلف إذا أراد أن يتعرض للجماعات المتطرفة قد يكتب مسلسلًا أو فيلمًا لمحاربة فكرةٍ متطرفة لدى جماعةٍ بعينها، لكنه نظرًا لعدم تخصصه في جماعات التطرف قد يُفَنِّد فِكرَ الجماعة التي يحاربها، لكنه في الوقت ذاتِه -ودون أن يدري- قد يؤكّد ويدعم فكر جماعةٍ متطرفة أخرى، وكلنا يعلم أن الجماعاتِ المتطرفةَ بينها اختلافاتٌ كثيرة وكبيرة، تجعلها تنشقّ عن بعضها البعض، ويدسّون الجواسيسَ بين بعضهم وبعض، بل ويقاتل بعضُهم بعضًا.
كذلك قد يكتب المؤلف نصًّا بهدف محاربة الفكر المتطرف والإرهاب، لكنه دون أن يدري قد يُشَجِّع فئةً شبابية بعينها على التطرف؛ لذلك إذا أراد كاتبٌ التعرُّض لمثل هذه النصوص، فعليه أن يتجنّب طريقة بعض المؤلفين الذين يُصَوِّرون تاجر المخدرات أو المجرمَ بصفةٍ عامّة على أنه شخصٌ غنيّ، يعيش في أفخمِ البيوت، ويركب أحدثَ السيارات، داهية في التفكير، ومُنَظِّر لديه قدراتٌ هائلة على إقناع الغير، ولديه ذكاء خارق في خداع الشرطة والهروب منها، إضافة إلى براعته في صنع المتفجرات واستخدام السلاح، وكذلك يجب تَجَنُّب إلقاء أسباب الانجراف إلى طريق العنف والإجرام على ظروف وأسباب ليس للمجرم فيها يَدٌ، وإظهار المجرم أو المتطرف وكأنه دُفِعَ إلى هذا الطريق دفعًا، هذا الأمر يجعلُ بعضَ المشاهدين دون أن يَدروا يتعاطفون مع هذا المتطرف، بل وربما يلتمسون له العذر، كما أن هذا الأمر خطير للغاية في التشجيع على التطرف خصوصًا عند المراهقين، ومحدودي الثقافة الدينية الذين تَستهويهم المغامراتُ، ولقد رصدنا الكثيرَ من الحالات التي كان حُبُّ المغامرة عندهم هو الدافع الأساسيّ لانضمامهم إلى التنظيمات الإرهابية؛ لذلك فإنّ دَور علماء النفس والاجتماع والمتخصّصين في الجماعات الإرهابية مُهِمٌّ للغاية في الأعمال الدرامية والفنية التي تدخل البيوت، ولا نقصد بذلك الحَجْر على الكاتب والمبدع أو فرض الوصاية عليهما، لكننا في الوقت ذاتِه نرى أن يكون دَور العلماء استشاريًّا وتَكامُليًّا مع مؤلّف النَّصّ، هدفه المساعدة في إيجاد العلاج الأمثلِ للمشكلة، وتوعية الشباب بخطرها، خصوصًا في هذه المرحلة الحَرِجة من عُمر العالَم.
كذلك أيضًا يمكن أن تلعب الدراما وغيرُها من الفنون دَورًا مُهِمًّا في قضايا المجتمع السائدة، وعلى رأسها: القضايا الداخلية مثل: قضية الحفاظ على المال العامّ، وتعريف الناسِ حُرْمَةَ التعدّي عليه، وأن إتلافه أو عدم الحفاظ عليه أشدُّ بكثيرٍ من إتلاف المال الخاصّ المتعلّق بفردٍ واحدٍ.
 كذلك: قضايا الحفاظ على الكهرباء والمياه والغاز الطبيعي والمواد التموينية المدعمة، وغيرها من الخِدمات التي تبذل الدولة جهودًا مُضنية من أجل إيصالها إلى المستحقين، وأيضًا: مشاكل النظافة والحفاظ على جمال الأماكن العامّة والطُّرُق والشَّوارع وعدم إلقاء القمامة فيها، والأخلاقيات العامّة في المواصلات مثل: الحفاظ على المَقاعِد والنَّوافذ والأبواب والقيام لكبار السِّنّ وأصحاب الحالات الخاصّة، وكذلك القضايا الكبرى مثل: الوَحدة الوطنية وتَقَبُّل الآخَر وإحياء ذكرى الأبطال التاريخيين الذين ينبغي على الشباب معرفةُ سيرتهم والاقتداء بهم، والحديث عمّا حقّقوه من أجل وطنهم وما قدّموه من تضحياتٍ من أجل حريته ووصوله إلى ما هو عليه من أمنٍ واستقرار، فلا شَكَّ أن تجسيد هذه القيَم الأخلاقية في أعمالٍ درامية ومسرحية سيساعد على غرْس الانتماء لدى أفراد المجتمع، وسيُعَزِّز حُبَّهم لأوطانهم، الأمر الذي سيجعلهم يخافون ويحافظون عليها بكل ما أوتوا من قوة، فالفرد الذي تَرَبّى على الحفاظ على مقعد الحافلة والاهتمام بإصلاحه؛ مستحيلٌ أن يُفَجِّرَ الحافلةَ أو يعتديَ على ركابها، والطفل الذي تَرَبّى على زرْع الأشجار وغرْس الأزهار والحفاظ عليها وتَعَهُّدها بالماء؛ مستحيلٌ أن يهدم الحديقة، والشخص الذي تَرَبّى على حُبّ الوطن لا يَعتدي على أفراده أو مبانيه، كلّ هذه القضايا والقيَم يُمكِن للفنِّ وأهلِه أن يلعبوا دَورًا كبيرًا في غرسها في نفوس أفراد المجتمع بسهولةٍ ويُسر، ويمكن أن يُحَقِّقوا في ذلك نتيجةً بشكلٍ سريع؛ لأن الأعمال الدرامية والفنية تدخل جميع البيوت، وتشاهدها تقريبًا جميعُ الأُسر.    
كذلك أيضًا: يمكن غرْس بذور التسامح وتَقَبُّل الآخَر وحُبّ الإنسانية وغيرها من القيَم الدينية والأخلاقية في نفوس الأطفال في مرحلة الروضة، أو مرحلة ما قبل المدرسة؛ عن طريق استغلال بعض الفنون التي يُحبّها الأطفال من أُنشوداتٍ وأفلام كارتون، خصوصًا مع انتشار برامج وقَنَوات الأطفال، ومتابعة الملايين منهم لها، وهذا الأمر سيكون له تأثيرٌ إيجابيّ في مكافحة التطرف؛ لأننا بهذه الصورة نغرس القيَمَ الحميدة في نفوس أطفالنا في مرحلة اللّاوَعي الطفولي، التي ستبني المدرسةُ عليها بعد ذلك.
خُلاصةُ القَول: أنّ مكافحة الفكر المتطرف تُمَثِّل إشكاليّةً مُعَقَّدَةً، تَتَداخل فيها عِدّةُ أبعاد، وليست مقصورةً على المعالجة العسكرية فقط، بل يجب أن تلعب الثقافة والإبداع والفَنّ الهادف أدْوارها المُهِمّة في هذه القضية، والذي لو تمّ استغلالُه الاستغلالَ الأَمثلَ فيها؛ لحَقّقَ نَتائجَ عظيمةً وسريعة.
 
 وحدة رصد اللغة التركية

 

طباعة